فالفتنة إذن إنما كانت عربية، نشأت من تزاحم الأغنياء على الغنى والسلطان، ومن حسد العامة العربية لهؤلاء الأغنياء. ولم يكد نظام عثمان هذا يذاع ويسرع الأغنياء إلى الانتفاع به؛ حتى ظهر الشر، وظهر في الكوفة قبل أن يظهر في أي مصر آخر، وظهر في مجلس سعيد بن العاص نفسه. وقد كان ذلك سنة ثلاث وثلاثين. فقد كان سعيد، كما قدمنا، تخير وجوه الناس وقراءهم وذوي الصلاح منهم ليدخلوا عليه إذا لم يجلس للعامة، وليسمروا عنده إذا كان الليل. فقال ذات يوم أو ذات ليلة: إنما السواد - سواد الكوفة - بستان لقريش. فتغاضب القوم، وكانت كثرتهم من اليمانية، وردوا عليه في ذلك ردا غليظا، وقالوا له: إنما السواد فيء أفاءه الله علينا، وما نصيب قريش منه إلا كنصيب غيرها من المسلمين. وغضب صاحب شرطة سعيد؛ لأن القوم ردوا على الأمير ردا غليظا، فزجرهم، فقاموا إليه فضربوه حتى أغمي عليه. فقطع سعيد سمره واحتجب عن هؤلاء الناس، فلزموا مجالسهم وأنديتهم، وأطلقوا ألسنتهم في سعيد وفي عثمان وفي قريش، وتسامع الناس بهم واجتمع بعض الناس إليهم. فكتب سعيد إلى عثمان ينبئه بأمرهم، ويذكر أنه يخافهم أن يفتنوا الناس. فأجابه عثمان أن يسيرهم إلى الشام، وكتب إلى معاوية يأمره بلقائهم واستصلاحهم. وزعم رواة آخرون أن سعيدا جلس للناس وحضر مجلسه هؤلاء النفر من الوجوه والقراء، فتحدث الناس في جود طلحة بن عبيد الله، فقال سعيد: من كان له ثراء طلحة ومثل ما يملك من الأرض خليق أن يكون جرادا، ولو كان لي مثل ما لطلحة لأعشتكم في رغد. فقال غلام مضري من بني أسد: وددت لو كانت للأمير أرض كذا على الفرات - وكانت هذه الأرض ملكا للدولة، فكانت إذن من فيء المسلمين - فغضب هؤلاء النفر وزجروا الغلام وتقاول الناس، فقام هؤلاء النفر إلى الغلام فضربوه وضربوا أباه حتى أغمي عليهما، فغضبت لذلك بنو أسد، وحاول سعيد أن يرد الأمر إلى العافية فلم يفلح. وألح عليه أهل الكوفة في أن يخرج هؤلاء الناس، فأخرجهم بأمر عثمان إلى الشام.
والشيء المهم هو أن سعيدا قد نفى هؤلاء الناس عن أرضهم. ولست أدري إلى أي حد يجوز للأمير أن ينفي المسلمين من أرضهم سواء كان هذا النفي من عند نفسه أو بأمر من الخليفة. فإخراج المسلمين عن أرضهم إنما يجوز إذا قامت البينة عليهم بأنهم حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، فهنالك يجوز للإمام أن يقتلهم أو يصلبهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفيهم من الأرض.
ولم تقم بينة على أن هؤلاء الناس من القراء والصالحين وأصحاب البلاء في الفتح، قد حاربوا الله ورسوله أو سعوا في الأرض فسادا؛ فهم لم يخلعوا يدا من طاعة، ولم ينكروا سلطان عثمان ولا سلطان واليه عليهم، وإنما كانوا يشهدون الصلاة مع هذا الأمير ويؤدون ما عليهم من الحق. وكل ما يمكن أن يأخذوا به هو أنهم نقدوا سيرة الأمير أو بعض قوله، وتجاوزوا حدهم، فضربوا ذاك الغلام أو ضربوا صاحب شرطة الأمير. فأما نقدهم أعمال الأمير وأقواله فحق لهم لا ينازعهم فيه منازع، وكان الشيخان يطلبانه إلى الناس قبل عثمان، فما ينبغي أن يعاقبوا عليه. وأما ضربهم الغلام أو صاحب الشرطة فاعتداء يمكن أن يعاقبوا عليه بأيسر التعزير، باللوم أو بالسجن أو بإقصاص الرجلين منهم، فأما نفيهم من الأرض فأمر عظيم. وقد قال قائلون في العصر القديم: إن عمر قد نفى من المدينة نصر بن حجاج حين خاف منه الفتنة على النساء، فجائز لعثمان أو لعامله أن ينفي هؤلاء النفر من الكوفة حين خاف منهم الفتنة على المسلمين. ولكن نفي نصر بن حجاج لم يكن نفيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، لم يكن عقوبة. فنصر بن حجاج لم يقترف إثما، ولم يمنح قده ما منحه الله من الاعتدال، ولم يسبغ على وجهه ما أسبغ الله من جمال، ولم يغر النساء بأن يتبعنه ويفتن به. وما أرى إلا أن عمر حبب إليه الخروج من المدينة ودعاه إليه وأعانه عليه بالمال، وتقدم إليه في ذلك بلهجته الحازمة التي تشبه العنف وليست عنفا، وليس كل الناس قد رضي عن إزعاج عمر لهذا الفتى عن أرضه. وأعود فأقول إن عمر لم ينف هذا الفتى ولم يعاقبه، وإنما أغراه بالخروج وأعانه عليه.
فأما سعيد فإنه لم يغر هؤلاء القوم بالخروج من الكوفة ولم يعنهم على ذلك، وإنما أخرجهم من أرضهم بقوة السلطان، وأرسلهم إلى دار غربة لا يطمئنون إليها، ولا يسكنون إلى أهلها، وأسلمهم هو أو أسلمهم عثمان إلى معاوية ليمسك عليهم حريتهم، وليستصلحهم كما يرى استصلاحهم. فهو قد أخرجهم من مصرهم وأزعجهم عن أهلهم ونقلهم من ديوانهم وسلبهم حريتهم، وليس له في ذلك حق قليل أو كثير. وقد يقال: إنه لم ينفهم من الأرض بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة، فهو قد أخرجهم من دار إسلام إلى دار إسلام، والأرض الإسلامية كلها دار للمسلمين كلهم.
ولكن الذين عاصروا عثمان من أصحاب النبي ومن التابعين أنكروا هذا التسيير على كل حال، ورأوه نفيا لا يجوز. ومهما يقل القائلون فإن للإمام أن يعاقب، ولكن ليس له أن يتجاوز بعقوبته حدود العرف المألوف. وسنرى أن ولاة عثمان أسرفوا على أنفسهم وعلى إمامهم وعلى الناس بالنفي والتسيير.
وقد تلقى معاوية هؤلاء النفر فأنزلهم في كنيسة، وأجرى عليهم ما يقيم أودهم، وجعل يسعى إليهم مرة ويدخلهم عليه مرة أخرى؛ يناظرهم ويؤامرهم ويعظهم فلا يبلغ منهم شيئا. ناظرهم في فضل قريش على العرب، فلم يعرفوا لقريش على العرب فضلا. والإسلام لا يعرف لقريش فضلا على العرب ولا على غيرهم من الناس، إلا أن يكون هذا الفضل هو أن النبي قد بعث منهم. ولكن انبعاث النبي من قريش لا يبيح لها أن تتحكم في رقاب الناس، ولا أن تمتاز من سائر المسلمين، كما جعلت تمتاز في أيام عثمان، وهو على كل حال لا يبيح لأمير قرشي أن يقول: إنما السواد بستان لقريش. وناظرهم في الطاعة للإمام وولاته فلم يبلغ منهم شيئا؛ لأنهم لم ينكروا الطاعة للإمام ما أقام العدل وأمضى الحق وأحيا السنة وأمات البدعة، وإنما أنكروا طاعة الإمام وولاته إن جاروا عن القصد وانحرفوا عن الطريق. وناظرهم في نفسه فلم يبلغ منهم شيئا، أنكروا عليه أن يعظهم وأن يسير فيهم سيرة الأمير، وطلبوا إليه أن يعتزل الإمارة ليليها من هو أقدم منه بالإسلام عهدا، وأكرم منه أبا، وأجدر منه أن يقيم حدود الإسلام.
ويظهر أن معاوية لم يستيئس من إصلاح هؤلاء النفر فحسب، وإنما خافهم أيضا على أهل الشام. وكان معاوية كثير الخوف على أهل الشام، فكتب إلى عثمان يستعفيه من إقامتهم عنده، فأعفاه، وتقدم إليه في أن يردهم إلى مصرهم، فلم يكادوا يعودون إلى الكوفة حتى أطلقوا ألسنتهم في سعيد وفي معاوية وفي عثمان، وحتى انتشرت دعوتهم شيئا ما. فأعاد سعيد الكتابة إلى عثمان يستعفيه من إقامة هؤلاء الناس في مصرهم، فأعفاه عثمان وأمره أن ينفيهم مرة أخرى إلى الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وكان أميرا لمعاوية على حمص والجزيرة. فأرسلوا إلى عبد الرحمن، وتلقاهم أشد لقاء وأعنفه، وجعل يسومهم الخسف، ويعظم لهم أمر نفسه وأمر أبيه وأمر قريش، لا بالمناظرة والحجاج، بل بالقول الغليظ، والسيرة التي هي أغلظ من القول. وجعل لا يركب إلا أمشاهم حول ركابه، يؤنبهم ويزجرهم ويذلهم ويجعلهم للناس نكالا؛ فلما شق عليهم ذلك أظهروا الطاعة وأعلنوا التوبة واستقالوه، فأقال عثرتهم، وأرسل الأشتر واحدا منهم بتوبتهم وطاعتهم إلى عثمان، وأقبل الأشتر على عثمان فقال له وسمع منه. وأذن له عثمان في أن ينزل من الأرض حيث يشاء، فآثر الرجوع إلى أصحابه والإقامة عند عبد الرحمن. ولكن هذه الإقامة لم تطل؛ فقدم سعيد على عثمان واستخلف على الكوفة، فوثب أصحاب المنفيين أو المسيرين وأجمعوا أمرهم أن يحولوا بين سعيد وبين الرجوع إليهم، وكتبوا إلى أصحابهم يستقدمونهم فأقبلوا مسرعين حتى بلغوا الكوفة، وأقسموا لا يدخلها عليهم سعيد ما حملوا سيوفهم، ثم خرجوا في جمع منهم يقودهم الأشتر حتى بلغوا الجرعة، فانتظروا سعيدا حتى ردوه، وأكرهوا عثمان على أن يعزله عنهم ويولي عليهم غيره، واختاروا أبا موسى الأشعري، فلم يجد عثمان بدا من توليته عليهم. وكذلك أكره على أن يعزل عامله على الكوفة مرتين: عزل الوليد لأنه لها وعبث واستعلى وشرب الخمر، وعزل سعيدا لأنه اشتد وقسا وأسرف في تمييز قريش. ولم يقترح عليه أهل الكوفة أحدا حين عزل الوليد، فولى عليهم سعيدا، فلما أكرهوه على عزل سعيد لم يتركوا له اختيار الأمير، وإنما اختاروه هم، واختاروا رجلا من أصحاب النبي وهو إلى ذلك يمان، فولى أمرهم أبو موسى الأشعري، وثابوا إلى شيء من الاستقرار، ولكنه استقرار لم يدم إلا قليلا.
الفصل التاسع
وكان أبو موسى الأشعري عامل عمر على البصرة، فأقره عليها عثمان أعواما، يقول بعض الرواة إنها ثلاثة، ويقول أكثرهم إنها ستة. والكثرة من أهل البصرة مضرية، وفيهم ربعيون كثيرون، وفيهم قلة يمانية. ولأمر ما أحب عمر أن يولي رجلا من اليمن على البصرة وكثرة أهلها مضرية، وأن يولي ثقفيا هو المغيرة بن شعبة على الكوفة وكثرة أهلها يمانية، وأن يولي قرشيين مضريين على الشام ومصر، وكثرة العرب فيهما يمانية أيضا؛ يريد بذلك في أكبر الظن أن يقاوم العصبية حتى يزيلها، فيخالف بين عصبية الولاة وعصبية الرعية. وقد استقامت أمور البصرة في عهد أبي موسى أيام عثمان أعواما، لم ينكر أهلها شيئا من أميرهم ولم ينكر الأمير شيئا من رعيته. وكان أبو موسى رجلا من أصحاب النبي مقدما فيهم، كريم السيرة جميل الهدي ممعنا في الفتح. ولكن العصبية ظهرت أيام عثمان، وجعل كل حي من أحياء العرب ينظر إلى نفسه وإلى حظه. نظرت قريش وقرابة عثمان خاصة، فإذا ثلاث من الولايات الأربع الكبرى يليها أمراء من قريش: الوليد بن عقبة في الكوفة وبعده سعيد، ومعاوية بن أبي سفيان في الشام، وعمرو بن العاص في مصر وبعده عبد الله بن سعد بن أبي سرح.
فلم يبق إلا مصر واحد من هذه الأمصار الكبرى لم يل أمره أموي ولا قرشي ولا مضري، وإنما وليه رجل من أهل اليمن. فكان مركز أبي موسى بين هؤلاء الولاة غريبا شاذا، هو اليمني الوحيد الذي يلي مصرا ذا خطر، ومصرا كثرة أهله مضرية. وما من شك في أن قريشا تنبهت لذلك، وتنبهت له قرابة عثمان، وتنبهت له المضرية نفسها في البصرة. فيقول بعض الرواة: إن رجلا مضريا من بني ضبة، هو غيلان بن خرشة الضبي، خرج إلى عثمان بن عفان فقال: أما لكم صغير فتستشبوه فتولوه البصرة؟ حتى متى يلي هذا الشيخ البصرة؟ يعني أبا موسى، كان وليها بعد موت عمر ست سنين، فعزله عثمان. ويقول آخرون: إن بعض الكور المفتوحة انتقضت على أبي موسى، فخطب الناس فرغبهم في الجهاد وحبب إليهم أن يسعوا إلى عدوهم راجلين . فقبل بعضهم، وتلبث بعضهم حتى يرى ما يصنع الأمير. فلما خرج أبو موسى نظر الناس فإذا هو راكب وقد حمل أثقاله على أربعين من البغال، فأقبلوا عليه فقالوا له: احملنا على هذا الفضول؛ فزجر الناس حتى ارتدوا عنه، ولكنهم أرسلوا وفدا إلى عثمان يستعفيه من أبي موسى. فلما سألهم عمن يحبون لم يقترحوا أحدا، وإنما قالوا: من شئت فوله؛ فإن في أي الناس اخترته عوضا منه. وقالوا: ما كل ما نعلم نحب أن نقول! واتهموا أبا موسى بأنه يأكل أرضهم ويطعم رهطه من الأشعريين، فعزله عثمان، واختار لولاية البصرة ابن خاله عبد الله بن عامر بن كريز، فدخل البصرة واليا عليها وهو ابن خمس وعشرين سنة.
Unknown page