وكان أغيظ ما غاظ قريشا من النبي ودعوته أنه كان يدعو إلى هذا العدل وإلى هذه المساواة، ولم يكن يفرق بين السيد والمسود، ولا بين الحر والعبد، ولا بين القوي والضعيف، ولا بين الغني والفقير، وإنما كان يدعو إلى أن يكون الناس جميعا سواء كأسنان المشط، لا يمتاز بعضهم من بعض، ولا يستعلي بعضهم على بعض. وقد يقال: إنه لم يلغ الرق، ولم يمنع الناس من أن يملك بعضهم بعضا! ولكن الذين يفقهون الإسلام ويعرفونه حق معرفته لا ينكرون أن هذه الخطوة الهائلة التي خطاها الإسلام حين سوى بين الحر والعبد أمام الله كانت وحدها حدثا خطيرا في تاريخ الناس، وحدثا خطيرا له ما بعده لو مضت أمور المسلمين على وجهها ولم يعترضها ما اعترضها من الفتن والمحن والخطوب؛ فالله قد فرض الصلاة على الأحرار والرقيق، كما فرض عليهم الصوم، وكما فرض عليهم أن يخلصوا قلوبهم له؛ والله قد عصم دماء أولئك وهؤلاء على السواء؛ والله قد شرع دينه واحدا لأولئك وهؤلاء، لم يشرع بعضه للأحرار وبعضه للعبيد. وهذا وحده خليق لو مضت الأمور على وجهها أن يمحو الرق محوا ويحرمه تحريما؛ فكيف وقد جعل الله فك الرقبة وإعتاق الرقيق من الأمور التي يتنافس فيها المسلمون، يدخرون بها الأجر من الله والمثوبة عنده، وكيف والله قد فتح في الدين أبوابا كثيرة لا يكاد يلجها الرقيق حتى يعتق، والله قد مد في أسباب الإعتاق والتحرير لمن شاء أن يتصل بها، فجعل الإعتاق - كما قدمت آنفا - من الأعمال الصالحات التي يقصد إليها المسلم، وجعل الإعتاق كفارة لبعض الخطايا، ولم يدع وسيلة تيسر الإعتاق وتغري به وتعين عليه وتفرضه على الناس فرضا إلا دعا إليها ورغب فيها وشرعها للمسلمين.
وقد سخطت قريش أشد السخط وأعنفه على النبي لما أظهر من ذلك، حتى لأكاد أعتقد أنه لو قد دعاها إلى التوحيد دون أن يعرض للنظام الاجتماعي والاقتصادي، ودون أن يسوي بين الحر والعبد وبين الغني والفقير وبين القوي والضعيف، ودون أن يلغي ما ألغى من الربا، ودون أن يأخذ من الأغنياء ليرد على الفقراء - أقول: لو قد دعاهم النبي إلى التوحيد وحده دون أن يمس نظامهم الاجتماعي والاقتصادي، لأجابته كثرتهم في غير مشقة ولا جهد؛ فما كانت قريش مؤمنة بأوثانها إيمانا خالصا، ولا كانت قريش حريصة على آلهتها حرصا صادقا، وما كانت قريش إلا شاكة ساخرة، تتخذ الأوثان وسيلة لا غاية، وسيلة إلى استهواء العرب واستغلالها - أو لأجابه من قريش من أجاب، وامتنع عليه منها من امتنع، دون أن يلقى في ذلك مشقة أو عنتا، إلا أن يكون حرص قريش على آلهتها نتيجة حرصها على مكانتها من العرب وانتفاعها بما كان يجلب إليها من الثمرات. ومهما يكن من شيء فقد سخطت قريش على النبي لأنه عرض لنظامها الاجتماعي، وفرض عليها نوعا من العدل لا يلائم منافع سادتها وكبرائها، أكثر مما سخطت عليه لأنه عاب آلهتها ودعاها إلى أن تلغي الواسطة بينها وبين الله.
والناس جميعا يعلمون أن النبي
صلى الله عليه وسلم
ربما رفق ببعض السادة من قريش طمعا في أن يستميله إلى الإسلام، فيكون ذلك قوة للدعوة الجديدة، وربما دعاه هذا الرفق إلى شيء من الإعراض عن بعض المستضعفين، فلامه الله في ذلك أشد اللوم وأعنفه، وأنزل الله في ذلك قرآنا، وما زال الناس يقرءون ما أنزل الله في قصة ابن أم مكتوم من قوله عز وجل:
عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى * أما من استغنى * فأنت له تصدى * وما عليك ألا يزكى * وأما من جاءك يسعى * وهو يخشى * فأنت عنه تلهى * كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة * مرفوعة مطهرة .
فالتسوية بين الناس إذن هي مظهر أحد الأساسين اللذين قام عليهما الإسلام، وهما التوحيد والعدل؛ وقد سار النبي في أصحابه بمكة ثم بالمدينة سيرة قوامها العدل في الجليل من أمرهم والخطير، حتى استقر في نفوس المسلمين أن العدل ركن أساسي من أركان الإسلام، وأن الانحراف عنه انحراف عن الإسلام، والإخلال به إخلال بالدين؛ ومن أجل ذلك لم يتردد بعض المسلمين في أن ينكر على النبي نفسه بعض ما رأى، ولم يفهم حين كان النبي يقسم الغنائم بعد حنين، ويتألف بعض من كان يتألف من العرب فيعطيهم أكثر من حقهم في الغنيمة، فقال له: اعدل يا محمد فإنك لم تعدل. وقد أعرض النبي
صلى الله عليه وسلم
عنه أول الأمر، ولكنه أعاد كلمته وأعادها، فظهر الغضب في وجه النبي وقال: «ويحك! فمن يعدل إذا لم أعدل؟!»
وهم بعض المسلمين أن يبطشوا بهذا الرجل، ولكن النبي كفهم عنه لأنه كان يحفظ لأصحابه حريتهم وحقهم في المشورة والاعتراض والنقد. والنبي مع ذلك لم يتألف من تألف من العرب إلا عن وحي من الله وإذن في القرآن؛ فالله قد أذن له في سورة «براءة» أن يتألف قلوب بعض الناس من أموال الصدقة، وجعل تألف بعض القلوب مصرفا من مصارف الصدقة.
Unknown page