Fitna Kubra Cali Wa Banuhu
الفتنة الكبرى (الجزء الثاني): علي وبنوه
Genres
أما بعد، فإن دهاقين بلادك شكوا منك قسوة وغلظة واحتقارا، فنظرت فلم أرهم أهلا لأن يدنوا لشركهم، ولم أر أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلبابا من اللين تشوبه بطرف من الشدة، في غير ما أن يظلموا، ولا تنقض لهم عهدا، ولكن تفرغ لخراجهم وتقاتل من وراءهم، ولا يؤخذ منهم فوق طاقتهم، فبذلك أمرتك والله المستعان، والسلام.
وكان أمراؤه يهابونه وربما حاولوا أن يخفوا عليه اليسير من أمرهم فرارا من ملامته، فإذا عرف ذلك من أمرهم تجاوز لومتهم إلى الاتهام والتقريع والنذير.
وقد روي أنه أرسل إلى زياد حين كان خليفة لابن عباس على البصرة، قبل اعتزاله أو بعد اعتزاله العمل، من يحمل إليه ما عنده من المال.
فقال زياد للرسول فيما قال: إن الأكراد قد كسروا شيئا من الخراج، وإنه يداريهم، وطلب إليه ألا ينبئ بذلك أمير المؤمنين؛ فيتهمه بالاعتلال عليه في بعض الحق، وكان الرسول أمينا لمرسله، فأنبأه بكل ما قاله زياد، فكتب علي إلى زياد:
قد بلغني رسولي عنك ما أخبرته به عن الأكراد واستكتامك إياه ذلك، وقد علمت أنك لم تلق ذلك إليه إلا ليبلغني إياه، وإني أقسم بالله عز وجل قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فيء المسلمين شيئا، صغيرا أو كبيرا، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوقر ثقيل الظهر، والسلام.
وأقل ما يدل عليه هذا الكتاب هو أن عليا لم يكن من السذاجة بحيث يظن بعض خصمه، ولم يكن سهل التغفل كما يظن به بعض المسرفين عليه وعلى أنفسهم، وإنما كان من بعد الغور ونفاذ البصيرة والوصول إلى أعماق النفوس بحيث كان غيره من مهرة العرب ودهاتهم، ولكنه كان يؤثر الصراحة والصدق ومواجهة الحقائق على نحو مستقيم من التفكير، وكان يرفع نفسه عن المكر والكيد والدهاء؛ نصحا لدينه واستمساكا بأخلاق الرجل الكريم.
فهو قد فهم أن زيادا إنما أراد أن يعتذر عن قلة ما حمل إليه من المال، وأن يلطف للرسول في ذلك فينبئه بأمر الأكراد ويوصيه بإخفاء ذلك على الخليفة مخافة أن يتهم عنده، وقدر أن الرسول سيتعلق عليه بهذه التعلة وينبئ بها أمير المؤمنين، وقد رأيت شدة علي على زياد في النذير والتحذير، وأكبر الظن أنه لم يقف عند النذير والتحذير، وإنما كلف من يتلطف حتى يحقق من أمر الأكراد ما زعم زياد.
وبلغته هنات عن المنذر بن الجارود - عامله على إصطخر - فكتب إليه هذا الكتاب الذي يعزله به عن ولايته ويستقدمه إلى الكوفة:
إن صلاح أبيك غرني فيك، وظننت أنك متبع هديه وفعله، فإذا أنت فيما رقي إلي عنك، لا تدع الانقياد لهواك وإن أزرى ذلك بدينك، ولا تسمع إلى الناصح وإن أخلص النصح لك، بلغني أنك تدع عملك كثيرا وتخرج لاهيا متنزها متصيدا، وأنك قد بسطت يدك في مال الله لمن أتاك من أعراب قومك، كأنه تراث عن أبيك وأمك، وإني أقسم بالله لئن كان ذلك حقا لجمل أهلك وشسع نعلك خير منك، وإن اللعب واللهو لا يرضاهما الله، وخيانة المسلمين وتضييع أموالهم مما يسخط ربك، ومن كان كذلك فليس بأهل لأن يسد به الثغر ويجبى به الفيء ويؤتمن على مال المسلمين، وأقبل حين يصل كتابي هذا إليك.
فلما قدم حقق علي أمره مع من اتهمه من الناس، فظهر أن عليه من مال المسلمين ثلاثين ألفا، فطالبه بها، وجحدها المنذر، فطالبه علي باليمين، فنكل، وألقاه علي في السجن حتى شفع فيه وضمنه صعصعة بن صوحان، وكان من أتقى أهل الكوفة ومن آثر الناس عند علي، فأطلقه.
Unknown page