Film Wathaiqi Muqaddima Qasira
الفيلم الوثائقي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وقد ثار جدل حول صناعة الأفلام التي يتداخل فيها الزيف مع الحقيقة دون إعطاء المشاهدين الفرصة للتمييز؛ ففي فيلم «أوقات عظيمة: الجزء 2: مسيرة الأطفال» (2004) الذي أخرجه روبرت هدسون وبوبي هيوستن ويدور حول تاريخ حقوق الإنسان، مزجت المشاهد التمثيلية بالمواد الأرشيفية، واستخدمت أيضا مواد أرشيفية من زمان ومكان للإشارة إلى مكان وزمان آخرين، وعندما فاز الفيلم بإحدى جوائز الأوسكار، أثار جدلا بسبب هذا المزج. أيضا كان فيلم ديفيد ماكناب «المؤامرة السرية لقتل هتلر» (2004) جزءا من تجربة لقناة ديسكفري في مجال «التاريخ الافتراضي»، الذي يعيد فيه الممثلون تجسيد لحظة من التاريخ، ويستعان برءوس الشخصيات التاريخية من المشاهد الأرشيفية، وقد اعترف الفيلم بذلك في بدايته، ولكن البعض اعتقد أن أسلوب مزج الممثلين بالصور الأرشيفية قد تجاوز خطا أخلاقيا، وقد يربك الجمهور.
الأفلام التي تستخدم الممثلين والنصوص، برخصة المشاع الإبداعي، لإعادة سرد أحداث حقيقية، يطلق عليها غالبا دوكودراما، ويندرج تحتها أفلام مثل: «غاندي» (1982)، والمسلسل التليفزيوني «الجذور» (1977)؛ إنها تبدو كأفلام روائية، ومن المفهوم عموما أن بإمكانها التغاضي عن الدقة فيما يخص بعض التفاصيل من أجل تجسيد واقع أو حقيقة تجسيدا دراميا، بيد أن المشاهدين والصحفيين لا يرون أن تزييف الحقيقة أمر لائق؛ ففي الفيلم الوثائقي الدرامي «الطريق إلى 9 / 11» الذي أنتجته شبكة إيه بي سي عام 2006، اختير ممثلون لأداء أدوار مسئولين حقيقيين في إدارة كلينتون، من بينهم وزير الخارجية، وجعلوهم يقولون ويفعلون أشياء لم يفعلوها أو يقولوها بالتأكيد، وأظهرت هذه التلفيقات إدارة كلينتون وهي تهمل تهديدا إرهابيا، وقد حذفت الشبكة بعض الأخطاء في اللحظة الأخيرة ثم حاولت تبرئة ساحتها بالتنويه إلى أن الفيلم كان مجرد فيلم وثائقي درامي، لكن المشاهدين والمعلقين الساخطين لم يرضهم هذا التنصل.
يمزج بعض صناع الأفلام الوثائقية عناصر خيالية ويستمرون في ادعاء أنها أفلام وثائقية، وهذا الأسلوب آخذ في التنامي مع تنامي شعبية الأفلام الترفيهية الوثائقية؛ على سبيل المثال، يحكي فيلم «المختالون» للمخرج الدانماركي جيب روند قصة خيالية عن أب وابن يلتئم شملهما من خلال توثيق لمسابقات أزياء واقعية تقام بين الرجال في جنوب أفريقيا، وعلى الرغم من شعبية الفيلم في مهرجانات الأفلام في شمال الكرة الأرضية، فإنه يثير تساؤلات لتجسيده حبكة قصة خيالية كحياة واقعية.
يتعمد بعض صناع الأفلام الوثائقية استخدام الخيال كأداة لإثارة التفكير؛ فقد قدم المخرج البريطاني الموالي للجناح اليساري بيتر واتكينز عدة أفلام استعان فيها بأشخاص لا يعملون بالتمثيل لإعادة تجسيد أحداث تاريخية تكشف عن أنظمة السلطة وحركات المقاومة من معركة كولودين حتى كومونة باريس. أعاد المخرج الأمريكي الراديكالي إميل دي أنطونيو أيضا في فيلمه «في ملك بروسيا» (1982) تجسيد محاكمة لمعارضي الحرب على فيتنام، بعد منع الصحفيين من دخول قاعة المحكمة. قام ببطولة الفيلم المتهمون الحقيقيون، بمن فيهم الأخوان في الكهنوتية فيليب ودانيال بريجان، مع ممثل هوليوود مارتن شين في دور القاضي. لم تعد تقنية إعادة التجسيد سرد الأحداث فحسب، ولكنها وجهت نقدا ضمنيا لحظر دخول الصحفيين أثناء المحاكمة. مزج المخرج الفرنسي كريس ماركر أيضا في فيلمه «بلا شمس» (1982) الصور الوثائقية والصوت بسرد خيالي، وكانت النتيجة استجوابا مثيرا للفكر في معنى الذكرى وتأملا في صناعة الأفلام. وفي فيلم «الكابوس العطر» (1977)، أعاد المخرج الفلبيني كيدلات تاهيميك استخدام مشاهد وثائقية لسرد قصة خيالية عن شخص ساذج من العالم الثالث ارتحل إلى الغرب، وهي قصة كانت أيضا مقالا وثائقيا نقديا عن الاختراق المتبادل بين الشرق والغرب، وقد كانت إعادة الاستخدام ذاتها تعليقا على الثقافة التوفيقية والانتقائية للفلبين.
ابتدع الفنان الألماني هارون فاروكي الكثير من المقالات الوثائقية المعقدة التي تدعو لتدبر الذات، ويجري فيها استخدام مشاهد وثائقية والتعامل مع القضايا الموجعة التي تحظى بأهمية عامة، وله مقال عن تورط العمال الصناعيين في حرب فيتنام، هو «النيران الغامضة» (1969) - حيث تشير النار إلى النابالم - وقد كتب ومثل بأسلوب انطوى على تجربة للتغريب البريختي، وقد أعادت المخرجة الأمريكية جيل جودميلو تصوير الفيلم لقطة بلقطة تحت اسم «ما علمه فاروكي» (1998).
هل تظل مثل هذه الأعمال الهجينة أفلاما وثائقية؟ إنها تزعم أنها تجسد الحياة الواقعية وتخبر المشاهد بشيء مهم عنها شأنها شأن الأفلام الوثائقية السائدة، ولكن هذه التجارب من وجهة نظر البعض تخرج عن حدود الأفلام الوثائقية، شأنها شأن الأفلام الوثائقية الساخرة، بل إن جودميلو نفسها سألت المشاهد في فيلمها عن النوعية التي ينتمي إليها فيلم «ما علمه فاروكي». وهي تشير إلى أن جميع المشاهد تقريبا معادة التجسيد، شأنها شأن معظم المشاهد في الفيلم الذي تحاكيه، ولكن الفيلم مناقشة حول الحياة الواقعية، وهي تشير بشيء من السخرية إلى أن المشاهد ينظر إلى الفيلم باعتباره «أجيتبروب» أو دعاية تهييج، لتعيد للأذهان مصطلح أفلام «دعاية التهييج» الذي ظهر في عصر الاتحاد السوفييتي للحث على إحداث تغيير اجتماعي. وينطوي تساؤلها على إشارة إلى الخطوط المشوشة التي تحيط بحدود هذا الشكل الفني.
إن جميع اختيارات الشكل الخاصة بالمخرجين تسوق إلى المشاهد ادعاءات مقنعة عن دقة المخرج وحسن نيته ومنطقيته، ولعل في حقيقة توافر مجموعة متنوعة من الخيارات للمخرجين في تجسيد الحقيقة تذكرة لنا بأنه لا يوجد تجسيد شفاف للحقيقة، ولا أحد يستطيع حل تلك المعضلات الأخلاقية بتجنب الاختيار في طريقة التعبير، ولا توجد اختيارات شكلية خاطئة في حد ذاتها. والعلاقة القائمة على حسن النية بين مخرج الفيلم والمشاهد ضرورية، وبإمكان صناع الأفلام تسهيل ذلك بتحري الوضوح مع أنفسهم فيما يتعلق بأسباب استخدامهم للأساليب والتقنيات التي يستخدمونها، والسعي لاختيار الشكل الذي يعلي من شأن الحقيقة التي يرغبون في إطلاعنا عليها.
المؤسسون
في العشرينيات بدأ ثلاثة أشخاص مشوارهم الفني وساهموا في تشكيل توقعات الجماهير عبر جميع أنحاء العالم منذ ذلك الحين، وهم: روبرت فلاهرتي، وجون جريرسون، ودزيجا فيرتوف. وقد أكدوا جميعا في آن واحد أنهم ينقلون الحقيقة وأنهم فنانون. وكما رأينا، فإن كلا التأكيدين يخلق حالة التوتر والجذب الأساسية في الأفلام الوثائقية؛ فمتى تتعارض البراعة الفنية مع الحقيقة ومتى تسهل مثل هذا التجسيد؟ لقد صارع هؤلاء المخرجون هذا السؤال بأساليب متنوعة، ومهدوا الطريق لنقاشات ومجادلات لاحقة.
أرسى جريرسون وفلاهرتي، مع اختلاف الطموحات، «الواقعية» كتقليد في الأفلام الوثائقية، ويخلق هذا التقليد التعبيري وهم الحقيقة لدى المشاهد، ومن ثم فإن الواقعية لم تكن محاولة لتصوير الواقع بمصداقية، بل محاولة لاستخدام الفن لمحاكاته بفاعلية تجعل المشاهد ينجذب إليه دون التفكير فيه؛ ومن ضمن أساليب خلق وهم الحقيقة: (1) المونتاج بالإخفاء (نوع من المونتاج يمر دون أن يلاحظه العقل الواعي، بحيث تنخدع العين بالاعتقاد بأنها تسير مع الحدث لا أكثر). (2) التصوير السينمائي الذي يخلق لديك الوهم بأنك داخل المشهد أو تراقب الحدث أثناء وقوعه، ويمنحك مشاركة نفسية في الحدث. و(3) إيقاع يتبع توقعات المشاهد للأحداث الطبيعية في العالم الطبيعي. ونظرا لقدرتها على الإثارة، فقد أصبحت الواقعية اللغة العالمية للسينما التجارية في كل من الأفلام الوثائقية والروائية.
Unknown page