15
ونطوف بعد ذلك عشرة أيام في الألزاس، متنقلين بين مدنها وقراها، مجولين في وهادها ورباها، نزور ما فيها من آثار الماضي البعيد والقريب، ونشهد ما فيها من مظاهر الحياة الجديدة المضطربة.
وفي الألزاس متاع للعيون، كما أن في الألزاس متاعا للعقول، ففيها كثير من آثار القرون الوسطى لا تزال قائمة ماثلة، تعطيك من فن هذا العصر صورا مختلفة، ولكن الألزاس في هذه الأيام تعني من يزروها عناية خاصة؛ لمكانها بين الفرنسيين والألمانيين.
والمسألة التي تفرض عليك فرضا حين تتصل بالفرنسيين، وتنغمس في حياتهم القومية، هي أن تعرف أحق أن الألزاس إقليم فرنسي وأن أهله يحبون فرنسا كما يحبها الفرنسيون، أم ذلك لون من ألوان الجهاد السياسي بين هذين الشعبين المتخاصمين منذ أقدم العصور التاريخية؟
أما إذا قرأت الصحف الفرنسية، فالألزاس قطعة من فرنسا اغتصبها العدو، ثم استردتها فرنسا المنتصرة منذ سنين، والفرنسيون يختلفون فيما بينهم حين يفكرون في الصلة بين فرنسا وبين هذه القطعة التي ردت إليها، فمنهم من يريد أن تمحى الفروق كلها بين الألزاس وبقية الأقاليم الفرنسية، فيكون التشريع واحدا والنظام واحدا، وتخضع الألزاس لكل ما تخضع له الأقاليم الفرنسية؛ من نظام في السياسة والإدارة والمالية والدين والتعليم. هؤلاء هم المتطرفون، ومنهم المعتدلون الذين يريدون هذا كله، ولكن شيئا فشيئا، وقليلا قليلا؛ لأنهم يقدرون أثر الاحتلال الألماني في الألزاس، ويعلمون أن انتقال الألزاس من النظام الألماني إلى النظام الفرنسي الخالص فجأة، لا يمكن أن يتفق دون أن يستلزم اضطرابا وفسادا بعيدي المدى.
والألزاسيون أنفسهم - فيما يظهر - ليسوا أقل اختلافا من الفرنسيين؛ فمنهم المسرفون في بغض النظام الفرنسي، ومنهم المسرفون في حب هذا النظام، والناس جميعا يعلمون ما تلاقيه فرنسا من الصعوبات المعقدة في الملائمة بين الألزاس وبين النظام الفرنسي الخالص.
ولكن الأجنبي الذي يزور الألزاس بعد أن يكون قد زار فرنسا لا يستطيع أن يتخلص من أثر جديد تتركه هذه الزيارة في نفسه؛ فهو لا يسمع الفرنسية أو لا يكاد يسمعها في الألزاس، وإنما يسمع الألمانية يتحدثها الرجال والنساء في أعمالهم ومرافقهم كما يتحدثها الأطفال في لعبهم، وهو لا يسمع الفرنسية إلا حين يتكلم الألزاسي إلى الفرنسي أو إلى الأجنبي الذي لا يتكلم الألمانية، فإذا تكلم الألزاسي اللغة الفرنسية فهي فرنسية خاطئة محطمة مشوهة كفرنسية الألمان.
والأجنبي إذا أراد أن يقرأ الصحف الألزاسية وجد أكثرها ألمانيا، فإذا شهد الصلاة في كنائس الألزاسيين، فاللغة التي تستعمل مع اللاتينية هي الألمانية، ونظام الحياة في الألزاس أقرب إلى النظام الألماني منه إلى النظام الفرنسي. طعام الألزاسيين ألماني، وشرابهم ألماني، فهم يؤثرون الجعة على النبيذ، كما أنهم يؤثرون الشوكروت
choucroute
على غيره من ألوان الطعام المألوفة في فرنسا.
Unknown page