ربما وقف القارئ موقف الحيرة لذكري «العمارة الإسلامية» بديلا من «العمارة العربية» حين الحديث عن المسجد النبوي، والواقع أن عمارة هذا المسجد لم تبق عمارة عربية بعد الوليد بن عبد الملك، فقد احتفظت العمارة العربية بطابع من البساطة ما يزال الإنسان يراه في الحرم المكي، أما مسجد المدينة فقد تعاقب عليه من ألوان العمارة ما اقتبسه المسلمون من مختلف الأنماط التي وجدوها في الآثار القائمة بالبلاد التي فتحوها، ولقد رأوا من هذه الأنماط شيئا كثيرا في الشام ومصر والروم والعراق وفارس منذ القرن الأول للهجرة، ثم رأوا كذلك شيئا كثيرا في الهند وصقلية والأندلس وحيث امتد الفتح الإسلامي على توالي العصور، من هذه الأنماط اقتبس المسلمون طرازا ليس بالعربي المستمد من فكرة الحاجة، فشيدوا العمد وقواعدها وتيجانها على طراز لا عهد للعرب به، وأنشئوا المحاريب المجوفة وكانت محرمة في الإسلام، حتى كره عبد الله بن مسعود الصلاة فيها نزولا على قوله
صلى الله عليه وسلم : «اتقوا هذه المذابح.» يعني المحاريب، وقوله: «ما تزال هذه الأمة بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى.» وجعلوا زخرف المساجد وسيلة إلى المثوبة بعد أن كان كعب يقول لأسلافهم في الصدر الأول: «يكون في آخر الزمان قوم يزينون مساجدهم ويتخذون بها مذابح كمذابح النصارى، فإذا فعلوا ذلك صب عليهم البلاء.» أما وذلك شأن هذه العمارة فلا حق في أن تسمى العمارة العربية.
وإنما تأثر المسلمون في نمط بنائهم بما رأوا من هياكل ومعابد؛ لأن الفكرة الإسلامية تطورت بحكم الحوادث وتقلبها، فسارت من البساطة التجريدية الأولى إلى تركيب وتعقيد ماديين أدى إليهما الاختلاط بالروم والفرس والنظر في عقائدهما، وما أكبر الفرق بين هذا التركيب وهذا التعقيد الماديين وبين بساطة الإيمان بالله وحده إيمانا مصدره القلب والعقل، الأعمال في هذا الإيمان بالنيات، ونية المؤمن فيه خير من عمله؛ لأن النية متعلقة بالذات الإنسانية، والعمل خاضع لأحداث الحياة وأهوائها، أما التركيب والتعقيد الماديين فيجعلان من المظاهر المادية كل شيء في الحياة؛ قيام المرء وقعوده، ركوعه وسجوده، لباسه ومظهره ... هذه وأمثالها من الأمور المحسوسة هي التي يقيم لها هذا التفكير من الوزن أكثر مما يقيم للنية التي صدرت عنها، ومن ثم كان البناء المزخرف أدعى إلى التقرب إلى الله في رأي ذوي التفكير المادي، وإن أدت إليه نية الظفر بخصوم سياسيين، كما كان شأن الوليد يوم ضم بيوت النبي إلى المسجد، أو دفعت إليه سياسة مرماها شغل المسلمين عن التفكير والاجتهاد لخيرهم وغايتها حبسهم في حدود التفكير المادي حتى يسهل حكمهم حكم بغي واستبداد، كما كان شأن الملوك والسلاطين منذ بدأت في العالم الإسلامي عصور الانحلال.
أين هذا من التفكير الصريح يدعو إليه الإيمان الصادق في مسجد بسيط العمارة مثل مسجد النبي كما بناه هو، وكما بناه عمر وعثمان؟! أين هذا من تفكير خالص لله يتصل فيه الإنسان ببارئه من غير وساطة إلا إيمانه الصادق به، وحرصه الخالص على التقرب منه بالعمل الصالح وبالتقوى؟! وحدثتني نفسي: أفكنت أفكر فيما تلا القارئ من هذا الفصل لو أن المسجد بقي بناؤه على نمط بناء النبي يجاور قبره ويستضيء الناس فيه بنور الوحي الذي نزل عليه؟ وهل كنت ألتمس المغفرة لذنوبي بالعكوف على مكان في المسجد أعتقده أدنى إلى مغفرة الله ذنوب عباده؟! أم كنت أشعر بروحه الكريم يملأ المكان مهابة وجلالا وقوة، ويمد المؤمنين من قوته بما يجعلهم يلتمسون المغفرة في العمل الصالح أكثر مما يلتمسونها في دعاء لا يعقبه عمل؟!
اللهم إني أعوذ بك من الزلل، وأتوب إليك من الخطأ، أنت العليم بأني إلى وجهك الكريم أقصد، ومن حب إخواني المؤمنين حقا أستمد رضاك وأرجو عفوك، فاغفر لي وارحمني ولا تجعلني من القوم الخاطئين .
المدينة الحديثة
ماذا بالمدينة غير المسجد النبوي؟ أما الآثار المتصلة بالرسول وأهله وبالصحابة والتابعين فكثيرة نتناولها بالحديث من بعد، لكنني لم أقصد إلى هذه الآثار حين ألقيت سؤالي إلى أهل المدينة الذين أقبلوا إلى دار مضيفي في المساء، وإنما قصدت إلى المدينة الحديثة، فماذا بها من مظاهر نشاط أهلها؟ وماذا بها من أثر الحياة الحديثة التي يصبو شباب مكة إليها بوجدانهم؟ قال أحدهم: «وماذا كنت ترجو أن يكون لنا من ذلك وسكان المدينة لا يزيدون على ثلاثة عشر ألفا؟!» دهشت إذ سمعت هذا الجواب، فهذا العدد من السكان متداول في كثير من قرى مصر، وهو لا يبلغ السدس من سكان مكة، فكيف يكون عددا لسكان هذا البلد الذي يجذب إليه عشرات الألوف من المسلمين في كل عام؟! أولا يجد أهل المدينة كل رزقهم إلا في موسم الزيارة، ولولا هذا الموسم لخلت من ساكنيها؟ لقد قرأت في «الرحلة الحجازية» للبتانوني أن عدد سكان المدينة يزيد على ستين ألفا، فكيف هوى هذا العدد إلى خمسه؟! أفأصاب المدينة وباء أهلكها، أم أن حرب الوهابيين أتت على خمسين ألفا من سكانها رجالا ونساء وأطفالا؟!
وأجاب الذي حدثني: «بل هوى سكان المدينة إلى هذا العدد الذي تراه ضئيلا منذ عطلت سكة الحجاز الحديدية أثناء الحرب الكبرى، ولو أن هذه السكة عادت سيرتها لصارت المدينة في عداد مدائن الشرق الكبرى، لقد كان سكانها عشرين ألفا قبل إنشاء سكة الحجاز الحديدية، فلما افتتحت هذه السكة عام 1907 ووصلت بين المدينة والشام، وقربت ما بين المدينة ومصر، أسرع عدد السكان إلى الزيادة في سرعة تثير العجب، إذ ارتفع من عشرين ألفا عام 1907 إلى ثمانين ألفا أول الحرب، أي: عام 1914، وبذلك زاد إلى أربعة أضعافه في سبع سنوات، فلما حدثت ثورة النهضة في هذه البلاد بزعامة الحسين بن علي على تركيا خربت السكة الحديدية وبقيت مخربة إلى الآن، من ثم عاد سكان المدينة يهوي عددهم إلى ثلاثة عشر ألفا، ولو أن هذه السكة بقيت لم تخرب لأربى سكان المدينة على مائة ألف، ولا عجب؛ فهذه السكة شريان حيوي لهذا البلد لا تقل قيمتها بالنسبة لنا عن قناة السويس عندكم لإنجلترا، وحسبك أن تعلم أنا كنا نصرف حاصلاتنا في الشام ونبادلها حاصلاتها، ونتجر مع مصر ونتصل من ثم بالعالم؛ لتقدر الأمر قدره الصحيح، لقد كانت خضر المدينة ترسل إلى الشام، وكانت فاكهة الشام تجيء إلينا، وكانت صلاتنا التجارية قد نمت نموا جلب من الرخاء ما لا يسهل اليوم تصوره، وكثر التعامل وارتفعت الأسعار، فبلغ ثمن قطعة الأرض التي كانت تباع بثلاثة جنيهات قبل السكة الحديدية عشرة جنيهات بعد سيرها، واليوم هبط هذا الثمن إلى جنيهين ولا تجد من يشتري.
هذا والسكة الحديد لا تزال أكثر أجزائها صالحة، ولا يحتاج تعميرها إلى مجهود كبير أو نفقة طائلة، وقد فاوضت حكومة البلاد كلا من إنجلترا في فلسطين وفرنسا في سوريا للاشتراك مع البلاد العربية في تعميرها كي تعيدها سيرتها الأولى، فقامت في سبيل المفاوضة عقبات سياسية يتصل بعضها بملكية السكة لمن تكون، وبنفقات التعمير من يتحملها، ومن يتحمل نفقات التعهد والصيانة، ويجيء وراء ذلك اعتبارات حربية لا نسمو إلى إدراكها، ولو أن هذه الصعاب ذللت لعاد إلى مدينة الرسول من البهجة ما يعيد إلى الذهن صورة العاصمة الإسلامية الأولى، أما ما بقيت في هذه العزلة المفروضة اليوم عليها فستظل كما هي، وكما ستراها حين تجوس خلالها، فقيرة إلى العون الذي يأتيها من الخارج، مهددة بمثل المجاعة التي هددتها منذ سنين، والتي جعلت الحياة فيها بؤسا وضنكا لولا تبرع المحسنين من المسلمين.»
ألقيت بكل سمعي إلى هذا الحديث الذي حز في نفسي وأثار شجني، مدينة رسول الله يكون ذلك شأنها والمسلمون ساهون لاهون! يا للعار ويا لهوان كل نفس مؤمنة! أولا يرى المسلمون في هذا نذيرا من الله لهم كيما يغيروا ما بأنفسهم ليغير ما بهم؟! وليس هذا النذير ابن أمس، فقد سمت المدينة شأنا في كثير من الأحيان، ثم أصابها مثل هذا الذي أصابها ولما تكن السكة الحديدة هذه قد أنشئت، ولما يكن التفكير فيها قد بدأ، يقول برخارت في كتابه الذي وضعه عام 1815 عن جولاته في بلاد العرب: «المدينة حسنة البناء، فكل مبانيها من الحجر، وتتألف منازلها في أكثر الأمر من طابقين عاليين، وسقفها مسطح، وهي ليست مبيضة، والحجر الذي شيدت به قاتم اللون؛ ولذلك كانت طرقاتها أدنى إلى العبوسة، وأكثر هذه الطرقات بالغة في الضيق حتى لا تزيد على ذراعين أو ثلاث أذرع، وقليل من طرقاتها الرئيسية مرصوف بأحجار مستديرة كبيرة، وهذا ترف قلما يتوقعه السائح في بلاد العرب، وهي على العموم من خير البلاد التي شهدت في الشرق بناء، وتجيء لذلك في هذا المضمار ثانية لحلب، على أن مظهرها اليوم يبعث إلى النفس الأسى لما يهدد منازلها من الدمار، ذلك بأن ملاك هذه المنازل كانوا يحصلون على أرباح طائلة من أحشاد الزوار الذين يجيئون إليها على اختلاف فصول السنة، أما الآن وقد نقصت مواردهم لا يقدمون على ما يكلفه البناء من عظيم النفقة وهم يعلمون أنهم لن يستردوا نفقاتهم بتأجير منازلهم؛ لذلك ترى المنازل الخربة والجدران التي توشك أن تنقض في كل مكان؛ ومن ثم كان منظر المدينة كأكثر مدن الشرق مما يبعث إلى القلب الحسرة ولا يعيد إلى الذهن من بهائها القديم إلا صورة ذابلة.»
Unknown page