صلى الله عليه وسلم ، فإذا منزل عليه كلة، فلما أقيمت الصلاة رفعت الكلة وصلى صاحبه فيه بصلاة الإمام هو ومن معه، ثم أرخيت الكلة وأتي بالغداء فتغدى هو وأصحابه، فلما أقيمت الصلاة فعل مثل ذلك، وإذا هو يأخذ المرآة والكحل وأنا أنظر، فسألت فقيل: إن هذا حسن بن حسن.» وقال الوليد: «ويحك! فما أصنع؟ هو بيته وبيت أمه فما الحيلة في ذلك؟» قال: «تزيد في المسجد وتدخل هذا البيت فيه.» فكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بالزيادة في المسجد وشراء هذا البيت وإدخاله فيه، وأبى حسن بن حسن أن يأخذ الثمن، فكتب عمر إلى الوليد في ذلك، فأمر بهدم البيت، وهدم وطرح الثمن من بيت المال، فانتقل حسن وانتقلت فاطمة بنت الحسين إلى دار بالحيرة فابتنتها.
قرر الوليد بن عبد الملك أن يزيد في المسجد وأن يدخل هذا البيت فيه، لكنه بعد أن فكر في الأمر مليا رأى أن يدخل فيه بيوت النبي جميعا، وكانت هذه البيوت ممتدة من شرق المسجد حيث الحجرة النبوية، متجهة نحو الشمال إلى موضع ليس تعيينه اليوم بالأمر اليسير، وكانت موضع رعاية كبرى من المسلمين في ذلك العهد، ومذ خلت كلها من ساكنيها بعد أن اختار الله عائشة أم المؤمنين كان الناس يهرعون لصلاة الجمعة فيها مؤتمين بإمام المسجد، ثم يحيطونها فيما وراء ذلك برعايتهم على اعتبار أنها الآثار التاريخية الباقية للنبي الكريم ولحياته في المدينة؛ لذلك حزنوا أشد الحزن حين علموا بأمر هدمها، روي عن نصار الخراساني قوله: «أدركت حجرات النبي
صلى الله عليه وسلم
من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ ويأمر بإدخال حجرات أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم، وسمعنا سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها.» ولعل منهم من فطن إلى أن الوليد أمر بهدم حجرة فاطمة غضبا على أبنائها، ثم أمر بهدم سائر الحجرات حتى لا يتهم بأنه هدم حجرة فاطمة انتقاما من أبناء علي بغيا بغير حق متخذا من توسيع المسجد حجة له، فقد سبقه عثمان وعمر إلى توسيعه فتركا حجرات أمهات المؤمنين لم يمسساها وزادا في المسجد من سائر نواحيه.
كيف يقيم الوليد المسجد: هل يكتفي بالزيادة في نواحيه الشرقية والشمالية والغربية، فقد بقيت الناحية الجنوبية لم تمسسها زيادة من بعد عثمان، أم يهدمه ويعيد بناءه؟ لقد شاده عثمان بناء متينا قويا على الزمن، ولم يكن قد مضى على ذلك ستون سنة، لكن الوليد كان بالشام، وكان له في العمارة وزخرفها رأي غير رأي العرب، لم يكن رأيه في العمارة منتزعا من فكرة الحاجة كما كان عند العرب يوم بنى النبي المسجد، بل كانت العمارة عنده فنا جميلا مداره رضا النفس من طريق الحس والسمو بها في درجات هذا الرضا إلى حسن المتاع بالحياة، وقد تأثر الوليد كما تأثر أسلافه الذين أقاموا بالشام بما رأوا من الآثار المسيحية التي أقيمت على طراز ما سبقها من الآثار الوثنية إذ تأنق مقيموها في تجميلها إرضاء لآلهتهم وتقربا بها إليهم، وكان من أثر ذلك أن أقام عبد الملك بن مروان قبة الصخرة ببيت المقدس على نحو من البراعة في الفن المعماري عنت له كثير من الكنائس البارعة، وذلك بعد أن رصد لعمارتها خراج مصر سبع سنين، أما والأمر كذلك فلا بد للوليد من هدم المسجد النبوي وإعادة بنائه متأثرا بالفكرة الفنية التي ملكت نفسه وكانت ذات سلطان عظيم عليها.
ولم يكن في بلاد العرب، ولا كان بين رجال المعمار المسلمين، من يكفي لإرضاء هوى الوليد وذوقه الفني في عمارة المسجد؛ لذلك كتب إلى ملك الروم يقول له: «إنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الأعظم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء»، وبعث ملك الروم بأحمال من فسيفساء وبعمال اختلف في عددهم، فقيل: عشرة وقيل: أربعون من الروم وأربعون من القبط، وبأحمال من سلاسل القناديل، وبقدر كبير من الذهب، ذهب قوم إلى أنه ثمانون ألف دينار، وذهب آخرون إلى أنه ألف مثقال.
وهدم عمر بن عبد العزيز المسجد في سنة ثمان وثمانين، أو في سنة إحدى وتسعين - على اختلاف في الرواية - ثم أدخل فيه حجرات أزواج النبي، وبنى له أربع مآذن، وفرش أرضه بالرخام، ووشى حوائطه بالفسيفساء، وكسا سقفه بالذهب، وجعل أساطينه من المرمر، فلما صار إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي وقال لهم: «تعالوا احضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا: غير عمر قبلتنا.» وجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، وقد بالغ عمر في تجميل المسجد وعني بذلك حتى كان العامل إذا عمل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عملها نفله عمر ثلاثين درهما، ولما تم بناء المسجد جاء الوليد وجعل يدور في المسجد مغتبطا معجبا ويبدي لعمر ما يعن له من الملاحظات، وكان عمر قد عني بسقف المقصورة النبوية عناية جعلته بدعا في الفن، فلما رآه الوليد قال لعمر: ألا عملت السقف كله مثل هذا! قال عمر: إذن يا أمير المؤمنين تعظم النفقة جدا - وكانت نفقة هذا السقف أربعين ألف دينار - قال الوليد: وإن، ولم يكن ما قاله الوليد من ذلك عجبا بعد الذي زخرف عمر به المسجد في هذه العمارة من المحراب والشرفات والمنابر مما لم يكن للعرب به عهد، وإنما كان اقتباسا مما في الكنائس أتمه العمال العرب بوحي ما رأوا في الشام، وعاونهم العمال الروم والقبط على إتقانه.
وكان أبان بن عثمان يطوف بالمسجد مع الوليد، فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد واطمأنت نفسه إلى عمارته نظر إلى أبان وقال: «أين بناؤنا من بنائكم؟!» فكان جواب أبان: «إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس.»
هذه الكلمة التي قالها أبان عميقة المغزى لمن ينعم الروية فيها، فهي تصور تطورا في العمارة العربية يقابله تطور من نوعه في التفكير الإسلامي، انتقلت العمارة في بناء الوليد المسجد من طرازها البسيط الذي أوحته الحياة العربية في بساطتها وقوة اتصالها بالطبيعة، وأوحته الفكرة الإسلامية في دعوتها إلى الصلة المباشرة بين المرء وخالقه على أساس من الإيمان الذاتي وتحاب المؤمنين بنور الله بينهم، إلى هذا الطراز المركب المليء بالزخرف، ركز الإنسان فيه صورة من جمال الطبيعة انتزعها خياله من كل ما يحس ويرى من مظاهر هذا الجمال، ثم تقرب بها إلى الآلهة في العهود الوثنية إرضاء لهم بجلالها واتقاء غضبهم بجمالها، وقد أراد رجال الكنيسة المسيحية أن تقرب هيبة هذا الفن من النفوس صورة المعجزة التي تقوم المسيحية على أساسها.
Unknown page