Fi Calam Ruya
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Genres
الأمة مجموع أفراد متبايني الأخلاق والمشارب والآراء، تضمهم رابطة معنوية أقوى من الأخلاق، وأعمق من المشارب، وأعم من الآراء.
وقد تكون الوحدة الدينية بعض خيوط هذه الرابطة، غير أن الخلاف في العقيدة لا يحل الروابط الأممية، إلا إذا كانت ضعيفة واهية كما هي في بعض البلاد الشرقية.
وقد تكون وحدة اللغة سببا أساسيا لإيجاد هذه الرابطة، ولكن هناك شعوب كثيرة تتكلم لغة واحدة مع أنها في خلاف مستمر من حيث السياسة والإدارة والنظريات الاجتماعية.
وقد تكون الوحدة الدموية أساسا لهذه الرابطة، ولكن في التاريخ أمثلة عديدة نستدل منها على أن أفخاذ عنصر واحد انشقت بعضها على بعض ، وكان ذلك الانشقاق مجلبة للتطاحن والتباغض، ثم الاضمحلال.
وقد تكون المصلحة المادية نولا تحاك عليه تلك الرابطة، ولكن شعوب عديدة لم تحك مصلحتهم المادية سوى المنافسة والمناقشة.
إذن: ما هي تلك الرابطة الاجتماعية؟ وما هي التربة التي تنبت فيها أنصاب الأمم؟
لي رأي في الرابطة الأممية قد يحسبه بعض المفكرين غريبا؛ لأن أصوله ونتائجه ليست من الأمور المحسوسة.
أما رأيي فهو هذا:
لكل شعب ذات عامة تشابه بجوهرها وطبيعتها ذات الفرد. ومع أن هذه الذات العامة تستمد كيانها من أفراد الشعب كما تستمد الشجرة حياتها من الماء والتراب والنور والحرارة؛ فهي مستقلة عن الشعب ولها حياة خاصة وإرادة منفردة. وكما يصعب علي تحديد وتعيين الزمن الذي تتولد فيه ذات الفرد الواحد؛ هكذا يصعب علي تعيين وتحديد الزمن الذي تتولد فيه الذات العامة. غير أنني أشعر أن الذات المصرية - مثلا - قد تبلورت قبل ظهور الدولة الأولى على ضفاف النيل، بزمن لا يقل عن خمسمائة سنة، ومن تلك الذات العامة قد استمدت مصر مظاهرها الفنية، والدينية، والاجتماعية. وما أقوله عن مصر يصح في آشور، وفارس، واليونان، ورومة، والعرب، وغيرها من الأمم الحديثة؛ أعني تلك التي ظهرت بعد انقضاء الأجيال المتوسطة.
قلت: إن للذات العامة حياة خاصة. نعم، ولما كان لكل حي عمر محدود كان لتلك الذات العامة أجل محدود لا تتجاوزه. ومثلما يسير الكيان الفردي من الطفولة إلى الشبيبة إلى الكهولة إلى الشيخوخة، هكذا يتدرج كيان الذات العامة، من يقظة الفجر الموشحة بنقاب النوم، إلى يقظة الظهر المتجلية بنور الشمس، إلى يقظة المساء المتسربلة بلباس التضجر، إلى يقظة الليل المغمورة بالنعاس، إلى سبات عميق.
Unknown page