Fi Calam Ruya
في عالم الرؤيا: مقالات مختارة لجبران خليل جبران
Genres
إن رسم المرأة التي أحبها قلبي لم يزل معلقا بجانب مضجعي، ورسائل الحب التي بعثت بها إلي ما برحت في العلبة الفضية المرصعة بالعقيق والمرجان، وذؤابة الشعر الذهبية التي حبتني بها تذكارا، لم تخرج قط من الغلاف الحريري المبطن بالمسك والبخور. جميع هذه الأشياء ستبقى في أماكنها حتى الصباح، وعندما يجيء الصباح أفتح نوافذ منزلي ليدخل الهواء ويحملها إلى ظلمة العدم إلي حيث تقطن السكينة الخرساء.
إن المرأة التي أحبها قلبي شبيهة بالنساء اللواتي أحبتهن قلوبكم أيها الفتيان. هي مخلوقة عجيبة، صنعتها الآلهة من وداعة الحمامة، وتقلبات الأفعى، وتيه الطاوس، وشراسة الذئب، وجمال الوردة البيضاء، وهول الليلة السوداء، مع قبضة من الرماد، وغرفة من زبد البحر.
وقد عرفت المرأة التي أحبها قلبي أيام الطفولية، فكنت أركض وراءها في الحقول وأتمسك بأذيالها في الشوارع.
وعرفتها أيام الصبا، فكنت أرى خيال وجهها في وجوه الكتب والأسفار، وأشاهد خطوط قامتها بين غيوم المساء، وأسمع نغمة صوتها متصاعدة مع خرير السواقي.
وعرفتها أيام الرجولية، فكنت أجالسها محدثا وأسألها مستفتيا، وأقترب منها شاكيا ما في قلبي من الأوجاع، باسطا ما في روحي من الأسرار.
كل ذلك كان بالأمس، والأمس حلم لا يعود. أما اليوم فقد ذهبت تلك المرأة إلى أرض بعيدة خالية مقفرة باردة، تدعى بلاد الخلو والنسيان. •••
أما اسم المرأة التي أحبها قلبي، فهو الحياة.
فالحياة امرأة حسناء تستهوي قلوبنا وتستفدي أرواحنا وتغمر وجداننا بالوعود، فإن أمطلت أماتت فينا الصبر، وإن أبرت أيقظت فينا الملل.
الحياة امرأة تستحم بدموع عشاقها، وتتعطر بدماء قتلاها. الحياة امرأة ترتدي بالأيام البيضاء المبطنة بالليالي السوداء. الحياة امرأة ترضى بالقلب البشري خليلا وتأباه حليلا. الحياة امرأة غاوية ولكنها جميلة، ومن ير غوايتها يكره جمالها.
الشاعر
Unknown page