إني أفهم هذا الوضع في التاجر يسترضي الجمهور؛ لأن نجاحة في تجارته يتوقف على رضاهم، وأفهم هذا في المغني يقول ما يعجب الناس؛ لأنه نصب نفسه لإرضائهم، واستخراج إعجابهم؛ ولكني لا أفهم هذا في قائد الجيش، فإن له مهما آخر، وهو أن يظفر بخصمه؛ فلو كان همه أن يسترضي جنده لا أن ينتصر على عدوه ما استحق لقب القيادة لحظة، ولكان الوضع الحقيقي أن الجند هم القادة والقادة هم الجند.
كذلك الشأن في قائد العلم وقائد الأدب، والمصلح الاجتماعي؛ فلكل منهم غرض يرمي إليه في علمه أوأدبه أو إصلاحه، وله خطة يريد أن يحمل الناس عليها رضوا أم كرهوا.
بل لا يعد المصلح مصلحا حتى ينبه الناس من غفلتهم، يحملهم على أن يتركوا ما ألفوا ضار، أو يعتنقوا ما كرهوا من صالح، وهو في أغلب أمره مغضوب عليه ممقوت. واصطلاح الجمهور والمصلحين ليس علامة تبشر بخير، بل هي في الغالب تدل على تراجع من المصلح وانتصار للعامة.
وقد كان المصلحون في الشرق إلى عهد قريب أشد الناس تعبا في الحياة، وأكثر تبرما بالجمهور؛ وأقربهم إلى عهدنا جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين، لقوا في دعوتهم من العذاب ألوانا، ولم يوفوا حقهم إلا بعد أن وافاهم الموت. أما اليوم فلست أرى حركة عنيفة بين القادة والرأي العام، ولا بين المصلح ومن يراد إصلاحه؛ وربما كان سبب ذلك أن القائد ينظر إلى نفسه أولا وقبل كل شيء وآخر كل شيء، قصد إلى أن يصفق له أكثر مما قصد لخدمة الحق، وقد وصل إلى درجة من إعجاب الجمهور يريد أن يزيدها أو يحتفظ بها، قد خلع ثياب القائد، وارتدى لباس التاجر؛ يبحث عما يعجبهم ليقول فيه شعره أو يكتب فيه مقالته ، أو يطنب في وصفه، ويبحث عما يسوءهم ليحمل عليه حمله شعواء بقلمه أو لسانه، كما يبحث تاجر الأزياء عن آخر طراز في الزي يقبل الناس على شرائه.
تلك أشد حالات الانحطاط في القيادة؛ فأول درس يتلقاه القائد أن يكون قليل الاهتمام بشخصه، كثير الاهتمام بالغرض الذي يرمي إليه في الإصلاح، سواء أكان إصلاحا لغويا أو أدبيا أو اجتماعيا أو دينيا، وأن ينظر إلى كل ما يجري حوله في هدوء، لا يسره إلا أن يرى الناس اقتربوا من غرضه ولو بسبه، ويضحي بالشهرة فتتبعه الشهرة، ويضحي بالحظ فيخدمه الحظ؛ بل سواء عليه عرف أم لم يعرف، وسواء عليه احتقر أم كرم، ما دام سائرا على المنهج الذي رسم، لا يشعر بأريحية إلا أن يصل إلى غرضه، أو يقرب منه؛ يحب المنتصرين لرأيه ويرحم الناقمين عليه، يرفض أن يلبس تاج الفخر إلا أن يكون من نسيج ما سعى إلى تحقيقه؛ إن كان هذا أول درس يتعلمه القائد فهو آخر درس أيضا.
أخشى أن يكون قادة الرأي فينا قد ملوا المقاومة فاستسلموا، وأن يكونوا قد استصعبوا الغاية فاستناموا، وأن يكونوا قد وقفوا مترددين قليلا بين عذاب الضمير وعذاب المعارضة فاحتملوا الأول، وأن يكونوا لطول ما لقوا قد رغبوا عن النظر إلى الأمام والتفتوا وراءهم إلى الرأي العام، فساروا أمامه في الطريق الذي يحبه هو لا الذي يحبونه هم، إن كان هذا فيالها من هزيمة.
أنى لنا بقادة في الرأي لا يتملقون إلا الحق؟
اللون الأصفر
لفت نظري - وأنا أدرس الحياة الاجتماعية في العصر العباسي - ما رأيت من كثرة ما كتب عن اللون الأصفر في هذا العصر، وحلوله محلا كبيرا غطى على كل الألوان الأخرى، وكثرة ما قيل فيه من أدب، فرأيت أن أعرض على القراء شيئا منه وأترك لعلماء الجمال ما يدل عليه انتشار اللون الأصفر في الشعوب من تحديد درجة الذوق في الرقي، وعلاقته بانتشار الخلاعة، ودلالته على مقدار ما وصلت إليه الأمة من حضارة. •••
رأيت العراقيين هاموا باللون الأصفر وتغزلوا بالوجوه الصفر، وصبغوا ثيابهم بالصفرة، وافتتنوا بالزهور الصفر، وأكثروا من اتخاذ الطعوم الصفر، ومدحوا الجواهر الصفر، وهكذا.
Unknown page