أريد بالرجولة صفة جامعة لكل صفات الشرف، من اعتداد بالنفس واحترام لها، وشعور عميق بأداء الواجب، مهما كلفه من نصب، وحماية لها في ذمته من أسرة وأمة ودين، وبذل الجهد في ترقيتها، والدفاع عنها، والاعتزاز بها، وإباء الضيم لنفسه ولها.
وهي صفة يمكن تحقيقها مهما اختلفت وظيفة الإنسان في الحياة؛ فالوزير الرجل من عد كرسيه تكليفا لا تشريفا، ورآه وسيلة للخدمة لا وسيلة للجاه، أول ما يفكر فيه قومه، وآخر ما يفكر فيه نفسه، يظل في كرسيه ما ظل محافظا على حقوق أمته، وأسهل شيء طلاقه يوم يشعر بتقصير في واجبه، أو يوم يرى أن غيره أقوى منه في حمل العبء، وأداء الواجب؛ يجيد فهم مركزه من أمته ومركز أمته من العالم، فيضع الأمور مواضعها ويرفض في إباء أن يكون يوما ما عونا للأجنبي عليها، فإذا أريد على ذلك قال: «لا» بملء فيه، فكانت «لا» منه خيرا من ألف «نعم» وكانت «لا» منه وساما تدل على رجولته وكانت «لا» منه خير درس للناشئين يتعلمون منه الرجولة - يقتل المسائل بحثا ودرسا، ويعرف فيها موضع الصواب والخطأ، ومقدار النفع والضرر، ثم يقدم في حزم على عمل ما رأى واعتقد، لا يعبأ بتصفيق المصفقين، ولا بذم القادحين، إنما يعبأ بشيء واحد هو صوت ضميره، ونداء شعوره.
والعالم الرجل من أدى رسالته لقومه من طريق علمه، يحتقر العناء يناله في سبيل حقيقة يكتشفها أو نظرية يبتكرها، ثم هو أمين على الحق لا يفرح بالجديد لجدته، ولا يكره القديم لقدمه، له صبر على الشك، وإغرام بالتفكير، وبطء في الجزم، وصبر على الشدائد، وازدراء بالإعلان عن النفس، وتقديس للحقيقة، صادفت هوى الناس أو أثارت سخطهم، جلبت مالا أو أوقعت في فقر، يفضل قول الحق وإن أهين على قول الباطل وإن كرم.
والصانع الرجل من بذل جهده في صناعته، فلم يشأ إلا أن يصل بصناعته إلى أرقى ما وصلت إليه في العالم، عشقها وهام بها حتى بلغ ذروتها، يشعر بأنه وطني في صناعته كوطنية السياسي في سياسته، وأن أمته تخدم من طريق الصناعة كما تخدم من طريق السياسة، وأن الصناعة لا تقل في بناء المجد القومي عن غيرها من شئون الدولة؛ فهو لهذا يحسن فنه، وهو لهذا يحسن سلوكه، وهو لهذا يرفض ربحا كثيرا مع الخداع، ويقنع بربح معتدل مع الصدق، وهو لهذا كله كان رجلا.
وفي الرجولة متسع للجميع؛ فالزارع في حقله قد يكون رجلا، والتلميذ في مدرسته قد يكون رجلا ، وكل ذي صناعة في صناعته قد يكون رجلا ، وليس يتطلب ذلك إلا الاعتزاز بالشرف وإباء المذلة. •••
من لنا ببرنامج دقيق للرجولة كالبرنامج الذي يوضع للتعليم، يبدأ يرعى الطفل في بيته، فيعلمه كيف يحافظ على الكلمة تصدر منه كما يحافظ على الصك يوقع عليه، ويعلمه كيف يكون رجلا في ألعابه، فيعدل بين أقرانه في اللعب كما يحب أن يعدلوا معه، ويلاعبهم بروح الرجولة من حب ومساواة ومرح في صدق وإخلاص.
ويسير مع التلميذ في مدرسته، فيعلمه كيف يحترم نفسه، وكيف لا يفعل الخطأ وإن غفلت عنه أعين الرقباء، ولا يغش في الامتحان ولو تركه المعلم وحده مع كتبه، وكيف يعطف على الضعفاء ويبذل لهم ما استطاع من معونة.
ويتمشى مع الطالب في جامعته فيعوده الاعتزاز بنفسه والاعتزاز بجامعته والاعتزاز بأمته، وببعثه على أن يفكر في غرض شريف له في الحياة يسعى لتحقيقة - حتى إذا ما أتم دراسته كان قاضيا رجلا، أو معلما رجلا، أو سياسيا رجلا، وعلى الجملة إنسانا رجلا.
ويتابع الأمة فيضع لها الأدب الذي يبعث قوة، والأناشيد والأغاني التي تملأ النفس أملا. ويراقب في شدة وحزم دور السينما والتمثيل والملاهي، فلا يسمح بما يضعف النفس ويثلم الشرف، ولا يسمح بما يحيي الشهوة ويميت العزيمة، ويأخذ على أيدي الساسة والحكام ورجال الشرطة، حتى لا يقسوا على الناس فيميتوهم، ولا يرهبوهم فيذلوهم.
من يبادلني فيأخذ كل برامج التعليم، وكل ميزانية الدولة، ويسلمني برنامجا للرجولة وميزانية لتنفيذه ليس غير؟
Unknown page