(29) ترجيح من غير مرجح مناف لحكمة الآمر وهو حكيم البتة قطعا ولنا فيه ثانيا لو كانا شرعيين لكان إرسال الرسل بلاء وفتنة لا رحمة لأنهم كانوا قبل ذلك في رفاهية لعدم صحة المؤاخذة بشئ مما يستلذه الإنسان ثم بعد مجئ الرسل صاروا ببعض تلك الأفاعيل في عذاب أبدى فأى فائدة في إرسال الرسل إلا التضييق وتعذيب عباده فصار بلاء هذا خلف لأنه رحمة يمن الله تعالى به على عباده في كثير من مواضع تنزيله واعلم أن هذا الدليل كما يدل على الحسن والقبح العقليين كذلك يدل على أن وجوب الإيمان وحرمة الكفر أيضا عقلى لأنه لو كان الكافر قبل بلوغ الدعوة معذورا لكان بعثة الرسل في حقه بلاء هذا ظاهر جدا فافهم وانا فيه ثالثا (أن حسن الإحسان وقبح مقابلته بالإساءة مما اتفق عليه العقلاء حتى من لا يقول بإرسال الرسل كالبراهمة فلولا أنه ذاتى) أى غير متوقف على الشرع (لم يكن كذلك) أى لما اتفق عليه (والجواب بأنه) يمنع كون الاتفاق لأجل ذاتية الحسن والقبح بل (يجوز أن يكون) حكمهم بهما (لمصلحة عامة لا يضرنا لأن رعاية المصلحة العامة) حينئذ (حسن بالضرورة) وإلا لما صار الإحسان لأجلها حسنا (وإنما يضرنا لو ادعينا أنه) أى الحسن (لذات الفعل) وليس كذلك (بل الدعوى عدم التوقف على الشرع) سواء كان بالذات أو بالعرض (ومنع الاتفاق على أنه مناط حكمه تعالى) أى التقريب غير تام لأنه لا إتفاق على كونهما مناطا للحكم (لا يمسنا) هذا المنع (فإنا لا نقول باستلزامه حكما منه تعالى بل ذلك بالسمع) ولم يورد الدليل إلا لإثبات نفس عقلية الحسن والقبح ولنا رابعا ما أورده مغيرا للأسلوب إشارة إلى التمريض بقوله (واستدل ) بأنه (إذا استوى الصدق والكذب في المقصود آثر العقل الصدق ) فلولا أن حسنه ذاتى لما آ ثر (وفيه أنه) أن أراد الاستواء في المقصود مع حصول جميع الأغراض وموافقة الجبلة فنقول (لا استواء في نفس الأمر لأن لكل منهما لوازم وعوارض) متغايرة (فهو تقدير مستحيل فيمنع الإيثار على ذلك التقدير) وأن أراد الاستواء في مقصود معين فلا يلزم منه ذاتية الحسن لجواز أن يكون الإيثار لمرجح آخر ولا أقل أن يكون ذلك هو الاعتياد وبما قررنا ظهر لك إندفاع أنه لا توجه له بالدليل فإنه إنما أخذ الاستواء نظرا إلى المقصود دون جميع العوارض واللوازم وتحققه يقينى ثم إن هاتين الحجتين مع قصورهما عن الدلالة على كلية المطلوب لا تخلو أن عن نوع خطابه إذ لقائل أن يقول يجوز أن يكون الاتفاق على حسن الإحسان وقبح الإساءة في مقابلته بمعنى كونهما صفة كمالية للحقيقة الإنسانية وصفة نقص لا بالمعنى المتنازع فيه وكذا إيثار الصدق أيضا
Page 42