109

Fath Andalus

فتح الأندلس

Genres

قالت: «هو رسول أرسلناه في مهمة وقد عاد إلينا، فهل تسرع في فتح الباب له حتى لا يضر به البرد؟»

فقال: «سمعا وطاعة.» وتناول عكازه ونزل، وظلت فلورندا وخالتها مطلتين من النافذة لتتحققا من الأمر، فإذا هو أجيلا بعينه على جواد. ولما دنا من الدير وقف الجواد وأجيلا ينظر إلى الدير ويضحك ضحكا شديدا، فلما رأته فلورندا يضحك استبشرت وانبسطت نفسها، ثم نادته قائلة: «أجيلا ...» فلم تسمع جوابا وكأنها لا تخاطب أحدا، فظنت أن هبوب الريح قد أضاع صوتها قبل وصوله إليه، ثم رأت الراهب الشيخ قد خرج من الدير حتى إذا أقبل عليه شهر عكازه وأخذ يضربه ضربا عنيفا وأجيلا لا يتحرك، والراهب يزداد عنفا في الضرب ويصيح ويستغيث بالرهبان الآخرين، فخرج اثنان منهم وفي يد كل منهما عصا غليظة، فأمسك أحدهما بزمام الفرس وعمل الآخر على ضرب الراكب حيثما اتفق وهو ساكت، فاستغربت فلورندا ذلك وتولتها الدهشة لما رأته من خشونة ذلك الضرب لغير سبب يدعو إليه، فجعلت تصيح بالرهبان تستمهلهم وتستفهم عن سبب تعديهم وهم لا يبالون بكلامها، فغضبت وتحولت من تلك الغرفة تريد غرفة الرئيس لتشكو إليه قسوة رهبانه، وسارت الخالة في أثرها حتى إذا نزلتا إلى باحة الدير قالت فلورندا لخالتها: «اذهبي أنت إلى الرئيس وأنا أخرج لمخاطبة أولئك الرهبان.» ثم نادت شانتيلا فلم تسمع جوابا، فأسرعت إلى باب الدير حتى خرجت منه، فرأت شانتيلا مع الرهبان يضرب أخاه أيضا، وقد أنزلوه عن الفرس وأمسك أحدهم برجليه، والآخر بيديه، وأخذ الاثنان الآخران يضربان على القدمين والكتفين ضربا موجعا، فازدادت دهشة واستغرابا وصاحت: «شانتيلا، ما هذا العمل؟» وهو لا يرد عليها ولا يبالي بقولها. وبعد هنيهة رأتهم قد هموا بأجيلا فحملوه وأسرعوا به إلى الدير، فوقفت فلورندا على حافة الطريق فإذا هو بين أيديهم لا يبدي حراكا، فظنته قد مات من شدة الضرب فكادت تبكي لغيظها وأسفها، ولكن الاستغراب ظل غالبا عليها، فلما دخلوا به سارت هي في أثرهم فصعدوا إلى غرفة حارس الباب، فتعقبتهم وهي لا تجسر على الكلام لئلا يصيبها حظ من ذلك الضرب، ولكنها كانت تتلفت يمينا وشمالا لعلها تجد الرئيس قادما لتستنجد به أو تستفهم منه، فإذا به قد أقبل مسرعا على السطح من جهة أخرى والعجوز في أثره وهي تشير إلى فلورندا أن تطمئن.

فأسرعت فلورندا إلى الرئيس وسألته عن سبب ذلك فقال: «لا تجزعي، فإنهم إنما يفعلون ذلك لحفظ حياته.»

قالت: «وكيف يحفظون حياته وقد أماتوه من الضرب؟»

فضحك الرئيس وقال: «يظهر أنك لم تسمعي (بالدنق).»

قالت: «وما الدنق، يا مولاي؟»

قال: «هو الموت من البرد الشديد، فالظاهر أن رسولك هذا أوشك على أن يدنق من البرد، فعمدوا إلى ضربه ليتحرك دمه وتعود إليه الحرارة فلا يموت ...»

قالت: «لم يكن يشكو بردا مطلقا، بل رأيته يضحك سرورا.»

فضحك الرئيس حتى قهقه وقال: «والضحك في البرد من علامات الدنق.» قال ذلك ودخل الحجرة وهو يقول: «اسقوه قليلا من الخمر وأدنوه من النار.»

فأسرع الراهب حارس الباب إلى إبريق في أحد أركان الحجرة، صب منه في كأس ودنا من الرجل، وتقدمت فلورندا نحوه أيضا وتفرست في وجهه فرأته قد فتح عينيه، ولكنه لا يزال منحل القوى، فتحققت مما قاله الرئيس وشكرت الله على إسعافه بالوسائل الفعالة.

Unknown page