وحدق فيهما طويلا كأنه يستطلع ما يجول في خاطره. فأطرق سالم تهيبا فقال أبو حامد: «أخاف أن تكون قد بحت لأحد بما أعددناه في فج الأخيار هناك. هناك في فج الأخيار قوتنا التي سيتم لنا بها الأمر فتنشئ دولة تخفق أعلامها على ضفاف النيل وضفاف الفرات.»
فلما سمع قوله اختلج قلبه في صدره؛ لعلمه أنه لم يحافظ على ذلك السر لكنه أسرع إلى طمأنته بأنه يستحيل أن يبوح بذلك السر، فهز رأسه وقال: «كيف أبوح به وعليه معولنا؟ كن مطمئنا.»
فصدقه وقال: «فاذهب إلى فراشك ... ولا تثق بأحد سواي.»
فهم بتقبيل يده، وخرج وظل أبو حامد وحده وقد أصبح بعد هذا الحديث كالجمل الهائج. وازداد احمرار عينيه حتى صارتا مثل عيني المحموم من شدة ما هاج في خاطره من البواعث. فلما خلا بنفسه جعل يخطر بالغرفة ذهابا وإيابا وهو يقضم أطراف شاربيه بأسنانه. وقد جعل يديه متصالبتين وراء ظهره وأخذ يناجي نفسه قائلا رحمك الله يا أبا عبد الله ... قد آن لي أن أنتقم لك من هؤلاء الغادرين ... فج الأخيار ... فج الأخيار في جبل إيكجان ... هناك دار الهجرة التي جعلها أبو عبد الله هجرة للأحزاب التي نصر بها العبيديين ... هي الآن هجرتنا وفيها الأموال التي ضربها أبو عبد الله عند أول الفتح ... هناك قوتنا ... وضحك ضحكة ظافر وقال: «أحب أن يبعث أبو عبد الله ويرى نجاحنا ... ولكن ...» وسكت وبلغ ريقه وأخذ في تبديل ثيابه للرقاد.
الفصل الثالث والعشرون
الضمير
أما لمياء فإنها قضت تلك الليلة وهي تتقلب كأنها على فراش من شوك القتاد ولم يغمض جفنها إلا في الفجر فنامت وتوالت عليها الأحلام المزعجة، واستغرقت في النوم من شدة التعب حتى صار الضحى فأفاقت على قرع الباب فاستيقظت مذعورة وتحركت عيناها وتذكرت حالها أمس فأسفت أنه لم يكن حلما. وبادرت إلى الباب ففتحته فرأت حاضنة أم الأمراء وحالما وقع بصرها عليها قالت: «كيف أم الأمراء عساها في خير!»
قالت: «قد استبطأتك فأرسلتني في السؤال عنك.»
فأحست بوخز ضميرها من ذلك التلطف؛ لعلمها بما دبروه لزوجها من المكائد لكنها تجلدت وقالت: «كان ينبغي لي أن أسرع إليها باكرا لكنني استغرقت في النوم.»
قالت: «لا بأس يا سيدتي فأنا ذاهبة لأطمئنها عنك.»
Unknown page