الفصل الثامن عشر
الرجوع
فتصدى والدها عند ذلك وقد سره اقتناع ابنته فقال: «بورك فيك يا ابنة صاحب سجلماسة، انهضي الآن وارجعي إلى قصر المعز إذا شئت ومتى سئلت عن الرضا بالخطبة فاجعلي أنك رضيت لأن أباك وأمير المؤمنين رضيا ... فهمت؟ هل أرسل معك من يوصلك إلى المنصورة (قصر المعز)؟»
فنهضت وهي تقول: «لا أحتاج إلى أحد.»
فاعترض سالم على ذلك وقال: «كيف تذهبين وحدك في هذا الليل أنا أرافقك إلى هناك ...»
فتذكرت أنها لا تلبث عند خروجها من معسكر أبيها أن تلتقي بالحسين بن جوهر، فكيف تجمع بين المتناظرين؟ فألحت على سالم أن لا يرافقها هو ولا سواه؛ لأنها أتت وحدها وتعود وحدها وهي متنكرة بلباس خدم القصر ولا تخاف أحدا. فقال لها أبوها: «ومع ذلك لا بأس من إرسال بعض الحرس في أثرك ولو عن بعد؛ لأننا لا نعلم ما يحدث.»
فاستحلفته أن لا يفعل فسكت وقبلها وودعها وودعت سالما والعم أبا حامد - ولكل منهم وداع خاص على شكل خاص - وأصلحت هندامها وخرجت وقد اشتد الظلام والأرض خالية بين المعسكرين لا أنيس فيها. فمشت حتى خرجت من معسكر والدها فما لبثت أن رأت شبحا يقترب نحوها عرفت حالا أنه الحسين كان في انتظارها وجاء لتشييعها إلى المنصورة فأحست عند رؤيته بوخز في ضميرها واحتقرت نفسها؛ لأنها كانت منذ ساعة صادقة اللهجة شريفة النفس لا يخامر ذهنها غش أو خداع وهي الآن خادعة غاشة، وهذا الشاب ينبغي أن تظهر له أنها تريده مكرا وكذبا وأصبحت تعد نفسها كالمؤامرة على قتله وقتل والده والخليفة المعز الذي هو ساهر على سلامته يفديه بروحه.
مرت هذه التصورات في ذهنها مرور البرق والحسين يمشي نحوها. فلما اقترب منها حياها باحترام ولم يزد على أن مشى بجانبها والإمام كالخادم المولج بإيصال مولاه إلى مقصد. فأكبرت منه هذا التلطف ولم تتمالك عن أن قالت: «لقد اتعبت نفسك يا سيدي في الانتظار طويلا في هذا الليل ...»
قال وهو يماشيها على مهل: «لم أتعب نفسي يا سيدتي؛ فإن ذلك فرض علي بل هو من بواعث سروري. كيف وجدت والدك الأمير؟ عساه أن يكون في خير!» قال ذلك وهو يشير إلى ما كان يتوقعه من أن يطلعها على خبر خطبته إياها ولم يكن يشك في أنها ستفرح به وتحسب نفسها سعيدة وأدركت هي غرضه من ذلك السؤال وأثر فيها تلطفه كثيرا فقالت: «إن والدي في خير، الحمد لله» وكانت تريد أن تزيد على ذلك أنه شاكر راض وأنه مشمول برضا أمير المؤمنين فلم تشأ أن تكذب فاقتصرت على هذا الجواب المختصر. فحمل ذلك منها محمل الحياء فعمد إلى مداعبتها فقال: «يسرني أن يكون والدك مسرورا ولكن يهمني أن تكوني أنت مسرورة أيضا.»
ففهمت مراده وشعرت بصدق طويته وخلوص نيته في حبها، وكيف هي تضمر غير ما تقول، فعظم ذلك عليها وشعرت بصغر نفسها وتلجلجت. لكنها تجلدت وأجابت «وأنا أيضا مسرورة لما أراه من التفات أمير المؤمنين وأم الأمراء، إنها بالحقيقة قدوة الأميرات - حفظها الله.»
Unknown page