ففهم الطبيب مراده فوافقه فدفعت لمياء الجراب إليه وخرجت مع يعقوب وركبتاها ترتعدان من هول ما سمعته ورأته، وعيناها شائعتان خارج المعسكر تبحث عن أبي حامد وسالم فلم تر لهما أثرا.
ولحظ يعقوب فيها قلقا، وأدرك ما يجول في خاطرها فأشار إليها أن تتبعه. فوقفت وهي تكاد تسقط من شدة الاضطراب والغضب، وقالت: «لا أستطيع المشي يا سيدي ... بالله ماذا رأيت ... ويل لك يا خائن ...»
فالتفت يعقوب إليها فوجد وجهها قد امتقع وتغيرت سحنتها ومشت وهي تتساند وتخاف السقوط. فأشار إلى السائس أن يقدم الدابة فأسرع إلى تقديمها وأعانها حتى ركبت وركب هو على دابة أخرى في أثرها ولحظ في أثناء الطريق أن لمياء منزعجة فأحس أنه مسئول عن سبب انزعاجها؛ لأنه هو الذي جمعها بذلك الخائن وإذا أصابها سوء فمن شدة تأثرها مما سمعته ورأته.
وبعد قليل وصلا إلى منزل المعلم يعقوب، فترجل والتفت إلى لمياء، فإذا هي لا تزال على بغلتها لا تتحرك ولم يعهد بها ذلك التواني، فتقدم نحوها ومد يده ليعينها على النزول. ولما لمست يده أحس بسخونتها وجفافها فاقشعر بدنه فناداها أن تنزل فنزلت وهي لا تستطيع حراكا فنادى بعض الخدم فأعانوه على حملها إلى دار النساء وهي غائبة عن رشدها كالمائتة، فتأسف يعقوب لما أصابها ونادى قهرمانة منزله وأشار إليها أن تسعف الفتاة بالتدابير المستعجلة ريثما يأتي الطبيب. وبعث رجلا يدعو الطبيب شالوم؛ إذ لا يريد أن يطلع أحد على وجودها عنده.
ظلت لمياء غائبة رغم ما استخدموه في إيقاظها من المنعشات والمنبهات وأبطأ الطبيب عن الحضور؛ لاشتغاله بالأمير كافور فاشتد القلق بيعقوب وأصبح لا يدري ماذا يعمل فخطر له أن يطلع الشريف مسلم على حالها؛ لأنه ذو شأن في الأمر فبعث إليه - وقد أظلم الظلام - فجاء ولمياء لا تزال في تلك الحال فسأله عن أمرها فقص عليه حقيقة خبرها. فجس نبضها فإذا هو يسرع كثيرا فعلم أنها مصابة بحمى شديدة ورأى الأولى أن ينقلها إلى منزله ليخدمها أهله ريثما يأتي الطبيب ويرى ما يكون. وكان قد استلطف الفتاة قبل أن يطلع على حقيقة أمرها مع الحسين بن جوهر وغيرتها على المعز وخبرها مع سالم، فلما اطلع على الحقيقة أحس بانعطاف شديد نحوها.
وأمر بمحفة حملوها عليها إلى منزله وأخذ على عاتقه أن يعالجها طبيب منزله.
الفصل الستون
الحلم
قضت لمياء في تلك الغيبوبة أياما لا تأكل ولا تشرب غير ما يسقونها إياه رغم إرادتها، ثم أفاقت وقد شحب لونها وبان الضعف في عينيها وحالما أفاقت التفتت إلى ما حولها وقد استغربت كل شيء لكن الناظر في عينيها يرى أنها لا تزال ضائعة رغم حركتها والتفاتها. وكان في الغرفة ساعتئذ الشريف مسلم نفسه وامرأة من أهله فتقدمت المرأة نحوها وقالت: «ماذا تريدين يا حبيبتي؟»
فلم تجبها لكنها عادت إلى استغراقها. وكانوا قد أعدوا لها لبنا تشربه فلم تستطع ذلك لأنها عادت إلى الرقاد فأمر الحكيم أن تسقى اللبن كرها. وكانت الحمى قد انخفضت والغيبوبة هذه المرة لم يطل مكثها. ففي صباح اليوم التالي سمعوها تئن أنينا شديدا كأنها تشكو ضيقا. فأسرع مسلم إليها فسمعها تقول بأعلى صوتها: «حسين! حسين! تبا لهم قبضوا عليك ... دعوه قبحكم الله. أما كفاكم ما فعلتموه بأبي؟ آه آه ...» وسكتت ثم فتحت عينيها فجأة والتفتت إلى مسلم وهو واقف إلى جانبها وتفرست فيه وقد عاد إليها رشدها فعرفته فقالت: «العفو يا سيدي؟ أنت هنا. أين أنا؟ ماذا جرى لي. أين الحسين؟ قد قبضوا عليه؟ ويل لهم ...» وشرقت بدموعها.
Unknown page