الفصل الخامس
حماد
أما حماد فإنه عاد من صرح الغدير تلك الليلة وهو يكاد يعثر بأذياله لانشغال باله بهند وما برحت ألفاظها ترن في أذنيه وهي قولها (سنلتقي غدا في دير بحيراء).
فلما خرج من الصرح لقيه خادمه وكان ينتظره والفرس بقرب الخيام فنزع الدرع عنه وجعلها في خرج على الفرس وركب وسار يطلب منزله وكان مقيما في قرية غربي مدينة بصرى وعلى ستة أميال يقال لها غسام ولم يأت حماد الشام إلا منذ بضعة أشهر جاءها لأمر لا يعلمه إلا واحد. فأقام في منزله المشار إليه يقضي بعض نهاره في البيت وبعضه في الصيد فيصطحب رجلا يظنه والده ومعه بعض الخدم فيخرجون للصيد في ضواحي البلقاء فيعودون وقد اصطادوا بعض الغزلان أو غيرها.
وكان قد تعود ركوب الخيل منذ صباه ومارس الفروسية وفرسه من أجود خيول العرب. وكان قد سمع بهند وقرأ شعرا في وصفها قبل خروجه من بلاده فعلق بها عن بعد ثم دعاه والده أن يصحبه إلى الشام فعول في باطن سره على السعي في التقرب منها لأنه يظن نفسه دونها مقاما. فأخذ منذ قدومه الشام يتردد إلى جهات صرح الغدير راكبا أو ماشيا يتعلل بالمرور هناك لعله يشاهدها وكان ينزل الغدير أحيانا فتراه ويراها وهي لا تفقه لمراده وكلما سمع باحتفال عمومي جاءته هند في الكنائس أو غيرها أسرع إليه وسعى في استلفات انتباهها فكانت إذا رأته ارتاحت إلى رؤيته لجماله وهيبته ورزانته. فلما كان السباق الماضي حضره لأول مرة فأظهر من الفروسية والشهامة وكرم الأخلاق ما زادها ارتياحا إلى مشاهدته واتفق أنها نزلت ذلك السباق هي نفسها فتخاطبا وتبادلا رموزا لا غنى عنها في أوائل الحب فنزل من قلبها منزلا رفيعا وصارت تشعر بشوق إلى رؤيته إذا غاب عنها على أن ميلها هذا لم يكن تجاوز حد الارتياح ولا خطر ببالها أمر الاقتران به على أنها فهمت من إشاراته وحركاته وسائر أحواله أنه طامع بها ولكنها كانت تجهل الحب وسلطانه فلم يذق قلبها طعمه على أنها آنست في حماد أخلاقا وأطوارا تنطبق على أخلاقها وأطوارها من حيث التعقل والرزانة والميل إلى الشهامة والحرية.
فلما شاهدت ما شاهدته في السباق الأخير من شهامته وحريته تقرر في ذهنها أنها خلقت وخلق لها وهذه أول مرة خطر ببالها أمر الاقتران به وساعدها على ذلك ما آنست من ارتياح والدتها إليه وامتداحها شهامته والثناء على مروءته ولكن أمرا واحدا كان يعترضها فيوقفها عن عزمها وهو تستر حماد وكتمان أصله فخافت أن لا يكون ذا حسب يضاهى حسبها أو يقرب منه أو أن يكون على مذهب غير مذهبها فإن العرب كانوا إذ ذاك على مذاهب شتى وفيهم النصارى واليهود والوثنيون والمجوس وظهر في أثناء ذلك الإسلام لكنه لم يكن قد أدرك الشام بعد. على أن الوثنية والمجوسية واليهودية كانت محصورة في جزيرة العرب فكانت المجوسية في بني تميم واليهودية في نمير وبني كنانة وكندة وغيرهم وكان كثير من اليهود في يثرب ناهيك عن خيبر والأوس والخزرج الذين قدموا يثرب بعد سيل العرم وفيهم بنو قريظة والنضير وبنو قينقاع وما هم بالحقيقة من العرب بل هم حلفاؤهم وكانت عرب تلك الجزيرة يقدمون الشام وبصرى وفيهم الوثني والمجوسي واليهودي والنصراني وغيرهم وهم إنما يقدمون للتجارة فيمكثون ببصرى أو في دمشق الشام أو غيرهما بضعة أسابيع أو بضعة أشهر ويعودون.
فخافت هند أن يكون حماد وثنيا أو مجوسيا فيمتنع الاقتران بينهما فطلبت الاجتماع به في الدير لتتحرى ذلك كله.
فلنعد إلى حماد ليلة خروجه من القصر فإنه ساق جواده زميلا وخادمه يجرى إلى جانبه وهو يريد أن يدرك منزله قبل أن يقلق والده لغيابه لأنه فارقه من فجر ذلك اليوم ولم يعد يراه.
وبينما هو في ذلك سمع وقع أقدام جواد مسرع نحوه وصوتا يناديه: «حماد» فقال: «نعم يا أبتي ألعلكم خرجتم للتفتيش عني.»
قال: «كيف لا نخرج وقد أبطأت علينا في العود وها قد مضى هزيع من الليل ونحن كما تعلم في ديار الغربة.»
Unknown page