منك، وكان أبوه أحب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من أبيك.» وفرض لأسماء بنت عميس زوج أبي بكر ألف درهم، فزادهن ولأم كلثوم بنت عقبة ألف درهم، ولأم عبد الله بن مسعود ألف درهم، على أمثالهن لمكانتهن الخاصة إذ كن أزواجا وأمهات لرجال لهم على غيرهم منزلة وفضل.
وكان عمر حريصا على أن يبلغ كل ذي حظ في العطاء حظه، حتى لكان يجشم نفسه في ذلك المتاعب، روي عن حزام بن هشام الكعبي عن أبيه أنه قال: رأيت عمر بن الخطاب يحمل ديوان خزاعة حتى ينزل قديدا، فلا يغيب عنه امرأة بكر ولا ثيب فيعطيهن في أيديهن، ثم يروح فينزل عسفان فيفعل مثل ذلك أيضا حتى توفي، وكتب عمر إلى حذيفة أن أعط الناس أعطيتهم وأرزاقهم، فكتب إليه: «إنا قد فعلنا وبقي شيء كثير.» فكتب إليه عمر: «إنه فيؤهم الذي أفاء الله عليهم، فليس هو لعمر ولا لآل عمر؛ اقسمه بينهم.»
وإنما كتب عمر هذا الكتاب إلى حذيفة؛ لأن الدواوين، وهي سجلات العطاء، لم تكن كلها بالمدينة، بل كان كل ديوان على حدة عند والي البلد أو القبيلة التي فرض فيها لأهل العطاء، فكان ديوان حمير على حدة عند والي اليمن، وديوان البصرة عند واليها، وديوان كل إمارة عند أميرها، بهذا أصبح كل رجل من المسلمين يقبض عطاءه من البلد الذي هو فيه، وأصبح كل وال مسئولا عن إيصال العطاء إلى أصحابه في ولايته، كما كان عمر يوصل العطاء لأصحابه في المدينة، وفيما حولها من الأرجاء الداخلة في نطاقها.
متى دون عمر الديوان وفرض العطاء؟ ذلك أمر اختلف فيه، يقول الطبري: إنه كان في السنة الخامسة عشرة للهجرة، ويقول ابن سعد: إنه كان في محرم سنة عشرين، وقد يتعذر القطع أي التاريخين أصح، فلما يكن الفتح في السنة الخامسة عشرة قد بلغ المدائن، لكن سواد العراق كان مع ذلك قد صار في يد المسلمين؛ ولما تكن بيت المقدس قد فتحت أبوابها لعمر، لكن المسلمين كانوا قد استولوا على دمشق وطهروا الأردن وتقدموا إلى حمص وقنسرين، أترى عمر رأى فيما يجبى إلى المدينة من سواد العراق ومن بلاد الشام ما أدى به إلى تدوين الديوان؟ ذلك ما يقوله الطبري، أم هو لم يدون الديوان حتى تم فتح العراق والشام، وجبى منهما الجزية والخراج، وكثر بذلك ما يرد إليه من المال، حتى لقد حار أيعده عدا أم يكيله كيلا إلى أن أشير عليه بتدوين الديوان، فكان ذلك سنة عشرين على ما يقول ابن سعد؟ أراني أميل إلى هذا الرأي الأخير وإن كنت لا أستطيع القطع به، وإنما يميل بي إليه أن تدوين الديوان لا يمكن أن يعتمد على الفيء الذي يرد من الغزو، فالفيء مورد غير ثابت، وعطاء الديوان مصرف سنوي ثابت، لا بد إذن أنه اعتمد على الجزية والخراج، ولم تبلغ الجزية ولم يبلغ الخراج المبلغ الذي يسع عطاء العرب جميعا في التاريخ الذي يذكر الطبري أنه دون فيه.
لم يكن العرب في شبه الجزيرة وفي البلاد المفتوحة أقل حرصا على قبض أعطياتهم من عمر على إيصالها إليهم، ولم لا يفعلون، وكان هو يحضهم على ذلك ويحرضهم عليه، ويدعوهم لحسن استغلال ما يقبضونه، فيقول: «لو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء العريب ابتاع منه غنما فجعلها بسوادهم، ثم إذا خرج العطاء ثانية ابتاع الرأس فجعله فيها! فإني أخاف عليكم أن يليكم بعدي ولاة لا يعد العطاء في زمانهم مالا، فإن بقي أحد منهم أو أحد من ولوه كان لهم شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه.» وكان أكثرهم يعملون بنصيحة عمر.
على أن طائفة ممن ميزهم عمر في العطاء كانوا يتصدقون به، روي أن أم المؤمنين زينب بنت جحش قالت حين دخل عليها العطاء: غفر الله لعمر! غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني، قيل: هذا كله لك، قالت: سبحان الله واستترت منه بثوب، وقالت: صبوه واطرحوا عليه ثوبا، ثم قالت لبرزة بنت رافع: أدخلي يدك فاقبضي منه قبضة فاذهبي بها إلى بني فلان وبني فلان، من أهل رحمها وأيتامها؛ حتى بقيت بقية تحت الثوب، فقالت لها برزة: غفر الله لك يا أم المؤمنين! والله لقد كان لنا في هذا حق! قالت: فكم ما تحت الثوب، فلما كشفوا الثوب لم يجدوا إلا خمسة وثمانين درهما، ثم رفعت زينب يدها إلى السماء فقالت: اللهم لا يدركني عطاء لعمر بعد عامي هذا! واستجاب لها ربها فقبضها إليه.
كان ذلك شأن أم المؤمنين زينب، وشأن أفراد قليلين غيرها، فأما الأكثرون فكانوا يقبضون عطاءهم ويثمرونه في التجارة؛ لذلك أسرعت ثروة أصحاب العطاء الذين يعدون بالألوف إلى الزيادة أضعافا مضاعفة، فظهرت بين الطبقات فوارق تأثر بها النظام الاجتماعي تأثرا واضحا، لفت عمر ودعاه للتفكير في الأمر والتماس الوسيلة لإعادة النظر فيه، وقد انتهى به الرأي إلى تفضيل ما جرى الصديق عليه من تسوية بين المسلمين في قسمة الفيء، وود لو صنع صنيعه في أمر العطاء؛ لذلك قال: «والله لئن بقيت إلى هذا العام المقبل لألحقن آخر الناس بأولهم، ولأجعلنهم رجلا واحدا!» وقال: «لئن بقيت إلى الحول لألحقن أسفل الناس بأعلاهم!» وهو قد كان مع ذلك يدرك أن التسوية، بنقص العطاء الذي فرضه لمن ميزهم، ربما جرت إلى امتعاض لا تحسن مغبته، فكان أكبر همه أن يرفع عطاء ذوي العطاء القليل ليساويهم بمن زاد عطاؤهم، وذلك قوله: «لئن عشت حتى يكثر المال لأجعلن عطاء الرجل المسلم ثلاثة آلاف: ألف لكراعه وسلاحه، وألف نفقة له، وألف نفقة لأهله.» لكنه لم يبق إلى الحول، بل قتل هذا العام المقبل، فبقيت الطبقات، ثم كان لبقائها من الأثر في حياة الأمة الإسلامية من بعد ما لا يدخل تفصيله في نطاق هذا الكتاب.
لم ينشئ عمر ديوان العطاء وحسب؛ فقد قيل: إن أول ديوان وضع في الإسلام هو ديوان الإنشاء، وإن دواوين الشام كانت تكتب بالرومية، ودواوين العراق بالفارسية، ودواوين مصر بالقبطية، يتولاها الفرس والروم والقبط دون المسلمين، وقد كان إنشاء هذا الديوان، كما كان إنشاء ديوان الخراج وتشييد مصنع السكة لضرب النقود وإقامة بيوت المال في مختلف الأمصار، مما قضى به التطور السريع الذي أدى إليه الفتح وانتشار المسلمين في أقطار الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، أما قبل ذلك فلم يكن للدولة الإسلامية شيء من هذه الدواوين، فقد كان من أصحاب رسول الله
Unknown page