192

وسمع عمر ليلة بكاء صبي فتوجه نحوه، فقال لأمه: اتقي الله تعالى، وأحسني إلى صبيك! فلما كان بعد قليل سمع بكاء الطفل كرة أخرى، فعاد إلى أمه يقول لها مثل قوله الأول، فلما كان آخر الليل سمع بكاء الصبي، فأتى إلى أمه فقال لها: ويحك أم سوء! ما لي أرى ابنك لا يقر منذ الليلة من البكاء؟! قالت الأم: يا عبد الله إني أسكته عن الطعام فيأبى ذلك، قال عمر: ولم؟ قالت: لأن عمر لا يفرض إلا للمفطوم، قال: وكم عمر ابنك هذا؟ قالت: كذا وكذا شهرا، فقال: ويحك! لا تعجليه عن الفطام! فلما صلى الصبح انفتل إلى الناس وقال لهم والدمع يملأ عينيه: بؤسا لعمر! كم قتل من أولاد المسلمين! ثم أمر مناديه فنادى: لا تعجلوا صبيانكم عن الفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام، وكتب بذلك إلى الآفاق.

وليس يجهل أحد قصة عمر إذ مر في أعجاز الليل بامرأة يتضاغى صبيانها حول قدر منصوبة على النار، فسألها: لم يتألمون؟ فقالت: من الجوع. قال: وأي شيء على النار؟ قالت: ماء أعللهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر. فهرول عمر راجعا إلى دار الدقيق فأخذ منها جراب شحم وعدلا من الدقيق وعاد بهما يحملهما على ظهره ووضع من الدقيق في القدر وألقى عليه الشحم، وجعل ينفخ النار تحت القدر، حتى إذا طاب الطعام ناوله الأطفال فأكلوا وشبعوا وناموا، وانصرف من عند المرأة وهي لا تعرفه وهو يقول: الجوع الذي أسهرهم وأبكاهم!

حبب هذا الحنان وهذا البر حكم عمر إلى الناس، وجعلهم يرون الخليفة أبا لكل ضعيف وكل يتيم وكل محروم، ثم حبب الفاروق إليهم عدل كان سليقة فيه، وحب للحرية والمساواة أيسره أنه كان يساوي نفسه بالضعفاء والفقراء، كان من أول ما خطب به الناس قوله:

والله ما فيكم أحد أقوى عندي من الضعيف حتى آخذ له الحق، ولا أضعف عندي من القوي حتى آخذ الحق منه.

وخطبهم يوما فقال:

إني لم أستعمل عليكم عمالا ليضربوا أبشاركم وليشتموا أعراضكم ويأخذوا أموالكم، ولكني استعملتهم ليعلموكم كتاب ربكم وسنة نبيكم، فمن ظلمه عامله بمظلمة فلا إذن له علي ليرفعها إلي حتى أقصه منه.

وكتب إلى أمراء الأجناد:

لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحرموهم فتكفروهم، ولا تجمروهم فتفتنوهم، ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.

وهو إنما كتب بذلك إلى أمراء الأجناد فيما لم يكن يستطيع أن يليه بنفسه؛ فأما ما قدر على مباشرته فلم يكن يكله إلى أحد غيره، وأنت تذكر كلمته أول خلافته: «والله لا يحضرني شيء من أمركم فيليه أحد من دوني.» وقد بلغ من صدقه في ذلك أنه كان يلي الكبير والصغير من الشئون، فكما كان ينظم شئون الجند ويولي العمال ويدبر سياسة الدولة ويقضي بين الناس بالعدل، كان لا يذر صغيرة يستطيعها إلا قام بها، رآه علي بن أبي طالب يعدو إلى ظاهر المدينة، فقال له: إلى أين يا أمير المؤمنين؟ قال: قد ند بعير من إبل الصدقة فأنا أطلبه، قال علي: قد أتعبت الخلفاء من بعدك! وجاء عمر إلى عبد الرحمن بن عوف وهو يصلي ليلا، فقال له عبد الرحمن: ما جاء بك في هذه الساعة؟ قال: رفقة نزلت في ناحية من السوق خشيت عليهم سراق المدينة، فانطلق فلنحرسهم، فأتيا السوق فقعدا على نشز من الأرض يتحدثان، وبصرا بمصباح فقال عمر: ألم أنه عن المصابيح بعد النوم! وانطلقا فإذا قوم على شراب لهم عرف عمر أحدهم، فلما أصبح دعاه إليه وقال له: كنت وأصحابك البارحة على شراب، قال: وما أعلمك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر: شيء شهدته، وأجابه الرجل: أولم ينهك الله عن التجسس؟ فتجاوز عمر عنه.

وبلغ من حرصه في آخر عهده على أن ينظر في أمور الناس بنفسه أن ود أن يتنقل في أرجاء الإمبراطورية يتفقد شئونها ويرى تصرف عماله فيها، روي عنه بعد فتح مصر أنه قال: «لئن عشت إن شاء الله لأسيرن في الرعية حولا كاملا، فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني؛ أما عمالهم فلا يرفعونها إلي، فأما هم فلا يصلون إلي، فأسير إلى الشام فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البحرين فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة فأقيم بها شهرين، ثم أسير إلى البصرة فأقيم بها شهرين، والله لنعم الحول هذا!» لكن الأجل لم يطل به ليتم ما أراده.

Unknown page