لم ينزعج عمر بن الخطاب لهذا الكتاب، بل رأى أن يأخذ ابن العاص بالشدة، وألا تلين قناته له مخافة استرساله، فكتب إليه يقول:
أما بعد، فقد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلي ببنيات الطرق، وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين، ولم أقدمك إلى مصر أجعلها طعمة لك ولا لقومك؛ ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك، فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين، وعندي من قد تعلم قوم محصورون والسلام.
كان جواب عمرو على هذا الخطاب أقل عنفا، ولكن إصراره فيه على سياسته لم يكن أقل وضوحا وبروزا، ترى ذلك صريحا في قوله:
أما بعد، فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج، ويزعم أني أعند عن الحق وأنكب عن الطريق، وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم! ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم، فنظرت، فكان الرفق بهم خيرا من أن يخرق بهم، فيصيروا إلى بيع ما لا غنى لهم عنه والسلام.
لعلك توافقني، وقد قرأت هذه الكتب، على أنه لا يسهل علينا تصور إمكانها اليوم بين حاكم له سلطان عمر، وعامله على بلاد فتحها، فهذا ابن العاص يصر على ألا يرهق المصريين بجباية الخراج قبل أن يدرك الزرع، وألا يزيده عليهم حتى لا يؤذيهم ويحملهم على بيع ما هم في حاجة إليه لمعاشهم وسعيهم، ويرى في الرفق بهم ما يزيدهم حرصا على أداء ما يطلب منهم من غير تذمر أو شكاية، وهذا عمر يرى الخراج الذي يجبى من مصر دون ما كان يجبيه الروم وما كان يجبيه الفراعنة،
12
فلا يرى في حجج عمرو إلا تسويفا ومطلا وتعللا غير مقبول، ثم يبلغ الريب منه فيها أن يراها معاذير يشوبها الكذب، يريد ابن العاص أن يستر تقصيره، بل أن يستر ما يضمره لنفسه ولقومه من ملك مصر الطويل العريض.
ولقد ضاق عمر آخر الأمر ذرعا بهذه الكتب، ورأى فيها نذيرا إن لم يتداركه بما عرف من شدته تفاقم الأمر بينه وبين عمرو تفاقما قد ينتهي إلى غير ما يحب؛ لذلك انتقل إلى الاتهام الصريح، ثم إلى التحقيق مع عمرو فيما كسب من مال في أثناء ولايته مصر، فقد كتب إليه يقول: «إنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن لك حين وليت مصر.» وأجابه عمرو: «إن أرضنا أرض مزدرع ومتجر، فنحن نصيب فضلا عما نحتاج إليه لنفقتنا.» فكان رد الخليفة: «إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إلي كتاب من قد أقلقه الأخذ بالحق، وقد سؤت بك ظنا، ووجهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك، فأطلعه طلعه وأخرج إليه ما يطالبك، وأعفه من الغلظة عليك فإنه برح الخفاء.»
وذهب ابن مسلمة إلى مصر فقاسم عمرا ماله، فقال له عمرو: «إن زمانا عاملنا فيه ابن حنتمة هذه المعاملة لزمان سوء! لقد كان العاص يلبس الخز بكفاف الديباج.» وأجابه ابن مسلمة: «مه! لولا زمان ابن حنتمة هذا الذي تكرهه ألفيت معتقلا عنزا بفناء بيتك يسرك غزرها ويسوءك بكؤها.» قال عمرو: «أنشدك الله ألا تخبر عمر بقولي؛ فإن المجالس بالأمانة.» وأجابه ابن مسلمة: «لا أذكر شيئا مما جرى بيننا وعمر حي.»
13
Unknown page