ترى هل استمد الخيال قصة عروس النيل من هذه التماثيل التي كانت تلقى في النهر، فنفخ الحياة في خشب الجميز وفي غيره من المواد التي كانت تصنع التماثيل منها؟ وهل الإلهة «ربيت» زوجة النيل هي التي أمدت الخيال بفكرة العروس العذراء النابضة بالحياة؟ أيا ما يكن الأمر فالقصة كما ترى أسطورة من أولها إلى آخرها زينها الوهم، ثم خلع القدم على الوهم صورة الحقيقة، فإذا للنيل عروس من بنات حواء تلقى فيه في ريعان شبابها وفي ثياب زينتها، وإذا المؤرخون يتناقلون هذه الأسطورة على أنها حقيقة بقيت على الحياة القرون الطوال، وما أدري أيقضى على هذه الأسطورة بعد أن فندها المؤرخون وفندها الأستاذ سليم حسن هذا التفنيد العلمي الدقيق، أم يبقى من الناس من يذكرها ويتوهم أنها حقيقة في يوم من الأيام؟!
9
أما وقد فندنا أسطورة عروس النيل فلننتقل إلى أسطورة أخرى ألقت على عمر بن الخطاب وعلى المسلمين في عهده تهمة شنعية ظل المؤرخون يتناقلونها قرونا عدة، ولا يرى المؤرخون المسلمون في روايتها ما يدعوهم إلى تمحيصها؛ تلك التهمة هي إحراق مكتبة الإسكندرية، ولعل المهارة التي زيفت بها هي التي هونت أمرها على المسلمين كل تلك القرون، ويجب أن نعترف أن الفضل في الكشف عن زيفها يرجع إلى المستشرفين الذين محصوها وفندوها منذ القرن التاسع عشر، وأن لبتلر أكبر الفضل في القضاء عليها قضاء حاسما بما أورد من حجج لا يتردد إنسان بعدها في القطع بزيفها وكذبها من أساسها.
ويزيد في شناعة هذه التهمة الباطلة التي ألصقت بعمر وبالمسلمين في عهده أن مكتبة الإسكندرية كانت أعظم مكتبة في العالم، وكان فيها من نفائس الكتب في كل العلوم والفنون ما قل نظيره في مكاتب العالم الحاضر، فقد أنشأها البطالسة، وجمعوا فيها سبعمائة ألف مجلد، وجعلوها في عدة أبهاء من أبنية متحف الإسكندرية المجاور لقصور الملك، وكانت أبنية هذه المكتبة العظيمة تتصل بأبنية مدرسة الطب والتشريح والجراحة، ومدرسة الرياضيات والفلك، ومدرسة القانون والفلسفة، وببناء المرصد، ومكان الحديقة التي خصصت لدراسة علم النبات، بذلك كانت المكتبة والجامعة المتصلة بها أعظم مركز لثقافة العالم في ذلك العصر، ولا ريب أن إحراق مكتبة ذلك شأنها جرم فظيع، وجناية على الإنسانية لا يرتكبها متعمدا إلا الهمج ومن كانوا في مثل درجتهم من الوحشية.
مع ذلك ألصقت هذه التهمة بعمر بن الخطاب وبالمسلمين في عهده، وظلت لاصقة بهم عدة قرون كانت خلالها سببا في تجني المتجنين وطعن الطاعنين عليهم، ثم ظلت كذلك حتى نفاها العلم فلم يبق من يذكرها إلا لينكرها، ولو أن المتقدمين من المؤرخين كانوا يعنون بنقد الحوادث، ويدققون في تمحيصها لتيسر لهم تبين الزيف فيها، ولما ظل التاريخ في ضلال ستة قرون، وأيسر ما كان يهديهم لزيفها أنها لم ترد في كتاب طيلة القرون الخمسة التي تلت فتح المسلمين مصر، مع أن المؤرخين الذين سجلوا تاريخ هذه الفترة بينهم مصريون ومسيحيون لم يدعوا منقصة يمكن أن تنسب للعرب إلا أثبتوها، ثم لم يذكر أحد منهم شيئا عن مكتبة الإسكندرية وإحراقها.
ولعل هذه الأسطورة نجمت في بيئات الشيعة، فذكرها أبو الحسن القفطي في كتابه: «تاريخ الحكماء»، ونقلها عنه أبو الفرج بن العبري، وكلاهما عاش في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد تداولها عنهما من جاء بعدهما من المؤرخين، وقد أحكموا حبكها، وفي وسعك أن تتبين هذا الإحكام من طريقة روايتها، فقد ذكروا أن قسيسا من القبط يدعى حنا
10
النحوي عزله مجمع الأساقفة لزيغ في عقيدته، كان قد اتصل بعد الفتح بعمرو بن العاص، فلقي عنده حظوة لذكائه وصفاء ذهنه وغزارة علمه، فلما اطمأن إلى إقبال عمرو عليه قال له يوما: «لقد رأيت المدينة كلها وختمت على ما فيها من التحف، ولست أطلب إليك شيئا مما تنتفع به، بل شيئا لا نفع له عندك وهو عندنا نافع.» وسأله عمرو: ما يعني بقوله؛ فأجاب: «أعني بقولي ما في خزائن الروم من كتب الحكمة.» فقال له عمرو: «إن ذلك أمر ليس لي أن أقتطع فيه رأيا دون إذن الخليفة.» ثم إنه بعث إلى عمر يسأله رأيه في الأمر، فجاءه الرد من المدينة وفيه ما يأتي: «وأما ما ذكرت من أمر الكتب فإذا كان ما جاء بها يوافق ما جاء في كتاب الله فلا حاجة لنا به، وإذا خالفه فلا أرب لنا فيها وأحرقها.» فلما جاء هذا الكتاب إلى عمرو أمر بالكتب فوزعت على حمامات الإسكندرية لتوقد بها، فما زالوا يوقدون بها ستة أشهر، هذه خلاصة وجيزة لرواية القفطي، وقد أردفها بقوله: «فاسمع لما جرى واعجب!»
أنت ترى براعة الحبك في هذه القصة، فحوار بين حنا وعمرو، وكتاب من عمرو إلى الخليفة، ورد من الخليفة يأمر بإحراق المكتبة، وتفصيل دقيق للطريقة التي نفذ بها هذا الأمر، كيف يبقى بعد ذلك كله أي ريب في صحة هذه الوقائع؟ وكيف يخالج المؤرخين المسلمين فيها الشك وقد كتبت في القرن السادس الإسلامي حين جمد التفكير والنقد، وأصبح جهد المؤلفين مقصورا على نقل الروايات التي ذكرها من سبقهم دون تمحيصها لمعرفة صحيحها من باطلها، فليثبت المؤرخون المسلمون هذه القصة العجيبة كما هي، ولينقلها الخلف منهم عن السلف؛ وليذكرها المؤرخون المسيحيون مؤمنين بصحتها، وليعلقوا عليها بما يشاءون، فهم لم يكونوا يتصورون الإسلام والمسلمين إلا اقترنا في أذهانهم بالتعصب المذموم والقسوة الوحشية، ولتبق هذه الوقائع مقطوعا بصحتها حتى يلقي عليها النقد العلمي ضياءه الكشاف فيظهر بطلانها، فيزيفها «جبون» ويزيفها «سديو»، ويزيفها «رينان» ويزيفها «جستاف ليبون»، ويزيفها «بتلر» ويزيفها غير هؤلاء من المؤرخين، ثم تزيفها دوائر المعارف البريطانية والإسلامية وغيرها، ويزيفها تاريخ المؤرخ، ويذكر في تزييفها ونفيها ما قرره علماء المسلمين صراحة من «أن ما يغنم في الحرب من كتب اليهود والمسيحيين الدينية لا يجوز بحال أن يقدم طعاما للنار، وأن مؤلفات العلماء والمؤرخين والشعراء وعلماء الطبيعة والفلاسفة يحق الانتفاع بها لخير المؤمنين.» ولا تحسب أن المؤرخين اكتفوا في نفي هذه الأسطورة بالاستناد إلى مثل هذا الاعتبار العام؛ فقد تناولوها بالتمحيص حتى ثبت لهم أنها لا تثبت له، ثم نفوا حوادثها واحدة واحدة نفيا علميا دقيقا مستندا إلى أوثق المصادر.
فليس صحيحا أن حنا النحوي تحدث إلى عمرو بن العاص في أمر المكتبة أو في أمر غيرها؛ لأن حنا النحوي مات قبل دخول المسلمين مصر، فالثابت أنه كان يكتب قبل سنة 527م؛ أي قبل دخول العرب مصر بخمس عشرة ومائة سنة، فإذا فرضنا أنه كان يكتب وهو في العشرين لكانت سنه خمسا وثلاثين ومائة سنة، وهذا غير معقول، فلم يعرف أن الناس في مصر يكتبون في مثل هذه السن.
Unknown page