181

يقول المؤرخون المسلمون: فلما ورد الكتاب على عمر بن الخطاب وقرأه قال: «لله درك يا ابن العاص! لقد وصفت لي خبرا كأنني أشاهده.»

وبعض النقاد ينفون نسبة هذا الكتاب إلى ابن العاص، ونقاد الأدب أشد بهذا النفي تشبثا، فهم يرون أسلوب الكتاب وما فيه من محسنات بديعية لا يتفق وأسلوب العهد الإسلامي الأول، ولا يتسق وما وصل إلينا من كتب عمرو الأخرى، وتلك لعمري حجة لها قيمتها، ولعل القارئ يشارك أصحابها في رأيهم متى اطلع في بقية هذا الفصل على الكتب التي تبودلت بين الخليفة وابن العاص خاصة بالجزية والخراج، لكن هذه الحجة إن نفت نسبة ألفاظ الكتاب إلى عمرو، فهي لا تنفي أنه كتب إلى الخليفة يصف مصر؛ فحرص عمر على معرفة مصر وصفتها لم يكن أقل من حرصه على معرفة القادسية وما يحيط بها، والعراق وسدوده ومدنه، وأكبر ظننا أن عمرا كتب هذا الوصف بأسلوبه هو، وأنه بلغ غاية الدقة فيه، ثم تناوله أديب متأخر، فصاغه في هذا الأسلوب الذي أثبته المؤرخون وأثبتناه هنا، فإذا صح هذا الظن كان لنا أن نعتقد أن الأديب المزيف قد حافظ جهده على وصف عمرو، ثم صاغه بأسلوب عصره وما فيه من محسنات بديعية، بذلك نسي الناس كتاب عمرو أن لم يثبته مؤرخ، وبقي هذا الكتاب الزائف، وصرنا لا نستطيع أن نفرق من عبارته بين ما يمكن أن ينسب إلى ابن العاص، وما يجب أن ينسب إلى المزيف الذي عاش من بعده بعدة قرون.

أما ونحن ننفي هذا الزيف عن كتاب عمرو في وصف مصر، فيجمل بنا أن ننفي زيفا آخر لا شك في أنه ابتدع ابتداعا من أوله إلى آخره، وأنه لم يكن له أي أصل من الواقع؛ ذلك ما قيل في أسطورة عروس النيل، فقد زعموا أنه «لما ولي عمرو بن العاص مصر أتاه أهلها حين دخل بئونة من أشهر القبط فقالوا له؛ إن لنيلنا عادة وسنة لا يجري إلا بها، فقال لهم: وما ذاك؟ قالوا: إنه إذا كان في اثنتي عشرة ليلة تخلو من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر من عند أبويها، وأرضينا أبويها وأخذناها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها في النيل فيجري، فقال لهم عمرو بن العاص: إن هذا لا يكون في الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما كان قبله، فأقاموا بئونة وأبيب ومسرى لا يجري النيل قليلا ولا كثيرا حتى هموا بالجلاء، فلما رأى ذلك عمرو كتب إلى أمير المؤمنين، فأجابه عمر: «قد أصبت؛ إن الإسلام يهدم ما قبله، وقد أرسلنا إليك ببطاقة ترميها في داخل النيل إذا أتاك كتابي.» فلما قدم الكتاب على عمرو وفتح البطاقة إذا فيها: «من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد، فإن كنت تجري من قبلك فلا تجر، وإن كان الله الواحد القهار الذي يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك!» فعرفهم عمرو بهذا الكتاب وبالبطاقة، ثم ألقى البطاقة في النيل قبل يوم عيد الصليب بيوم؛ وقد تهيأ أهل مصر للجلاء والخروج منها؛ لأنه لا يقيم بمصالحهم فيها إلا النيل، فأصبحوا يوم عيد الصليب وقد أجراه الله ست عشرة ذراعا في ليلة واحدة، وقطع تلك السنة القبيحة عن أهل مصر.

هذه رواية عروس النيل كما أثبتها المؤرخون المسلمون، وقد نقلنا نصها عن كتاب النجوم الزاهرة لابن تغري بردي، ولسنا نتردد لحظة في نفيها من أولها إلى آخرها، ولو لم يقم الدليل العلمي على هذا النفي لكفانا أن نستند فيه إلى ما بلغه الفراعنة من علم وحضارة، وإلى أن انتشار المسيحية بين المصريين في عهد الرومان لم يكن ليسوغ قيام بدعة كهذه البدعة، وقد ذهب بتلر هذا المذهب فنفى القصة في العهد المسيحي، ثم قال: «ويلوح أن لهذه القصة أصلا في التاريخ؛ فقد كان من عادة أهل السودان حقيقة في أقصى أنحائه الجنوبية أن ترمي قبائله الهمج في النهر بفتاة عذراء في زينة الزفاف، ولعل عادة كهذه كانت متبعة في بعض جهات الهمج من بلاد النوبة التي فتحها الإسلام في أول أمره، ولعل عادة التضحية بفتاة عذراء ترمى في النهر كانت متبعة في مصر في أيام الفراعنة. وإنه من المحقق أن الاحتفال بالنيل والدعاء من أجل زيادته وفيضه كانت تقع فيه أعمال خرافية كثيرة تخلفت من العصور القديمة، ولكنها لم يكن بها شيء مثل ذلك الجرم من التضحية بالعذراء ... فمن أكذب الكذب أن يتهم المسيحيون بأنهم حافظوا على مثل هذه العادة الشنيعة التي لا ترضى عنها ديانتهم ولا تقرها ملتهم.»

ومن عجب أن يدور بخاطر بتلر أن مثل هذه العادة الشنيعة ربما كانت متبعة في مصر في عهد الفراعنة، وأن يثور هذه الثورة العنيفة لاتهام قبط مصر المسيحيين بأنهم حافظوا عليها من بعد، فلو أن الفراعنة اتبعوها في أيامهم لبقيت من بعدهم ولما كان على المسيحيين تثريب في اتباعها، فما أكثر ما انتقل من عادات الفراعنة إلى العهد المسيحي، وإلى العهد الإسلامي، وما لا يزال بعضه باقيا إلى عهدنا الحاضر،

8

ولا عذر لبتلر، عن تسامحه في اتهام الفراعنة وثورته في نفي التهمة عن المسيحيين، إلا ما ذكرنا من قبل من حماسته لديانته، على أن العلم قد أثبت من بعد أنه لم يحدث قط أن ألقيت عذراء في النيل حثا على الفيضان، وإن قيل: إن تمثالا من الخشب لعذراء عليها زينتها كان يلقى في النهر قبيل فيضانه، ثم نفى جماعة من العلماء هذا القول أيضا، ولو صح أن الفراعنة أو غير الفراعنة كانوا يلقون في النيل تمثالا من الخشب ابتهالا وابتهاجا بالفيضان لما طعن ذلك على علمهم وحكمتهم، ولما زاد على أنه نوع من الخرافة يستريح إليه السواد فلا يعترضه العقلاء والحكماء.

هذا هو ما يستخلص من تاريخ مصر الفرعونية، وقد أردت زيادة تمحيصه، فطلبت إلى العالم الأثري الأستاذ سليم حسن أن يمدني بعلمه ورأيه، فكان مما أثبته أن ما قيل عن الوثيقة التي بعث بها عمر بن الخطاب فألقيت في النيل ليفيض، لا يزيد، إن صح، على أنه كان مجاراة من الخليفة للمصريين في عادة لهم لا ضرر من مجاراتهم فيها، فقد كان من عادة الكهنة المصريين، ومن عادة بعض ملوكهم، أن يقيموا لإله النيل احتفالا في بدء الانقلاب الصيفي يقربون فيه للإله ثورا وإوزة وقرابين أخرى من الخبز وغيره ثم يلقون في النيل وثيقة مختومة من ورق البردي مخطوطا عليها أمر للنيل أن يجري في فيضان معتدل يكفل للبلاد الخير والرخاء، وكان هذا الاحتفال يقام في اليوم الذي تصل فيه مياه النيل الصيفية قادمة من أسوان إلى بلدة السلسلة، مبشرة بفيضان عظيم، والظاهر أن المسيحية عفت على القرابين فلم تكن تقدم في عهد الرومان المسيحيين؛ لأنهم لم يكونوا يعرفون للنيل إلها، ثم بقيت الوثيقة تلقى في النيل ليجري فيضانه فتعم البلاد خيراته، فلما دخل العرب مصر كانت الوثيقة الإسلامية الأولى هي هذه التي يعزوها المؤرخون إلى عمر بن الخطاب، والتي يأمر النيل فيها بأن يجري كما كان يأمره الأمير الروماني في العهد المسيحي، وكما كان يأمره الكهنة وبعض الملوك في عهد الفراعنة.

أما قصة عروس النيل كما رويت فخرافة تستند إلى أسطورة روجها المؤرخ الإغريقي بلوتارك، خلاصتها أن «إجبتوس» ملك مصر استلهم الوحي ليهديه السبيل لاتقاء كوارث نزلت بالبلاد، فنصحه أن يضحي بابنته بأن يلقيها في النيل ففعل، ثم إنه ناء بالرزء الذي ألم به، فألقى بنفسه في النيل فهلك كما هلكت ابنته، وهذه الخرافة التي روجها بعض كتاب الإغريق واللاتين من بعد بلوتارك لم يرد لها ذكر في الكتابات المصرية، وهي مع ذلك مصدر الأسطورة التي ذاعت في الناس قرونا، ونسج حولها الخيال من فنون الرواية والقصص ما جعل كثيرين يتوهمونها حقيقة حدثت بالفعل، وأنها كانت تتكرر في كل عام.

أم ترى نسج الخيال أسطورة عروس النيل حول ما جاء في ورقة هاريس البردية التي ترجع إلى عهد «رمسيس الثالث» فيما بين سنة 1198 وسنة 1167 قبل الميلاد؟ إن صح ذلك فهو الدليل على أن الإنسانية كثيرا ما تؤمن بأساطير لا أصل لها في الحياة، وإنما زيفها وزينها خيال الكتاب وأرباب الفن، فليس في ورقة هاريس ذكر لعروس عذراء تزين وتلقى في النيل، وإنما جاء فيها أنه كان على امتداد النيل ما يزيد على مائة مرساة، بين كل مرساة والتي تليها نحو سبعة أميال، وفي كل مرساة محراب لحابي إله النيل، يرعاه كاهن يتناول من راكبي النيل أطعمة يقدمونها قرابين لحابي، وكان لكل محراب حراس لهم فيه طعامهم ولباسهم، وكان يوضع في كل محراب طاقة من الزهر تجدد في كل يوم، وستة تماثيل من خشب الجميز لحابي إله النيل، وستة تماثيل أخرى من الخشب نفسه للإلهة «ربيت» زوجة النيل، هذا عدا تماثيل أخرى للإله حابي مصنوعة من الذهب والفضة والقصدير والأحجار المصرية المختلفة الأنواع كالمرمر واللازورد والزمرد والبلور الطبيعي وأساور من ذهب وفضة، كانت هذه التماثيل كلها تلقى في النيل يوم الاحتفال بعيد حابي في بداءة الانقلاب الصيفي، ويؤتى بدلها بجديد غيرها يقام في تلك المحاريب، إلى أن يحل العيد بعد عام فتلقى في النهر قبيل فيضانه ثم يؤتى في المحاريب بتماثيل جديدة في كل عام.

Unknown page