177

شتان ما بين هذا العقد وعهد الأمان الذي أعلن من جانب واحد، فهذا العقد أريد بمشروعه الذي رفض تصفية لحالة حرب قائمة، وخلاصته ترك الروم مصر للعرب، وتعهد العرب للروم بعدم إجلاء اليهود عن العاصمة، واحترام معابد المسيحين وعقائدهم، وعدم التفريق بين المصريين وغير المصريين في الجزية، أما عهد الأمان فلا شأن للروم به ولا عهد على المسلمين لهم فيه؛ لذلك كان من الخطأ أن يقول بتلر: إن عهد الأمان لا يخالف عقد الصلح، وإن كلا النصين يكمل الآخر.

على أن عهد الأمان لم يورد في أمر الجزية أي تفصيل عن طريقة توزيعها بين ساكني مصر، وقد اتفق المؤرخون على أن الجزية قدرت بدينارين على كل حالم من الرجال دون سواهم، فلا جزية على الأطفال والنساء والرقيق والشيوخ الفانين والعجزة غير القادرين والصبيان، وجلي أن هذه الجزية كانت على الرءوس، وأنها كانت غير خراج الأرض يلزم به الرجل على قدر المساحة التي يزرعها، وروى البلاذري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن عمرا «وضع على كل حالم دينارين جزية إلا أن يكون فقيرا، وألزم كل ذي أرض مع الدينارين ثلاثة أرادب حنطة وقسطي زيت وقسطي عسل وقسطي خل رزقا للمسلمين تجمع في دار الرزق وتقسم فيهم.» ويتعذر القطع برأي في هذه الفريضة من الحنطة والزيت والعسل والخل: أكانت ملحقة بالجزية على الرءوس فهي ليست من خراج الأرض، أم كانت تحتسب من هذا الخراج؟ فقد روى البلاذري، بعد أن أورد قول عبد الله بن عمرو، حديثا نسبه إلى يزيد بن أبي حبيب «أن أهل الجزية بمصر صولحوا في خلافة عمر بعد الصلح الأول، مكان الحنطة والزيت والعسل والخل، على دينارين دينارين، فألزم كل رجل أربعة دنانير، فرضوا بذلك وأحبوه.» وتذهب بعض الروايات إلى أن عمر كتب إلى ابن العاص أن يفرق بين أهل مصر في مقدار الجزية على قدر يسارهم، فيجعلها أربعة دنانير على الموسر، ودينارين على أوساط الناس، ودينارا على من دونهم، وهذا الاجتهاد من عمر اتبع من بعد، يقول أبو يوسف في كتاب الخراج: «الجزية واجبة على جميع أهل الذمة ... وإنما تجب على الرجال منهم دون النساء والصبيان، على الموسر ثمانية وأربعون درهما، وعلى الوسط أربعة وعشرون، وعلى المحتاج الحراث العامل بيده اثنا عشر درهما يؤخذ منهم في كل سنة.»

أذاع عمرو في مصر عهد الأمان، فرضيه المصريون ودخلوا فيه، بذلك آن له أن ينتقل من سياسة الحرب إلى سياسة السلام، ولا ريب في أن عمرا لجأ في أثناء الحرب إلى ما توجبه الحرب من تدابير في بعضها بطش وقسوة بالروم ومن عاونهم من المصريين، ولا تثريب عليه في ذلك، والحرب هي الحرب، وتمهيد الطريق للنصر مع ضمان السلامة للجيش المقاتل هو أول واجب على القائد الذي يعرف واجبه، ولئن كان واجبا عليه ألا يتجاوز في البطش والقسوة ما يحقق هذين الغرضين، إن عليه لغرضا أكبر: ذلك ألا يتردد لأي اعتبار دون تحقيقهما، أما وقد تم للمسلمين النصر فانهزم الروم وجلوا عن أرض مصر، فقد انتهت مهمة القائد وبدأت مهمة السياسي، وقد كان عمرو بن العاص في كل المواقف السياسي المحنك الذي لا يشق غباره، وكان عمر بن الخطاب يعرف ذلك منه أكثر مما يعرفه غيره؛ لذلك ولاه على مصر، فكان نجاحه في سياستها وتدبير أمورها أعظم من نجاحه في طرد الروم منها والقضاء على دولتهم فيها، هذا مع ما رأيت من بلوغه كل أغراضه من الحرب على نحو يكاد يكون معجزة يدق إدراكها على الأفهام.

وحسبنا قبل أن نعالج هذه السياسة في تفصيلها أن نشير إلى جملتها، فقد رأى عمرو أول ما رأى أن يزيل ما يشكو المصريون منه، وما كانوا يثورون بالروم من جرائه، وقد كان الاضطهاد الديني أول سبب لتذمر الناس وشكواهم؛ لذا كان أول أمر أذاعه عمرو بن العاص في الناس جميعا من النوبة إلى الإسكندرية، أن لا إكراه في الدين، وأن حرية العقيدة أمر مقدس، فلن يضار أحد في حريته أو في ماله بسبب دينه أو مذهبه، فمن شاء أن يبقى ملكانيا أو مونوفيسيا فله ما يشاء، ومن شاء أن ينتقل من دين إلى دين أو من مذهب إلى مذهب فلن يصاب لذلك بسوء، ومن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، وقد نفذت هذه السياسة بدقة ليس كمثلها دقة، ذكر ساويرس أن أسقفا ملكانيا بقي على مذهبه حتى مات، لم يمسسه أحد بأذى، وأن بنيامين المونوفيسي كان يستميل الناس إلى مذهبه بالحجة والبرهان، فلا يقف أحد في سبيله ولا يعطل أحد نشاطه، وقد بقيت كنائس الملكانيين وكنائس المونوفيسيين قائمة تؤدى فيها الشعائر، ولا يجرؤ أحد أن يدنس حرمتها، أو يحمل أحدا من أهل هذا المذهب أو ذاك على أمر لا يرضاه، ومن اليسير عليك أن تقدر ما كان لهذه السياسة من أثر في نفوس المصريين بعد أن ذاقوا مرارة الاضطهاد الديني، وبعد الذي كان يصيبهم في سبيل مذاهبهم من عذاب وتشريد ونفي عشرة أعوام تباعا.

وازداد الناس اطمئنانا إلى حكم الفاتحين حين رأوهم يزيلون من أسباب تذمرهم وشكواهم سببا آخر لم يكن أقل إثارة لنفوسهم من السبب الأول، فقد خفف عمرو وطأة الضرائب، وألغى ما قرره الروم من فروق بين الناس في أمرها، ذلك أن الروم كانوا يجبون عن جزية الرءوس ضرائب كثيرة من أنواع شتى أكثرها غير عادل، وكانوا قد أعفوا بعض الطوائف من الجزية ومن ضرائب معينة، وكان أهل الإسكندرية أكثر الناس استمتاعا بهذا الإعفاء، فلما ألغى عمرو ما كان غير عادل من الضرائب، وسوى بين الناس في أدائها، كانت هذه التسوية، وكان تخفيف العبء، مدعاة لرضا الناس عن سياسته وحسن قبولهم لها ، ثم لم يكن تذمر ذوي الامتيازات التي ألغيت ليغير من هذا الرضا وحسن القبول.

حسبنا في هذه الإشارة المجملة أن نذكر هذين الأمرين، وأن نضيف إليهما أن عمرا جعل العدل والإصلاح أساس سياسته في مصر، لتتوسم ما قدر لهذه السياسة من نجاح أسرع بمصر لتكون ذات شأن في حياة المسلمين، وفي سياسة الإمبراطورية الإسلامية.

أين ترى أن يتخذ عمرو مقر حكمه والموضع الذي تصدر عنه سياسته وينبعث منه سلطانه؟ الطبيعي أن يكون هذا المقر مدينة الإسكندرية، فهي عاصمة مصر منذ بناها الإسكندر، وهي المدينة العظيمة لا تضارعها مدينة غيرها في الجمال والعظمة، وبها القصور التي كانت مقاما لملوك البطالسة وحكام الروم، ولذا كتب إلى عمر يستأذنه في المقام بها، وإقامة حكومته فيها، وسأل عمر الرسول: هل يحول بيني وبين المسلمين ماء؟ فأجابه: نعم يا أمير المؤمنين إذا جرى النيل، وكان عمر، كما رأيت من قبل، حريصا أشد الحرص على ألا يحول بينه وبين المسلمين في البلاد المفتوحة حائل؛ لذلك كتب إلى عمرو:

لا أحب أن تنزل المسلمين منزلا يحول الماء بيني وبينهم في شتاء ولا صيف.

ولما بلغت هذه الرسالة عمرا لم يجد مكانا يحقق رغبة أمير المؤمنين خيرا من المكان المجاور لحصن بابليون، فهو على ملتقى فروع النيل المنتشرة في الدلتا مع المجرى الرئيسي للنهر، وهو إلى ذلك قريب من مدينة منف التي كانت عاصمة مصر في عهد الفراعنة، وليس يفصل بينه وبين الحجاز ماء، ففي مقدور عمر أن يركب إليه راحلته حتى يبلغه من غير أن يعبر ماء في طريقه.

وكان عمرو بن العاص قد ضرب قبة إلى جوار حصن بابليون حين حصاره، وسمى المسلمون الذين معه هذه القبة الفسطاط،

Unknown page