173

وقع هذا الأثر في نفوس الفاتحين أول ما دخلوا الإسكندرية، ثم إنهم لم يلبثوا فيها إلا قليلا حتى رأوا حياة أهلها عجبا زادهم دهشة وإعجابا، فهذه الأجناس المختلفة التي تسكنها، وهذه الأديان والمذاهب المتباينة التي تتجاور فيها وهذه اللغات واللهجات العدة التي يتكلمها أهلها؛ هذا كله تجتمع فيه صورة مليئة بالحياة لا يماثلها شيء مما كانوا يتخيلونه عن برج بابل، مع ذلك لم يكن اختلاف الأجناس، ولا تباين الأديان والمذاهب، ولا تعدد اللغات واللهجات ليجني في قليل ولا كثير على طمأنينة أهل العاصمة للعيش وسكينتهم للحياة، فقد غرق سادتها في ألوان من الترف والنعيم أنستهم كل خلاف بينهم، وأنستهم كل ما سوى المتاع بهذا الترف بلغ من تعدد فنونه وألوانه ما وقف العرب حيارى لا يكادون يصدقون ما يرون وما يسمعون!

فلم تكد المدينة تستعيد طمأنينتها بعد انتهاء حصارها حتى عادت سيرتها الأولى، تستمتع بصنوف اللهو، وتستمرئ المتاع بشتى ألوانه؛ فهذه مجالس العلم تعقد يتحدث حضورها في الفلسفة وفي الرياضة وفي الطب وفي الفن وفي غير ذلك من متع العقل وترفه وهم يعنون في منطقهم وفي نظام حديثهم بالافتتان في هذا الترف، حتى ليظنهم شاهد مجلسهم كأن الحياة كلها للعقل وما أبدع من علم وفن، وهذه دور اللهو فيها الراقصات البارعات، والمغنيات المشجيات، وفيها من التمثيل والموسيقى وألوان الفن الجميل كله ما لم تره من قبل أعينهم، ولم تسمعه آذانهم، ولم يخطر على قلوبهم، وهذه دور الصناعة تعج عجيجا شديدا، ويشمر الصناع فيها عن سواعدهم، فهي تنتج من كل شيء ما لا مثيل لإتقانه في غير الإسكندرية، وهذه متاجر المدينة في أحيائها التي لم تصبها الحرب بالكساد يتعامل الناس فيها مغتبطين بما يجيء إلى عاصمة وادي النيل من ثمرات مصر المختلفة في الزراعة والصناعة، وبما ينتقل إليها من النوبة ومن الشرق الأقصى ومن الشام ومن بلاد أوروبا المختلفة، وهؤلاء سراة الإسكندرية، في ثيابهم الجميلة بشتى ألوانها يذهبون إلى دور اللهو وإلى المتاجر وإلى دور العلم وإلى مسارح التمثيل، فإذا أووا إلى قصورهم زادهم المتاع فيها حبا للحياة وحرصا على أنعمها، أي شيء هذا كله! إلا أنه إلى الخيال أقرب منه إلى الحقيقة! وهو مع ذلك حقيقة ملموسة تقع عليها حواس الفاتحين، فهم منها في عجب بالغ يذرهم وليس لهم إلى حديث في غيرها سبيل.

ولم يكن أمراء الجند أقل من الجند عجبا وإعجابا، وقد رأيت أثر هذا الإعجاب والعجب في كتاب عمرو بن العاص إلى الخليفة، إذ أعجزه الجلال عن وصف ما رأى، فلم يذكر إلا «أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.» وهذا العجز هو الذي جعله يبعث معاوية بن حديج إلى المدينة ولا يبعث معه كتابا، بل يقول له: «وما أصنع بالكتاب! ألست امرأ عربيا تبلغ الرسالة وما رأيت وما حضرت!»

ولقد سار معاوية أياما ثم بلغ المدينة في الظهيرة، فأناخ راحلته بباب المسجد ودخله وجلس قريبا من بابه، وخرجت جارية من دار عمر بن الخطاب فرأته شاحبا عليه ثياب السفر، وعرفت منه أنه رسول عمرو بن العاص، فدخلت مسرعة إلى الدار ثم رجعت إليه مسرعة وقالت: قم فأجب! أمير المؤمنين يدعوك. ودخل معاوية الدار يتبعها، وأجاب عمر حين سأله: ما عندك؟ فقال: خير يا أمير المؤمنين، فتح الله الإسكندرية، فخرج عمر من فوره إلى المسجد ومعه معاوية وأمر المؤذن أن يؤذن في الناس أن الصلاة جامعة، فلما اجتمع الناس قال عمر لمعاوية: قم فأخبر أصحابك، فلما أخبرهم قام عمر فصلى شكرا لله، ثم دخل منزله واستقبل القبلة ودعا بدعوات، ثم أمر الجارية فجاءت الرسول الذي حمل النبأ بفتح الإسكندرية بطعام خبز وزيت، وأكل معاوية على حياء، ثم أتته بطبق من تمر، فأكل على حياء كذلك، فلما فرغ من طعامه سأله عمر: ماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد؟ وأجاب معاوية: قلت إن أمير المؤمنين قائل، فأردف عمر: بئسما ظننت! لئن نمت النهار لأضيعن الرعية، ولئن نمت الليل لأضيعن نفسي، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟!

وبينما كان معاوية في طريقه إلى المدينة كان الروم قد بدءوا يجلون عن الإسكندرية من طريق البر ومن طريق البحر، وقد سبق أن قلنا: لعله قد تم بين عمرو والمقوقس اتفاق بعد فتح الإسكندرية لم يتجاوز تنظيم الجلاء لجنود الروم عن عاصمة مصر وعن مصر كلها، يقول البلاذري: «ويقال إن المقوقس صالح عمرا على ثلاثة عشر ألف دينار، على أن يخرج من الإسكندرية من أراد الخروج وأن يقيم بها من أحب المقام، وعلى أن يفرض على كل حالم من القبط دينارين، فكتب لهم بذلك كتابا.» وقد استنبط بتلر من رواية حنا النقيوسي أن المقوقس وعمرا اتفقا بعد فتح الإسكندرية على هدنة أحد عشر شهرا، يبقى العرب في أثنائها في أماكنهم، وترحل مسلحة الإسكندرية من الروم في أثنائها في البحر ومع جنودها أموالهم ومتاعهم، فمن أراد الرحيل منهم في البر دفع جزية كل شهر حتى يبلغ أرض قيصر، وقد أضاف بتلر إلى ما ذكره من ذلك شروطا تتصل بالصلح الذي كان قد تم ببابليون بين القائد العربي والبطريق الرومي، وجلي أن هذه الشروط كانت واردة بالمعاهدة التي وضع مشروعها حين كان العرب يحاصرون حصن بابليون، وهي المعاهدة التي رفض هرقل إقرارها، أما بعد فتح الإسكندرية عنوة فقد اقتصر الأمر على تنظيم جلاء الروم عن الإسكندرية وعن غيرها من بلاد مصر.

والراجح أن ما ذكره بتلر عن الهدنة صحيح، وإن كان تحديد مدتها بأحد عشر شهرا موضع خلاف، فبعضهم يرى أنها لم تزد على الزمن الذي قدره عمرو بن العاص كافيا لرد الخليفة على شروط الهدنة والجلاء، وهو زمن لا يتجاوز الشهرين، ولعل هذا القول أدنى إلى الصحة، فما كان مجيء السفن إلى الإسكندرية لنقل جند الروم منها ليستغرق أكثر من ذلك.

لم يغادر المقوقس الإسكندرية مع الروم الذين جلوا عنها، بل ظل مقيما بقصره فيها حتى مات بها ودفن في مقابرها، وهو لم يفكر في مغادرتها؛ لأنه كان يعلم أنه يخاطر بحريته، بل بحياته، إذا نزل بزنطية، وأن مصيره إن فعل سيكون النفي أو الموت لا محالة، فقد بقي هذا البطريق الشيخ في المنفى الذي بعث به هرقل إليه حتى دعاه قسطنطين ومرتينا وابنها بعد موت هرقل، ثم إنه جاء إلى الإسكندرية على وفاق مع مرتينا، وبقي بها حتى فتحها العرب فهادنهم، وفي هذه الأثناء كان الروم قد بلغت ثورتهم بمرتينا وابنها بعد مقتل قسطنطين أن نحي الشاب وأمه عن الحكم أو قتلا، وانفرد كنستانس بن قسطنطين بالعرش، وكانت صلة المقوقس بمرتينا غير خافية على أحد من أهل القسطنطينية، فلو أنه ذهب إليها لما كان عجبا أن يصيبه ما أصاب الإمبراطورة حليفته؛ لذلك آثر البقاء بمصر مقتنعا بأن الفاتح العربي سيبقي له من النفوذ ما تطمئن إليه شيخوخته المحطمة.

8

كان كثيرون من المصريين والروم الذين لاذوا بالإسكندرية بعد سقوط حصن بابليون يرجون أن يرجعوا إلى قراهم بعد أن سقطت الإسكندرية، فطلبوا إلى المقوقس أن يخاطب عمرا في الأمر، لكن عمرا أبى عليه ما طلب؛ لأن بعض البلاد الحصينة كانت لا تزال تقاوم، فمن الخطر أن ينضم إليها قوم ربما عاونوها على المقاومة، ورأى المقوقس في إباء عمرو نذيرا بزوال سلطانه، فاعتراه من الهم ما عجل به إلى الموت، أفمات ندما على تسليم الإسكندرية للمسلمين، كما يقول حنا النقيوسي؟ أم خشي أن يقتله عمرو، فلما بلغ منه الخوف جعل في فمه خاتما مسموما فمات من ساعته، كما يقول ساويرس؟ أم إنها الشيخوخة انتهت به إلى موت طبيعي؟ يثبت بتلر أنه أصيب بالدوسنتاريا، وأنه مات منها موتا طبيعيا فدفن بالإسكندرية في الحادي والعشرين من شهر مارس سنة 642.

مات قيرس، وجلا الروم عن عاصمة مصر، فتولى المسلمون أمرها، وأخذوا يدبرون شئونها، بذلك دالت دولة الروم فيها وزال سلطانهم عنها، وإن بقيت لهم بها حاميات محصورة في بعض الأرجاء، وما عسى أن تغني هذه الحاميات عن دولة دالت وسلطان تقلص! لذلك كان سقوط الإسكندرية في يد عمرو بن العاص إيذانا من الله بأن مصر كلها آلت إلى المسلمين، وأنه ألقى عليهم إصلاح ما فسد من شئونها، وتعمير ما أصابه الخراب منها، لكنهم لم يكونوا ليفعلوا حتى يطهروا الأرض كلها من الروم، وحتى يبعثوا إلى نفوس القبط الطمأنينة والأمن؛ ليستقر الأمن في البلاد كلها، فلا تحدث الروم أنفسهم بالعود إليها، فإن فعلوا ردوا على أعقابهم، وذاقوا وبال أمرهم.

Unknown page