أخذ الفاتحون بهذا العمران الذي تجلى لهم أول ما دخلوا المدينة وجاسوا خلالها، لكنهم لم يلبثوا أن بلغت منهم الدهشة حين رأوا أسفل هذه المباني الرائعة مباني أخرى تحت أرض المدينة، ثم رأوا هذه المباني السفلى طبقات بعضها دون بعض، أربع طبقات أو خمسا، وفي كل طبقة منها عدد عظيم من العمد ومن الحجرات التي كانت تستعمل صهاريج لخزن المياه، وقد كانت المياه تجري إليها في أثناء فيض النيل في قنوات تصلها بالترعة الحلوة، فإذا امتلأت شرب الناس منها طول العام.
أخذ العرب وتولاهم البهر لما رأوا من ذلك كله، على أن ذلك كله لم يثر من دهشتهم وعجبهم وإعجابهم ما أثارته المنارة الكبرى، كان ذلك البناء العظيم العجيب، قائما في الشمال الشرقي من جزيرة فاروس المتصلة بالمدينة بطريق طويل، قائم على عقود متينة،
6
وقد أقام بطليموس الثاني هذه المنارة التي كانت عجيبة من عجائب الدنيا السبع لهداية السفن، فشادها من أحجار بيضاء تلمع نهارا في ضوء الشمس فإذا جن الليل أضيئت ليراها راكب البحر، فكانت بذلك هادي السفن إلى المدينة اليوم كله.
وقد شاد بطليموس المنارة على صخر في البحر، وبناها من صخور متينة منحوتة صب بينها الرصاص حتى لا يتسرب ماء البحر إلى أي جزء من أجزائها، وكان ارتفاعها ثلاثمائة ذراع قسمت إلى طبقات أربع: أولاها مما يلي الأرض مربعة، والثانية التي تعلوها مثمنة، والثالثة مستديرة، والرابعة مكشوفة بها مواضع للنار التي تهدي السفن، ومرآة طال حديث الكتاب والمؤرخين عنها، وكان في كل طبقة طنف يشرف على المدينة، ويصل بين الطبقات سلم صاعد خلال المنارة من أسفلها إلى أعلاها، تضيئه نوافذ فتحت في مواضع مختلفة من البناء على نحو هندسي دقيق.
وكان بالمنارة غرف كثيرة متداخلة، أثار عددها وتداخلها عجب العرب، حتى لقد قال المقريزي: «ويقال: إن كل من دخل هذه المنارة اختبل وضل الطريق مما بها من الغرف العدة والطبقات والمماشي.» فأما المرآة التي كانت في أعلاها فكانت أعجوبة الأعاجيب، ولذلك كثرت الأقاويل في معدنها وفي الغرض من وضعها وفي مبلغ قوتها، ويقول المسعودي: «إنها مرآة عظيمة من الحجر الشفاف: يمكن أن ترى فيها السفن الآتية من بلاد الروم وهي بعيدة عن مدى البصر.» ويقول آخر: «إنها من زجاج محكم الصنعة.» ويقول ثالث: «إنها من الحديد الصيني.» ويقول السيوطي: «إن عرضها كان سبع أذرع؛ وإنها كانت تظهر السفن الآتية من بلاد أوروبا، وكانت تستعمل لإحراق سفن العدو، فكان الموكلون بها يديرونها نحو الشمس وهي مائلة للغروب فتنعكس عليها الأشعة وتحرق سفن العدو، والإجماع على أنها تظهر السفن وهي أبعد من مدى البصر.» ويذهب بعضهم إلى أن الإنسان كان يرى فيها كل شيء إلى القسطنطينية.
وكانت المنارة سليمة حين الفتح العربي، وكذلك كانت المرآة لكنهما لم تدوما بعد الفتح طويلا، والمؤرخون يختلفون فيما بينهم: هل جاهد العرب بعد هدمها لإعادة بنائها، ولا غناء في تحقيق خلافهم، والذين يذهبون منهم إلى أن المسلمين حاولوا إعادتها متفقون فيما بينهم على أنهم لم ينجحوا في هذه المحاولة.
7
لا حاجة بي إلى أن أذكر ما تركته عمارة الإسكندرية، وما امتازت به من جمال وجلال، من الأثر العميق في نفوس العرب الذين فتحوها، وحسبك، لتدرك عمق هذا الأثر، أن تتلو عبارة عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب في هذا الفتح إذ يقول: «أما بعد فإني فتحت مدينة لا أصف فيها، غير أني أصبت فيها أربعة آلاف بنية بأربعة آلاف حمام، وأربعين ألف يهودي عليهم الجزية، وأربعمائة ملهى للملوك.» فهذا الإيجاز من رجل اشتهر بالإطناب ودقة التصوير في الوصف حجة على أن عمرا رأى كل وصف يقصر عن تصوير ما رآه بالإسكندرية على حقيقته، بل لقد بعث عمرو بن العاص معاوية بن حديج رسولا إلى عمر ينبئه بالفتح، فسأله معاوية: «ألا تكتب معي كتابا؟» فكان جواب ابن العاص: «وما أصنع بالكتاب؟ ألست رجلا عربيا تبلغ الرسالة وما رأيته وما حضرت؟!» وقد كان هذا جوابه وهو يعرف حرص عمر على أن يقف على الدقيق والجليل من كل شيء، وأن يقف عليه مفصلا أوفى تفصيل.
كان للإسكندرية أثر عميق في نفوس الذين فتحوها، ثم كان لها أعمق الأثر في نفوس المؤرخين الذين أثبتوا بعد قرنين حديث أولئك الفاتحين، فأنت ترى في رواياتهم مبالغات عجيبة لا يفسرها إلا دهشة رواتها دهشة جعلتهم يصدقون كل ما يسمعون، يقول ابن عبد الحكم في رواية مسندة: «وكان بالإسكندرية فيما أحصي من الحمامات اثنا عشر ديماس، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، كل مجلس منها يسع جماعة نفر.» ويقول: «لما فتحت الإسكندرية وجد بها اثنا عشر ألف بقال يبيعون البقل الأخضر.» ويذكر السيوطي أن أهل الإسكندرية جميعا كانوا يلبسون الثياب السود والحمر؛ لأن أرضها وبناءها من المرمر الأبيض، وكان تألق الرخام سببا في اتخاذ الرهبان السواد في لباسهم، وكان من المؤلم أن يسير الإنسان في المدينة بالليل فإن ضوء القمر إذا وقع فيها على الرخام الأبيض جعلها تضيء، حتى كان الحائك يستطيع أن يضع الخيط في الإبرة بغير أن يستضيء بمصباح؛ وما كان يستطيع أحد أن يدخل المدينة إلا إذا اتخذ غطاء لعينيه يقيه بريق الطلاء والمرمر، ويقول المسعودي في وصف السرابيوم: «وكان في ذلك القصر مائة عمود، وفي صدره عمود عظيم لم ير مثله في الحجم وله قمة كالتاج ... وكان ذلك العمود يهتز عند هبوب الريح عليه.» ويقول السيوطي: «إنه قد بنى الجان لسليمان في الإسكندرية إيوانا للاجتماع، به ثلاثمائة عمود علو كل منها ثلاثون ذراعا.» وكانت من المرمر المجزع، بلغ من صقله أن صار كالمرآة يرى الإنسان فيه من يسير خلفه، وكان في وسط الإيوان عمود علوة مائة ذراع وإحدى عشرة ذراعا، وكان سقفه قطعة واحدة من المرمر الأخضر نحته الجن، وكان هؤلاء الجان على صورة الإنسان لهم رءوس كالقباب وعيون تمزق الأسد. هذه الروايات وما ورد من مثلها، وهو كثير، تشهد كلها بأن عاصمة مصر تركت في نفس الفاتحين أثرا لم يحسوا مثله في جميع أنحاء البلاد التي فتحوها فصاروا يذكرون ما شهدوا ويضيفون إليه ما سمعوا عنه من أحاديث صحيحة أو ملفقة لا يثبت الكثير منها للنقد.
Unknown page