أكرر، متجشما خطر الإملال، أن تصيد سمات خاصة بفن اليوم أو فن الأمس أو فن أي فترة معينة هو عمل لا يبرأ من السخف؛ فالتمييز الوحيد الذي يهم في الفن هو التمييز بين الفن الجيد والفن الرديء؛ فكون هذا الإناء قد صنع في بلاد الرافدين منذ حوالي أربعة آلاف سنة قبل الميلاد، وهذه اللوحة في باريس حوالي سنة 1913م بعد الميلاد، هو أمر ضئيل الأهمية إلى أبعد حد؛ إلا أن من الممكن - رغم قلة جدواه - التمييز بين الأعمال الفنية المتساوية الجودة التي أنتجت في حقبتين مختلفتين ومكانين متباعدين. ورغم أن عادة ربط الفن بالعصر الذي أنتج فيه قد لا تعود بالنفع على الفن أو الفنانين؛ فلست على ثقة من خلوها من كل ضروب النفع، فإذا صح أن الفن سجل للحالة الروحية لعصر من العصور، فإن بإمكان النظرة التاريخية للفن أن تلقي بعض الضوء على تاريخ الحضارة؛ ومن ثم فمن الجائز عقلا أن تؤدي بنا دراسة مقارنة للعهود الفنية إلى تعديل تصورنا عن التطور الإنساني، وتنقيح بعض نظرياتنا الاجتماعية والسياسية، ومهما يكن وجه الصواب في هذا الأمر؛ فالذي لا شك فيه هو أن من يرغب في الاستدلال على حضارة عصر ما من خلال الفن الذي أنتجه ذلك العصر، فإن من المتعين عليه أن يمتلك القدرة على التمييز بين الأعمال الفنية لهذا العصر والأعمال الفنية لجميع العصور الأخرى، ومن المتعين عليه أن يكون ملما بخصائص الحركة الفنية. وإنني أعتزم أن أبين بعضا من الخصائص الأكثر وضوحا للحركة الفنية المعاصرة.
ولكن كيف يتأتى أن يختلف الفن في أحد العصور عن الفن في عصر آخر؟ فقد يبدو غريبا للوهلة الأولى أن يختلف الفن، وهو التعبير عن إحساس الإنسان بدلالة الشكل، من عصر إلى عصر ولو اختلافا سطحيا، إلا أن النظرة المتعمقة في هذا الأمر تدلنا على أن من المتعين على الفن أن يكون سطحه في تغير دائم مثلما هو من المتعين أن يكون جوهره ثابتا لا يتغير، فيبدو أن غريزة القرد في الإنسان مكينة قوية بحيث إنه لو لم يكن الإنسان في تغير مستمر لتوقف عن الإبداع وجعل يقلد فحسب. إنه السؤال القديم للمشكلة الفنية؛ فليس بمقدور الفنان أن يذكي طاقاته حتى وهج الإبداع لو لم يطرح على نفسه مشكلات جديدة، ولا نهاية للأشكال التي يمكن للفنانين أن يعبروا بها عن أنفسهم، ولا تزال رغبتهم في التعبير عن أنفسهم تكفل للشكل الفني تغيرا مستمرا وتفاعلا مطردا.
لا يزال بالإنسان شيء من أسلافه القردة.
ليس هذا فحسب، بل إن به خصلة متبقية من أسلافه الخراف.
11
ثمة صيحات (موضات) في الأشكال والألوان وعلاقات الأشكال والألوان، أو لنقل بطريقة أكثر تلطفا وإنصافا إن الحساسية الفنية للناس في كل عصر تتسم بقدر من الاتفاق يكفي لإحداث تشابه معين في الأشكال، والأمر يبدو كما لو أن هناك قوى غريبة متفشية لا يسع أي إنسان أن يتجنبها كل التجنب، ونحن نطلق على هذه القوى أسماء أثيرة؛ مثل «حركات»، «قوى»، «اتجاهات»، «مؤثرات»، «روح العصر»، غير أننا لا نفهمها على الإطلاق. إن علينا ألا نرتعب منها وألا نتملقها أيضا بتصنع الإلمام بها، وهو تظاهر لا ينطلي على غير العامة، بيد أنها موجودة، ولو لم تكن موجودة لوجب علينا أن نخترعها، وإلا فكيف نفسر حقيقة أن فناني كل حقبة يؤثرون أنواعا معينة من الأشكال، وحقيقة أنه حتى المشاهدون من كل جيل يبدو كأنهم ولدوا بحساسية مهيئة بشكل خاص بحيث تستميلها هذه الأشكال الجديدة؟ ومن الممكن في هذا العصر أن نلوذ بالكلمة السحرية «سيزان»، فنستطيع أن نقول إن سيزان قد فرض قوالبه على الرسامين الجورجيين وعلى العامة، تماما مثلما فرض فاجنر قوالبه على الموسيقيين والمستمعين الإدوارديين. إن هذا التفسير يبدو لي قاصرا، وهو على كل حال لا يفسر سيطرة صيحات شكلية في عصور مقفرة من أي عبقري مسيطر. إن روح أي عصر فني، في ظني، هي مركب يتحدى التحليل الكامل، تشكل أعمال أحد العقول الكبيرة جزءا منه في عامة الأحوال، وتشكل آثار عصر سابق معين جزءا آخر في أحوال كثيرة. وقد كانت المكتشفات التقنية تؤدي أحيانا إلى تغيرات فنية؛ من ذلك أن اختراع القماش
canvas
قد أوحى إلى أولئك الذين اعتادوا الرسم على الخشب بكل أصناف التجديد الأخاذ، كما أن هناك تغيرا مستمرا في مظهر تلك الأشياء المألوفة التي تشكل المادة الخام لمعظم الفنانين البصريين؛ ولذا فرغم أن الصفة الماهوية
12 - الدلالة - هي صفة ثابتة، فهناك تغير دائم في اختيار الأشكال، ويبدو أن هذه التغيرات تتحرك على هيئة تحليقات طويلة أو قفزات أقصر؛ بحيث نستطيع أن نضع أيدينا بشيء من الدقة على نقطتين يحصران فيما بينهما قدرا معينا من الفن الذي يحوز سمات مشتركة محددة. يطلق المؤرخون على ذلك الأمد الذي يقع بين هاتين النقطتين اسم «عهد» أو «حركة».
إن العهد الذي نجد أنفسنا في كنفه الآن (1913م) يبدأ تاريخه مع نضج سيزان (حوالي 1885م)؛ ومن ثم فهو يتداخل مع الحركة الانطباعية التي من المتيقن أنها قد بقي بها رمق من الحياة حتى نهاية القرن التاسع عشر، فهل ستتلاشى «ما بعد الانطباعية» وتهن مثلما وهنت الانطباعية، أم أنها باكورة إزهار لحيوية فنية جديدة سبقتها قرون من النمو؟ تلك مسألة قد اعترضت بأنها تستند إلى الحدس والتخمين، أما ما يبدو لي يقينيا فهو أن الذين سيجيئون من بعدنا ويتاح لهم أن يتأملوا عصرنا كشيء مكتمل وحقبة من تاريخ الفن، أولئك لن يدروا شيئا عن أهل الصنعة الذين ما يزالون بيننا يخلقون الإيهام ويتخاطبون ويتنازعون بطريقة الفيكتوريين، ولن يذكروا من مصوري بدايات القرن العشرين إلا الفنانين الذين حاولوا خلق الشكل. أما الصناع الذين سعوا إلى خلق الإيهام فسوف يعفي عليهم الزمان ويدرجون في زوايا النسيان. سيذكر القادمون من عني بالحاضر لا بالماضي، وأنا من أجل ذلك لن أذكر غيرهم حين أعمد إلى وصف الحركة الفنية المعاصرة.
Unknown page