Fann Mucasir Muqaddima Qasira
الفن المعاصر: مقدمة قصيرة جدا
Genres
يستثني ساسون الفنون الجميلة من تحليله بناء على أسباب منطقية بأنها ليست لها سوق جماهيرية. ومن الصعوبة بمكان فهم الأرقام التجارية الخاصة بمؤشرات الهيمنة الثقافية في إطار نظام عالمي بمعنى الكلمة؛ إذ إنه من الممكن أن يشتري جامع تحف ألماني عبر تاجر بريطاني عملا لفنان صيني مقيم في الولايات المتحدة. لكن بإمكاننا أخذ فكرة عن حجم التجارة في كل دولة، وهو ما يقدم بالفعل إشارة على الهيمنة العالمية، في ضوء النسبة المرتفعة للتجارة الدولية في سوق الأعمال الفنية، وهنا تكمن توازيات لافتة للنظر مع توزيع القوى المالية. ليس من المفاجئ أن الولايات المتحدة هي القوة المهيمنة، فهي تمثل ما يقل بصورة طفيفة عن نصف المبيعات الفنية في العالم؛ وتمثل أوروبا أغلبية النسبة الباقية، ويأتي نصيب بريطانيا حوالي نصف نسبة أوروبا. تتجه أسعار الأعمال الفنية وحجم المبيعات الفنية إلى التشابه مع أسواق المال كثيرا، وليس من قبيل المصادفة أن المراكز المالية الكبرى بالعالم هي أيضا المراكز الرئيسية لبيع الأعمال الفنية. إن إثارة هذا التوازي تتيح لنا النظر إلى الفن ليس فقط باعتباره منطقة للعبث الحر العشوائي، بل أيضا كسوق مضاربة صغيرة تستخدم فيها الأعمال الفنية من أجل مجموعة من الغايات الذرائعية، بما في ذلك الاستثمار، والتهرب الضريبي، وغسيل الأموال.
ثانيا: في سبيل صرف مثل هذه الاعتبارات الاقتصادية الفجة من أذهان مشاهدي الفن المعاصر، لا بد وأن يبرز الفن المعاصر بصفة مستمرة أمارات حريته وتميزه، عن طريق تمييز إنتاجاته عن ذلك المبتذل من خلال الإنتاج الجماهيري والاستحسان الجماهيري، كذا يمكنه استغلال حالة الغموض أو حتى الملل إلى الحد الذي يصيران فيه تقاليد في حد ذاتهما. إن افتقاره إلى العاطفة هو صورة سلبية للقصص الخيالية العذبة والنهايات السعيدة المنتشرة في الأغاني الشعبية والأفلام السينمائية والتليفزيون، وفي استكشافات الفن المعاصر الغامضة للنفس الإنسانية - التي عامة ما يفترض الأسوأ فيها - يبدو أنه لا يقدم أية مواساة. مع ذلك، من الطبيعي أن يفضي كل ذلك إلى تقديم مواساة إلى حد ما؛ لأنه من رحم السلبية تظهر رسالة مختلفة تماما، مفادها أن ذاك المجال الحر، والنقد الحر، يمكن أن يصونهما النظام الذرائعي للرأسمالية.
ثالثا: والأكثر خطورة على المبدأ المثالي القائل بالحرية الثقافية غير الملوثة، أننا من الممكن أن نرى تجارة حرة وفنا حرا كمصطلحين غير متعارضين، بل بالأحرى يشكلان نظاما مهيمنا وآخر مكمل له على التوالي. ربما يبدو المكمل كشيء زائد غير ضروري، لكنه (كما جاء في تحليل جاك دريدا الشهير) شأنه شأن خاتمة كتاب أو حاشية سفلية بمقال، يلعب دورا في إتمامه ويتقاسم معه سمته الجوهرية. يحمل الفن الحر تشابها غير معترف به مع التجارة الحرة، فالممارسة الثانوية المكملة تلعب دورا هاما في عمل الممارسة الرئيسية؛ لذا فإن خلط الرموز ومزجها دون كلل في الفن المعاصر في إطار سعيه وراء الابتكار والاستفزاز (من بين الأمثلة الحديثة: أسماك القرش وخزانات العرض الزجاجية، الطلاء والروث، القوارب والنحت الحداثي، طاولات البلياردو البيضاوية) يعكس بدقة مجموعات العناصر اللافتة للنظر في الدعاية، وكلاهما يستفيد من الآخر باستمرار. وكما في عروض المنتجات في الثقافة الجماهيرية، تمتزج الأنماط والعلامات وتتطابق، وكأن كل عنصر من عناصر الثقافة رمز قابل للاستبدال والتداول كالدولار. إن الابتكار الجريء في الفن الحر - في خرقه المستمر للتقاليد - ليس سوى ترجمة باهتة للتبخر المتواصل للقواعد اليقينية التي أفرزها رأس المال نفسه، وهو ما يعصف بأية مقاومة أمام التدفق غير المقيد بين أرجاء الكرة الأرضية للأموال، والبيانات، والمنتجات، وأخيرا أجساد ملايين المهاجرين. وكما جاء على لسان ماركس منذ قرن ونصف في فقرة تحمل قوة معاصرة مثيرة للدهشة:
إن الطبقة البرجوازية - بفعل التحسن السريع في كافة أدوات الإنتاج، وبفعل وسائل الاتصال الميسرة بصورة هائلة - تجذب كافة الأمم، حتى أكثرها همجية، نحو الحضارة. والأسعار الرخيصة لسلعها هي المدفعية الثقيلة التي تدك بها الأسوار الصينية كلها، وترغم بها الكراهية الشديدة للغاية التي يبديها البرابرة تجاه الأجانب على الاستسلام، وتجبر كل الأمم - إذا شاءت إنقاذ نفسها من الهلاك - على تبني نمط الإنتاج البرجوازي، وترغمها على تقبل ما تصفه بالحضارة ... باختصار، تخلق البرجوازية عالما وفقا لتصورها.
إلا أنه لم تتحطم الحواجز القومية فحسب، فالابتكار المستمر في الصناعة والثقافة يذيب البنى والتقاليد والارتباطات القديمة، كما في قول ماركس الشهير: «كل ما هو صلب يذوب في الهواء ...»
سنرى أن هناك الكثير من الفنانين يسبرون على نحو نقدي أغوار التشابه بين الفن المعاصر ورأس المال بدرجات مختلفة، إلا أنه في التوجه العام للتصريحات في عالم الفن - لا سيما في تلك الموجهة للعامة أكثر منها للمتخصصين - لا يظهر ذلك التشابه. إن أي فرد كثير الاطلاع على الفن المعاصر كثيرا ما تصادفه صياغة ما من قبيل هذه العبارات المكررة التالية: إن هذا العمل الفني، أو عمل هذا الفنان، أو إن المشهد الفني في مجمله يسمو فوق الفهم العقلاني، ويقذف بالمشاهد داخل حالة من الشك المتأرجح تختفي في طياته كافة التصنيفات العادية، وتفتح معها نافذة محيرة على اللامتناهي، جرح فاجع يقطبه في المعتاد المنطق، أو داخل الفراغ. وفقا لهذه الرؤية القياسية، لا تعدو الأعمال الفنية كونها منتجات تصنع وتشترى وتعرض بصورة عرضية، نظرا لكونها جوهريا وسائل نقل خيالية للأفكار والمشاعر، وفارض مهام الإدراك الذاتي الذي يكون أحيانا صارما وأحيانا أخرى لينا.
في كتاب «قواعد الفن» تحليل فذ للأدب الفرنسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يتتبع بيير بورديو الظروف الاجتماعية التي أفضت لظهور فن مستقل، متحرر من مطالب الدين ومن الرعاة الخاصين والدولة، ويشير إلى بقاء هذا الاعتقاد - بأن الفن غير قابل للتفسير - الذي ولد في ذلك الوقت، واستمر حتى الوقت الحاضر:
كنت سأسأل ببساطة: لماذا يغرم كثير من النقاد وكثير من المؤلفين وكثير من الفلاسفة هكذا في الزعم بأن تجربة عمل فني ما تعلو عن الوصف، وأنها بطبيعتها تتجاوز الفهم العقلاني؟ لم يتلهفون إلى التسليم جدلا دون أي عناء بهزيمة المعرفة؟ ومن أين أتت حاجتهم غير المسئولة إلى الحط من شأن الفهم العقلاني، وهذا الشغف إلى التأكيد على عدم قابلية العمل الفني للاختزال، أو بكلمة ملائمة أكثر، سموه؟ (ص14).
من المفترض اليوم أن الفن قد دخل في عصر مختلف، لا يمت بصلة للموجة الأولى من النشاط الريادي في أعمال فلوبير وكوربيه، والتفاني المتجدد للفن من أجل الفن. بداية من منتصف سبعينيات القرن العشرين، وبقوة متزايدة، كان الغرض من مرحلة ما بعد الحداثة أن تنحي تلك المخاوف جانبا، وتتحدى فئة الفن الراقي نفسه، أو على الأقل تتلذذ بتلوثه من قبل عدد لا حصر له من الأنماط الثقافية. وهكذا نبدأ بأمر مثير للغرابة: أنه في الفنون المرئية اليوم لا تزال تلك الأفكار العتيقة الخاصة بسمو الفن عن الوصف - والتي تناقش من منظور متصوف أكثر منه تحليلي - تلقى رواجا.
إن هذا الإصرار المستمر على عدم قابلية الفن للتعريف غريب بصورة أكبر لأنه كان مصحوبا مؤخرا ببعض الممارسات الفنية الذرائعية على نحو واضح. ولأننا لا يمكننا معرفة ما لا نستطيع معرفته، فهذه العبارة المكررة حول عدم قابلية مجال الفن للتفسير تبرز على أنها دعاية إعلامية فجة. إن استخدامات الفن، وهوية هؤلاء الأشخاص الذين يستخدمونه، غالبا ما تكون غير غامضة على الإطلاق. ومنذ انهيار شيوعية أوروبا الشرقية وظهور الرأسمالية باعتبارها نظاما عالميا حقا، أصبحت تلك الاستخدامات أكثر تقدما وأكثر وضوحا على حد السواء.
Unknown page