Falsafat Tarikh Cinda Vico
فلسفة التاريخ عند فيكو
Genres
الذي يدل من ناحية اشتقاقه الأصلي على معنيين: (أ) الاطلاع على الغيب الكامن في المستقبل. (ب) والاطلاع على الأسرار الخفية في الضمائر؛ فالعناية الإلهية وجهت البشر دون علمهم بل على الرغم منهم إلى حفظ المجتمع البشري وتأسيس التنظيمات الاجتماعية.
كانت هذه هي الأدلة اللاهوتية التي يكملها فيكو بأدلة أخرى منطقية أولها: أن البحث في أصول التنظيمات البشرية في عالم الأمم سواء أكانت دينية أو غير دينية يجب أن يتوقف عند بداياته الأولى ويحدد الأصول التي لا توجد أصول أسبق منها. وثانيها: تفسير طبيعة التنظيمات البشرية عن طريق التحليل الدقيق لأفكار البشر وخاصة أفكارهم عما هو ضروري ونافع للحياة الاجتماعية البشرية؛ لأن الضرورة والمنفعة هما المصدران الأساسيان للقانون الطبيعي للأمم؛ ولهذا يحلو لفيكو أن يصف علمه الجديد بأنه تاريخ الأفكار البشرية أو ميتافيزيقا العقل الإنساني. وقد بدأ هذا التاريخ أو بدأت هذه الميتافيزيقا العقلية عندما بدأ البشر يفكرون بطريقة إنسانية لا عندما بدأ الفلاسفة يفكرون في أصول البشر.
ولا بد أن نلاحظ هنا أن فيكو قد توصل لمبادئه عن طريق استقراء الحس البشري المشترك الذي أدى إلى التنظيمات البشرية ولم يعتمد على كتابات المؤرخين والفلاسفة الذين يقدر أنهم ظهروا بعد تأسيس الأمم الأممية بألفي سنة على الأقل. وقد حرص منهج العلم الجديد على تحديد جغرافية الأفكار البشرية وتاريخها لكي يكون هذا التاريخ يقينيا، كما طبق أسلوبا نقديا جديدا تناول به مؤسسي الشعوب الأولى. ومعيار هذا النقد وفقا للمسلمة الثانية عشر هو أن العناية الإلهية هي التي علمت كل الشعوب الحس المشترك بينها جميعا.
وهكذا يصور العلم الجديد التاريخ المثالي الأبدي عبر الزمان، هذا التاريخ الذي تسير بمقتضاه تواريخ كل الشعوب من نشأتها وتطورها ونضوجها إلى تدهورها ثم سقوطها. والمبدأ الأول الثابت يفترض أن الإنسان هو الذي صنع عالم الأمم، وأن التاريخ يكون أكثر يقينا عندما يرويه صانع الأحداث نفسها، وهكذا ينطبق على هذا العلم ما ينطبق على علم الهندسة وهو أنه يقوم على أساس ما وضعه من مبادئ. ومع ذلك فإن التاريخ بمفهوم العلم الجديد أكثر واقعية من علم الهندسة؛ لأن التنظيمات الاجتماعية والأحداث الإنسانية أكثر واقعية من النقط والخطوط والسطوح والأشكال، والواقع أن هذه الفكرة البسيطة الرائعة تعتمد على نظرية فيكو في المعرفة، وهذه النظرية البسيطة بدورها تؤكد أننا لا نعرف أو لا نعلم إلا ما نصنعه نحن بأنفسنا.
كانت هذه هي الأدلة الفلسفية التي لا بد أن تسبق الأدلة اللغوية، أما هذه الأخيرة فتقوم على عدة نقاط: تتفق الأساطير، من ناحية، مع التنظيمات التي يدرسها العلم الجديد اتفاقا مباشرا وطبيعيا، وسيكشف العلم الجديد أن الأساطير تواريخ مدنية للشعوب التي كانت بطبيعتها شعوبا شاعرية، كما تتفق الأساليب والتعبيرات البطولية من ناحية أخرى مع هذه التنظيمات. ويتعهد العلم الجديد بدراسة هذه التعبيرات البطولية بكل ما تحمله من صدق في الإحساس ومن خصائص التعبير. وقد استفاد فيكو، كما يقول كولنجوود
30
في كتابه فكرة التاريخ، من الخرافات والأساطير. ذلك لأن آلهة الديانات القديمة تمثل في صورة نصف شاعرية صرح الأوضاع الاجتماعية لهؤلاء الذين صوروا آلهتهم هذا التصوير، وقد كانت الأساطير هي الأسلوب الذي اتخذته العقلية البدائية التخيلية للتعبير عن أشياء كانت العقلية المفكرة تلجأ إلى التعبير عنها في صياغة القوانين المدنية والأخلاقية، ومع ذلك فهو لا يسلم بصدق هذه الروايات تسليما حرفيا وإنما يعدها استذكارا لسلسلة من الحقائق المختلطة ببعضها البعض.
وتتفق التنظيمات مع اشتقاقات اللغات الأصلية، فالعلم الجديد يدرس الكلمات من حيث دلالتها على تاريخ التنظيمات الاجتماعية بحيث يبدأ بمعانيها الأصلية ويتتبع تطورها الطبيعي. وهنا يلتزم فيكو بالأفكار التي شرحها في الأصول في المسلمتين 64، 65 وتنص المسلمة الأولى - وهي تكفي وحدها لتأكيد نزعته المثالية - على أن نوع الأفكار لا بد أن يتبعه نوع المؤسسات الاجتماعية أو الأنماط السلوكية. وتنص المسلمة الثانية على أن تتابع النظم الاجتماعية على هذا النظام يعد نموذجا لتاريخ تطور معاني الكلمات في اللغات المختلفة. فالملاحظ أن معظم كلمات اللغة اللاتينية ذات أصول مشتقة من الحياة في الغابات، ثم تطورت في الحياة الريفية، وأخيرا اقتضت الطبيعة المدنية تطورا آخر في استعمال اللغة. ومعنى هذا كله أن فيكو قد التزم بالأفكار التي يسير بمقتضاها تطور تاريخ اللغات.
وقد قام العلم الجديد بفحص «القاموس العقلي» للتنظيمات الاجتماعية للبشر، وهذه التنظيمات كما أكدت الأصول واحدة في جوهرها عند كل الأمم وإن تعددت أشكال التعبير اللغوي (كما تنص على ذلك مسلمة 22: يجب أن يكون في طبيعة المؤسسات البشرية لغة عقلية مشتركة بين كل الشعوب تشكل جوهر الأشياء العملية في الحياة الاجتماعية وتعبر عن مظاهر تكيفهم مع الأشياء، ويظهر هذا في الأمثال والحكم الشعبية).
والعلم الجديد يميز الحق من الباطل عن طريق دراسته للمأثورات الشعبية التي بقيت ثابتة خلال أزمان طويلة وعند شعوب بأكملها مما يدل على أنها تصدر عن مصدر حقيقي مشترك؛ فالآثار المتبقية من العصور القديمة (وهي التي لم يلتفت إليها العلم حتى عهد فيكو ولم ينتفع بها لأنها كانت متناثرة ومشوهة) سوف تلقي أضواء هامة إذا التفت العلماء إليها ونسقوها ووضعوها في مكانها وجمعوا أجزاءها المبعثرة. وهنا يتضح اهتمام فيكو بعلم الآثار الذي لم يكن قد اتضحت معالمه بعد ولم يزدهر إلا في القرن التاسع عشر. إن البحث في أصول التنظيمات الاجتماعية هو الذي سيثبت أنها هي الأسباب الضرورية التي نجمت عنها كل الأحداث التاريخية أو ترتبت عليها.
Unknown page