Falsafat Cilm
فلسفة العلم في القرن العشرين: الأصول – الحصاد – الآفاق المستقبلية
Genres
ذلك أن النظرية الفلسفية الميثودولوجية ليست مجرد توصيف لما يفعله العلماء، ولا هي محض معيار صوري يفرض عليهم، بل مركب جدلي من الوصفية والمعيارية. إن الفلسفة دائما هي الوعي بموضوعها، الوعي المتميز عن الفهم التفصيلي التفتيتي، متميز بأنه أشمل نظرة لما هو كائن؛ تأصيلا له واستشرافا لما ينبغي أن يكون، استشراف الطبائع العامة المميزة للبحث العلمي، أي المعالم المحورية أو الثوابت البنيوية، علم مناهج البحث - الذي رأيناه صلب فلسفة العلم - حين يتعرض للمنهج التجريبي بهذه النظرة الجذرية التأصيلية والشمولية الاستشرافية، يحاول الاهتداء إلى سمات البنية والقسمات الجوهرية، فيكون المنهج الفرضي الاستنباطي - كما كان المنهج الاستقرائي - هو التصور الفلسفي المنطقي للهيكل العام الذي يرسم أسلوب التعامل العلمي مع الواقع؛ لذلك فهو واحد.
لكن الواقع العلمي متنوع، فالعالم التجريبي للبكتريا مختلف عن العالم التجريبي للفلك، وغير العالم التجريبي للنفس ... إلخ، وبطبيعة الحال لا بد أن تختلف طرائق البحث وأساليبه الإجرائية وتقاناته الإمبيريقية من علم إلى علم، بل إنها تختلف داخل العلم الواحد، أولا تبعا لدرجة تقدمه، وثانيا تبعا لزوايا ومستويات تناوله لموضوعه. على هذه الاختلافات الإجرائية ينصب اهتمام العلماء المتخصصين، كل يسخره لخدمة موضوعه، وبما يتلاءم مع الطبيعة النوعية لمادة بحثه، بكل تميزها وخصوصيتها عن مواد العلوم الأخرى. بهذا المنظور التخصصي تظهر علوم لمناهج البحث ملحقة بفروع العلوم المختلفة لتعالج الأساليب التقانية والوسائل الاختصاصية المتكيفة مع موضوع البحث ومادته التي تختلف من علم لآخر، فنجد مثلا «مناهج البحث في علم الاجتماع»، و«مناهج البحث في علم الفلك»، و«مناهج البحث في الهندسة الوراثية»، و«مناهج البحث في علم النفس» ... إلخ، وكل فرع قد ينقسم بدوره إلى فروع، فنجد «مناهج البحث في علم النفس الاجتماعي»، و«مناهج البحث في علم نفس الشخصية»، و«مناهج البحث في علم النفس الإكلينيكي» ... إلخ هذه المسائل المتعلقة بنوعيات الإمبيريقيات وأساليب الممارسة الإجرائية، مسألة تخصصية يعالجها كل علم وفقا لطبيعة مادته، والعلماء المنشغلون بها هم الأخبر.
والفلسفة دائما هي النظرة الكلية الباحثة عن المبادئ العمومية الكامنة في الأعماق البعيدة، وبهذا المنظور نجد الميثودولوجيا - أي علم مناهج البحث الذي رأيناه صلب فلسفة العلم - يبحث من وراء هذه الاختلافات عن الأسس العامة التي يمكن تجريدها من المواقف العلمية المختلفة، لنجدها أسسا منطبقة لا على الفلك دون الاجتماع أو النفس دون الكيمياء، بل هي منطبقة على كل بحث علمي من حيث هو علمي. معنى هذا أن المنهج الفرضي الاستنباطي هو المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية الفيزيوكيماوية والعلوم الحيوية والعلوم الإنسانية على السواء.
وكما ذكرنا لا يقتصر أمره على تجريد روح العلوم الإخبارية وطرائق تناميها، والتصور الفلسفي للمنهج التجريبي حين يقف على المعالم المحورية والثوابت البنيوية في شتى متغيرات المناهج العلمية التجريبية، فإنه يعطينا خلاصة وفحوى آلية تعامل العقل الإنساني - الملتزم والمثمر - مع الواقع الذي نعيش فيه، ولا غرو أن تأتينا من العلم، فمهما تمخضت البحوث العلمية في النهاية - أو في تطبيقاتها - عن إنجازات تلغي الزمان والمكان، كالسفر بسرعة الصوت والتواصل بسرعة الضوء، وغزو الفضاء والذرة، وتحويل مجاري الأنهار واخضرار الصحاري، مقاومة الأمراض ومداواة العاهات الجسدية والنفسية والاجتماعية ... مهما تحققت إعجازات تتضاءل بجوارها معجزات الأساطير، سيظل المغزى الأعظم للبحث العلمي هو أنه تجسيد لطرائق التفكير السديدة المثمرة، لقوة إيجابية وآلية فعالة امتلكها عقل الإنسان وأحسن تشغيلها وتطويرها، ويمكن تسخيرها في تعاملات شتى مع الواقع وليس البحث العلمي فحسب، فتمثل قوة دافعة للحضارة بجملتها.
ربما لهذا رأى جون ستيوارت مل أن المنهج الاستقرائي هو آلية الاستدلال الوحيدة التي يمتلكها العقل ومنطق العلم ومنطق العمل ومنطق الحياة، وكما رأينا، التعميم الاستقرائي الساذج محاط بقصورات وصعوبات وإشكاليات جمة. أما حين تقدم النظرة الفلسفية المنهج العلمي التجريبي بوصفه المنهج الفرض الاستنباطي الذي ينطلق من فرض أبدعه عقل الإنسان ثم يخرج منه بنتائج جزئية يهبط بها إلى الواقع التجريبي ليختبر الفرض، فيقبله أو يعدله أو يرفضه، فإن النظرية الفلسفية بهذا تقدم صياغة مثلى للعقلانية التجريبية، للعقل حين يرسم سبلا موجهة ناجحة، حين ينطلق بمجمل طاقاته وقدراته أقصى انطلاقة في محاولاته الجسورة لوضع الفروض العلمية، لكنها دونا عن كل انطلاقات العقل ملتزمة بالواقع بما تنبئ به التجربة لتتعدل الفروض أو تقبل أو تلغى وفقا له. منهج العلم التجريبي ينصت لشهادة الحواس ومعطيات الوقائع، فتعين موضع الخطأ والكذب في الفرض حين يتعارض معها، يتم تصحيحه والبحث عن فرض جديد متلاف لذلك الخطأ، يعرض بدوره على محكمة التجريب، ويتم تعديله بفرض جديد ... وهكذا دواليك في متوالية لتقدم لا يتوقف أبدا، حتى ليكاد أن يكون البحث العلمي هو التمثيل العيني لمقولة التقدم، كفعالية مستمرة تحمل في صلب ذاتها عوامل تناميها المتواصل دوما، كل إجابة يتوصل إليها العلم تطرح تساؤلات أبعد، فيؤدي كل تقدم إلى تقدم أعلى، ومهما علونا في مدارج التقدم لن تغلق المعامل أبوابها، ولن ينتهي البحث العلمي أبدا. لذلك لم يكن العلم بناء مشيدا من حقائق قاطعة، بل هو نسق من فروض ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة، كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوة أبعد منه، في صيرورة - تغير مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر.
وفي خضم هذه الحركية التقدمية الجبارة ينتصب مارد المنهج العلمي بوصفه الثابت الديناميكي إن جاز التعبير، أو القوة المثمرة الولود لكل ما يتواتر من تغيرات. في أعطاف هذا المارد تقوم وقائع التجريب بدور ناقد قاس لا يعرف الرحمة حين تعيينه لمواضع الخطأ، دور الفيصل والفاروق بين الصدق والكذب، القاضي الحاتم ذي الحكم الموجب النفاذ: إنها مسئولية عسيرة أمام الواقع والوقائع لا يقوى على الاضطلاع بها إلا المنهج العلمي، فهو التآزر الجميل المثمر الخصيب بين العقل والتجريب، الفهم والحواس، اليد والدماغ، الفكر والواقع، إنه العقلانية التجريبية.
هكذا يستقي المنهج العلمي أرومته من قلب معامل العلماء ومعترك كفاحهم الضاري والنبيل، لكنه ينصب في قلب البناء الحضاري ليس البتة كتقنية خاصة بذوي الاحتراف، بل كبلورة مستصفاة للتفكير المثمر الملتزم بالواقع والوقائع؛ لتعقيل السير نحو الهدف، وكل لحظة من لحظات زماننا الظافر ببلورة المنهج العلمي - بفضل فلاسفة العلم في بحثهم الدءوب عن صياغة طرائق التفكير العلمي السديد - تشهد بتصديق مستديم على أن هذا المنهج أنجع وسيلة امتلكها الإنسان للسيطرة على واقعة، إنه سبيل إلى الظفر المبين في خضم عالم الواقع ومشكلاته.
لقد امتد هذا السبيل واضحا ممهدا بفضل جهود القرن العشرين في العلم وفلسفته. وترسم عبر الصفحات السابقة في هذا الفصل حد واضح بين فلسفة العلم الحديث حتى نهاية القرن التاسع عشر وفلسفة العلم في القرن العشرين، حد أو فارق يتبلور حول مغزى التجريبية، فبعد أن كانت معينا نغترف منه الفروض العلمية أصبحت في القرن العشرين محكا نلتجئ إليه لاختبار الفروض وقبولها أو تعديلها أو رفضها، فاتضح أن التجريبية في جوهرها هي الاختبارية. ويمكن أن نلاحظ عبقرية اللغة العربية التي وضعت مصطلح «المختبر» مرادفا للمعمل، ورمزه النمطي أنبوبة «الاختبار» الشهيرة. وأخيرا إذا كانت نظرية المنهج الفرضي الاستنباطي قد ارتهنت بها كل تلك الإيجابيات الجمة، فالواقع أنها انعكاس لإيجابيات التطورات العلمية التي تسارعت في القرن العشرين واقتحمت أعماق الذرة وأغوار الفضاء السحيق. ألم نتفق قبلا على أن نظرية المنهج خير تجريد وتجسيد لروح العصر والقرن؟!
والحق أن المحصلات الباذخة للعلم وفلسفته ونظريته المنهجية في القرن العشرين، كانت نتاجا للثورة المباركة التي اقترنت بها مطالع القرن العشرين.
فما خطب هذه الثورة؟
Unknown page