Falsafa Qariyya Muqaddima Qasira
الفلسفة القارية: مقدمة قصيرة جدا
Genres
هل تستطيع الفلسفة تغيير العالم؟ النقد والممارسة والتحرر
لا شيء يبدو لي عتيق الطراز أكثر من المثل التحرري الكلاسيكي.
جاك دريدا
بعد أن قدمت في الفصلين السابقين نوعا من السرد التاريخي للفلسفة القارية، دعني الآن أحاول تقديم سرد أكثر منهجية للاختلافات بينها وبين الفلسفة التحليلية. وسوف يأخذنا هذا لاستعراض الدور المهم للتقليد والتاريخ وما يسمى ب «التاريخانية». وسأنهي الفصل باقتراح نموذج معين للممارسة الفلسفية يدور حول ثلاثة مصطلحات: «النقد» و«الممارسة» و«التحرر». وستبدأ هذه المجموعة من المفاهيم - كما آمل - في شرح السبب في كون جانب كبير من الفلسفة في التقليد القاري يهتم بتقديم نقد فلسفي للممارسات الاجتماعية للعالم المعاصر، الذي يطمح نحو فكرة التحرر الفردي أو المجتمعي. بعبارة أخرى، يطلب جزء كبير من الفلسفة القارية منا أن ننظر إلى العالم على نحو ناقد بقصد تحديد نوع من التحول، سواء أكان شخصيا أم جماعيا. وفي رأيي، هذه هي مجموعة الافتراضات التي تعمل في الخلفية التي تربط الفلاسفة الكلاسيكيين مثل هيجل ونيتشه، مع ورثتهم المعاصرين من أمثال يورجن هابرماس وفوكو ودريدا. (1) شخصيات أم مشكلات؟
يعد ريتشارد رورتي واحدا من عدد قليل من الفلاسفة الناطقين بالإنجليزية، الذين حاولوا على نحو مستمر ومستميت إنهاء التقسيم بين الفلسفة التحليلية والقارية، من خلال العمل في كلا المعسكرين. ولذلك اتهم وعلى نحو غير مبرر من قبل كلا الجانبين أنه يفهم الأمور على نحو خاطئ. وقد مال رورتي لإرجاع أصل كل من التقليدين التحليلي والقاري إلى البراجماتية الأمريكية لجون ديوي. ويشير رورتي إلى أن الفارق بين التقليدين يتمثل على نحو أساسي في حقيقة أن الفلسفة التحليلية تتعامل مع مشاكل، في حين أن الفلسفة القارية تتعامل مع شخصيات. يبدو أن هذا بنحو أو بآخر صحيح لدرجة أن الفلسفة القارية عادة ما تمثل من قبل أشخاص مثلي على هيئة تسلسل زمني لشخصيات تبدأ بكانط، بدلا من النهج القائم على المشاكل الذي يميل المرء إلى ربطه بالفلسفة التحليلية. ولكن يجب على المرء أن يكون حذرا هنا؛ لأن معيار رورتي للتفرقة بين الفلسفتين يمكن أن يقال إنه نوع من التعميم الذي يؤكد الفكرة النمطية السخيفة، بأن الفلسفة القارية غير مهتمة إلى حد ما بالمشاكل والمحاججة الخاصة بها.
ومع ذلك تعكس ملاحظة رورتي شيئا مثيرا للاهتمام؛ فالكتب والأبحاث والمناقشات حول الفلسفة القارية المعاصرة - سواء أكانت في أوروبا القارية أم العالم الناطق بالإنجليزية - لديها ميل للتركيز على نصوص فيلسوف رئيسي معين، أو تقديم دراسة مقارنة لنصوص اثنين أو أكثر من الفلاسفة. وهكذا، بدلا من كتابة بحث بعنوان «مفهوم الحقيقة»، ربما يكتب المرء بحثا حول «مفهوم الحقيقة عند هوسرل وهايدجر»؛ وبدلا من كتابة بحث حول «النقد الجماعاتي لليبرالية»، يمكن للمرء أن يكتب عن «علاقة نقد هيجل لكانط بالنظرية السياسية المعاصرة»؛ وبدلا من الكتابة عن «حدود النظرية الأخلاقية»، يمكن للمرء أن يكتب عن «العودة الدائمة لنقد نيتشه الجينيالوجي للأخلاق»؛ وبدلا من الكتابة عن «مشكلة الهوية الشخصية»، ربما يكتب المرء حول «مفهوم الذات من كانط إلى دريدا»؛ وهكذا.
ومن الإنصاف أن نقول إن هذه الممارسة في كثير من الأحيان تربك وتغضب الفلاسفة الذين تدربوا على التقليد التحليلي، الذين يصرون على أن فلاسفة التقليد القاري يقدمون تعليقات فحسب ولا يقدمون فكرا جديدا؛ أي إنهم يقدمون فقط «تفسيرا للنصوص» ذا طابع فرنسي، وليس محاججة فلسفية دقيقة. ويرى كثيرون أن هناك ميلا كبيرا جدا نحو التعليق على حساب الأصالة في الفلسفة القارية المعاصرة في العالم الناطق بالإنجليزية. ولكن ما ينقص مثل هذه الانتقادات (ومعيار رورتي)، هو تحديد معالم ممارسة مختلفة للفلسفة بإدراك مختلف تماما لأهمية الترجمة والتعليق والتأويل والتقليد والتأريخ للبحث الفلسفي المعاصر. ليس الأمر أن الفلسفة في التقليد القاري رافضة للتعامل مع المشاكل؛ بل على العكس من ذلك؛ غالبا ما تتناول المشاكل «من الناحية النصية والسياقية»؛ ومن ثم تتطلب أسلوبا مختلفا للتعامل معها، النوع الذي قد يبدو غير مباشر على نحو أكبر. (2) النصوص والسياقات
ستانلي كافيل هو فيلسوف أمريكي كبير آخر رفض على نحو دائم السماح بتصنيف أعماله تحت النهج التحليلي أو القاري في التفكير. مع ذلك، وعلى النقيض من رورتي، يرى كافيل أن أصول كلتا الفلسفتين تعود إلى تقليد الفلسفة المتعالية الأمريكية المهمل فلسفيا، الذي يعبر عنه على نحو واضح في أعمال رالف والدو إيمرسون وهنري ديفيد ثورو. وكتب كافيل في بداية أعظم أعماله «زعم العقل» (1979) يقول: «كنت أرغب في فهم الفلسفة كمجموعة من النصوص وليس كمجموعة من المشكلات.» ومع ذلك، أعتقد أن هذا يوضح المقصد بقوة كبيرة. وأرى، بدلا من ذلك، أن مختلف التقاليد الفكرية التي شكلت الفلسفة القارية المعاصرة تشكل كوكبة محددة، على الرغم من أنها متغيرة باستمرار من النصوص، سيسطع فيها نجم بعض النصوص على نحو أكبر لفترة من الوقت ثم يخبو، لينجذب انتباهنا إلى ضوء نصوص أخرى. سوف يسطع نجم بعض هذه النصوص مثل النجوم العملاقة الحمراء لتغطي على كل شيء آخر في مجالها، في حين أن البعض الآخر سوف يخبو مثل الثقوب السوداء ويفشل في إصدار أي ضوء. وكما نعلم جميعا، فإن الطريقة التي تبدو عليها السماء ليلا تتحدد عن طريق مكاننا في العالم، وشدة بريق بعض النصوص سوف تعتمد على السياق الذي ينظر إليها من خلاله، وعوامل محتملة أخرى مثل كمية التلوث الفكري في المناخ الثقافي.
ولاختيار صورة واقعية أكثر، نقول إن نصوص التقليد القاري تشكل نوعا من الأرشيف الوثائقي للمشاكل الفلسفية، مع وجود علاقة واضحة بينها وبين سياقها وسياقنا، وهي تتميز بوعي قوي بالتاريخ. وسوف نستخدم مصادر مختلفة من هذا الأرشيف في أوقات مختلفة، اعتمادا على طبيعة المشاكل التي تواجهنا، والتي نسعى إلى إيجاد حلول لها. ولكن ما يميز العديد من النصوص في هذا الأرشيف هو أنها - على غرار أعمال هيجل، وماركس، ونيتشه - تتميز بوعي ذاتي تاريخي قوي لن يسمح بقراءتها دون الإشارة إلى سياقها أو سياقنا. وهذا النهج التاريخي هو النهج الذي اتبعته في الفصلين الثاني والثالث؛ حيث سعيت لتحديد الإشكالية الفلسفية لفكر ما بعد كانط، عن طريق توضيح التاريخ النصي والسياقي لتلك الفترة في العالم الناطق بالألمانية، والظروف التي وصل فيها هذا الفكر إلى العالم الناطق بالإنجليزية. لا يتمتع هذا النهج فحسب بالميزة الكبيرة المتمثلة في تقديم تاريخ الفلسفة في صورة جيدة للقراءة تجعل المرء راغبا في معرفة المزيد عنها، ولكنها تلمح أيضا إلى أن النقاش الفلسفي المنهجي لا يمكن فصله عن الظروف النصية والسياقية لنشأته التاريخية.
اسمح لي أن أقدم أربعة أمثلة حديثة على ذلك: (1)
Unknown page