مقدمة
ملاحظة على اللغات المستخدمة
1 - التفكير والاعتقاد
2 - البدايات البرهمية
3 - هجر المنظومة البرهمية
4 - الموضوعات والمبررات
5 - الفئات والطريقة
6 - الأشياء واللاأشياء
7 - الشاهد والمشهود: يوجا وسانكيا
8 - الكلمة والكتاب
تعقيب من الفكر الكلاسيكي إلى الوقت الحاضر
قراءات إضافية
مصادر الصور
مقدمة
ملاحظة على اللغات المستخدمة
1 - التفكير والاعتقاد
2 - البدايات البرهمية
3 - هجر المنظومة البرهمية
4 - الموضوعات والمبررات
5 - الفئات والطريقة
6 - الأشياء واللاأشياء
7 - الشاهد والمشهود: يوجا وسانكيا
8 - الكلمة والكتاب
تعقيب من الفكر الكلاسيكي إلى الوقت الحاضر
قراءات إضافية
مصادر الصور
الفلسفة الهندية
الفلسفة الهندية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
سو هاميلتون
ترجمة
صفية مختار
مراجعة
هبة عبد العزيز غانم
مقدمة
الفلسفة الهندية في حوالي 35 ألف كلمة؟! كثيرون قد يرون هذا الأمر مستحيلا، ومن المؤكد أن الأشخاص الذين قد يقتنعون ويحاولون تأليف مثل هذا العمل، لن يتناول اثنان منهم الموضوع بالطريقة نفسها. وقد شرحت في الفصل الأول المنهج الذي اتبعته لتطويع هذه المادة المتنوعة لتناسب أغراض هذا الكتاب. وعلى أية حال، فالأهداف الأساسية من سلسلة «مقدمة قصيرة جدا» هي إعطاء نبذة، وتوجيه القارئ المهتم إلى موضوع أكبر وأكثر تعقيدا مما يمكن للكتاب تغطيته على نحو شامل، وجعل مثل هذا الموضوع في متناول الشخص المبتدئ. كانت هذه هي الخطة التي سرت على هداها، وآمل أن يثير هذا الكتاب تفكير القارئ أيضا؛ أولا من ناحية تقديم أساليب تفكير مختلفة جدا للعالم الذي نعيش فيه، وثانيا من ناحية دفع المهتمين بالموضوع إلى مزيد من التحقيق فيه. ومن أجل هذا الهدف توجد قائمة بالكتب الإضافية الموصى بقراءتها في نهاية الكتاب.
عند تناول فكر فلسفي بطريقة تمهيدية، وعند العمل بالاستعانة بنصوص مكتوبة بغير لغة المؤلف، يواجه المؤلف مشكلتين عمليتين؛ ألا وهما الحاجة إلى استخدام مصطلحات تقنية مرتبطة بالموضوعات الفلسفية، وكذلك الطريقة المثلى لترجمة الكلمات المفتاحية والاقتباسات النصية. وقد حاولت استخدام المصطلحات التقنية في أضيق الحدود، لكني وضعت مربعات نصية مفسرة لمعناها في الأجزاء التي يكون من المهم للغاية استخدام المصطلح فيها حين يتطلب الأمر تعريف المبتدئ به. وعلى أية حال، يجب أن نتذكر أن معرفة المصطلحات نفسها أقل أهمية من فهم ما تشير إليه.
وفيما يتعلق بالترجمة، ففي بعض الأحيان تكون الكلمة المفتاحية لا يمكن ترجمتها إلى اللغة المستهدفة على نحو واضح المعنى، وفي مثل هذه الحالات تركتها بصيغتها الأصلية المكتوبة باللغة السنسكريتية أو البالية. وأود أن أطلب من القارئ ألا ينزعج من غرابة تلك الكلمات؛ فمعظم المجالات المعرفية والعلوم - كما هو الحال في اللاتينية والإغريقية والأعمال التراثية الكبرى اللغوية أو الثقافية، والرياضيات والفيزياء، والتكنولوجيا المعاصرة وعلوم الكمبيوتر - تتطلب قبول وتعلم القليل من المصطلحات الأساسية التي قد تبدو غريبة في البداية. والكلمات غير المترجمة قليلة العدد في هذا الكتاب، وفي كل حالة من حالات ورود هذه الكلمات أعتقد أن السياق الواضح المستخدمة فيه هذه الكلمات سوف يساعد القارئ على فهمها.
وعندما يتطلب الأمر اقتباس مقتطفات طويلة من نصوص أولية تظهر مشكلة أكبر تتعلق بكيفية الترجمة الحرفية لهذه المقتطفات، والفكرة ليست فقط في أن الالتزام بالقواعد النحوية وطريقة صياغة النص الأصلي يؤدي في أغلب الأحيان إلى لغة صعبة ومتكلفة، ولا في أن كثيرا من كلمات النص ببساطة ليس لها مرادف ذو معنى في اللغة المترجم إليها، بل أيضا في أن الترجمة الحرفية تفشل في الغالب في إيصال المعنى المقصود. وبعد أخذ كل هذه الأمور بعين الاعتبار، وجدت أنه يفضل نقل الفقرات الأصلية إلى اللغة المستهدفة بأسلوب مفهوم كلما أمكن ذلك؛ ولهذا السبب حاولت استخدام أسلوب عادي معاصر، وحرصا على وضوح المعنى لم أحجم في بعض الحالات عن إعادة الصياغة بدلا من الترجمة على نحو رسمي للغاية. وفي العموم، كان هدفي هو توصيل النقاط المفاهيمية التي ينطوي عليها الجزء المقتطف بأكبر قدر ممكن من الوضوح. ويمكن للقراء - إذا شاءوا - أن يستعينوا بترجمات أخرى منشورة لهذه النصوص؛ إما بغرض المقارنة، أو الاطلاع على معالجات بديلة للنص. وكل الترجمات أو المعالجات النصية الواردة في هذا الكتاب خاصة بي ما لم أذكر خلاف ذلك.
أود أن أتوجه بالشكر إلى جورج ميلر من مطبعة جامعة أكسفورد لتشجيعه لي على تأليف هذا الكتاب، ولتوجيهه اللطيف واقتراحاته. وأوجه الشكر أيضا إلى تريسي ميلر على نصائحها التي لا تقدر بثمن خلال عملية التحرير. وأتقدم بوافر الامتنان إلى كلية كينجز كوليدج في لندن لسماحها لي بأخذ إجازة لمدة سنة لتأليف هذا الكتاب في وقت كان فيه كل الأكاديميين تحت ضغط هائل لنشر قدر ضخم من «الأبحاث الأولية».
وأتوجه بكثير من الشكر أيضا إلى مورييل أندرسون، وسيسيليا ستور، وجاي واتسون؛ على وقتهم الثمين الذي قضوه في قراءة المسودة الأصلية للكتاب والتعليق عليها، كما أنني أتحمل كامل المسئولية عن النسخة النهائية. إلى ريتشارد جومبريتش، الزميل والصديق: شكرا لك على القدر الهائل من النصح والنقد والدعم، ليس فقط في سياق هذا المشروع وحده. وأدين أيضا بالشكر لكلير بالمر التي طالما كانت آراؤها مقياسا رائعا لنجاح أعمالي، وتبادلت معها الأفكار والخواطر، وإليها أهدي الفصل السابع.
ملاحظة على اللغات المستخدمة
يتناول الكتاب لغتين مستخدمتين من قبل التراث الهندي، وهما: اللغة السنسكريتية واللغة البالية. وكما هو موضح في الفصول الأولى، بدأ التراث عندما هاجر أناس أطلقوا على أنفسهم اسم الآريين من وسط أوراسيا إلى شمال الهند، عن طريق باكستان الحالية، منذ مئات السنوات قبل الميلاد، وكانت اللغة التي استخدموها في حفظ ممارساتهم الشعائرية هي السنسكريتية، وقد نظمت هذه اللغة في وقت لاحق في شكلها «الكلاسيكي» على يد نحوي يدعى بانيني (انظر الفصل الرابع). وتعرف اللغة السنسكريتية في تاريخ اللغات باللغة «الهندو- آرية القديمة»، وهي اللغة المدون بها معظم المواد الفلسفية الهندية. وبمرور الوقت ظهرت - بالإضافة إلى السنسكريتية الكلاسيكية - صور أخرى متنوعة وأكثر شيوعا من اللغة، وتعرف حاليا إجمالا باسم اللغات «الهندو-آرية الوسطى». وإحدى هذه اللغات هي اللغة البالية، وهي اللغة المحفوظ بها كثير من النصوص البوذية الأولية. ويتضح الارتباط الوثيق بين اللغتين في الكلمة السنسكريتية «دارما» التي ترادفها كلمة «داما» في اللغة البالية، وكذلك كلمة «نيرفانا» التي تصبح «نيبانا» في اللغة البالية (أو نيرفانا كما تستخدم في الإنجليزية).
اللغة السنسكريتية واللغة البالية كلتاهما لغتان صوتيتان تعتمدان على الأبجدية نفسها، وهذه الأبجدية أطول إلى حد ما من الأبجدية الرومانية المعروفة، وكثير من الحروف الإضافية يمثل بإضافة ما يعرف باسم «علامات التشكيل»؛ فمثلا بعض الحروف تختلف طريقة نطقها باختلاف علامة التشكيل، ونجد في بعض الأحيان أن الأعمال المترجمة تنقل هذه الكلمات وفقا لصوت الحرف لا لشكله، ورغم ذلك فالنطق يصبح أكثر دقة في حالة وجود علامات التشكيل؛ ولذلك اخترت استخدام الأبجدية السنسكريتية والبالية كاملة في هذا الكتاب.
إن التعود على طريقة النطق يمكن أن يساعد في التغلب على الشعور بالغرابة الذي قد يراود المرء في البداية عند نطق هذه الكلمات.
إن التمرن على نطق الأمثلة القليلة التالية سوف يساعد في التعود على طريقة النطق، فجرب نطق الكلمات التالية:
ريشي، هيمالايا، داما، سانسارا، ناجارجونا، بهارتريهاري، أنفيكشيكي، أتمان، ميمانسا، دارشانا، موكشا، فايشيشيكا، شانكارا، سانكايا، فيشيشتا أدفايتا فيدانتا.
الفصل الأول
التفكير والاعتقاد
الثراء والتنوع في الفكر الهندي
تزخر الهند بتراث طويل وثري ومتنوع من الفكر الفلسفي يمتد لما يقرب من ألفيتين ونصف الألفية، ويتضمن العديد من التقاليد الدينية الكبرى. ويحظى الدين في السياق الفلسفي بأهمية كبيرة؛ لأن العادة في الهند جرت على اعتقاد أن دور الفلسفة - أو بالأحرى محاولة فهم طبيعة ما يركز المرء عليه - يرتبط ارتباطا مباشرا بالمصير الشخصي للفرد؛ ومن ثم فإن الفلسفة لا تعتبر نشاطا فكريا احترافيا يمكن ممارسته في نهاية يوم العمل، بل محاولة لفهم الطبيعة الحقيقية للواقع باعتبارها مطلبا داخليا روحيا. ويمكن القول إن ما يطلق عليهما الغربيون الدين والفلسفة يجتمعان في الهند في محاولات الأشخاص فهم معنى وتركيبة الحياة بالمعنى الأوسع. وتشبه هذه المحاولات طريقة سقراط أكثر مما تشبه الدين بصفته إيمانا بالوحي، وأكثر مما تشبه الفلسفة بصفتها مادة أكاديمية.
التفكير والإيمان
إن مسألة طبيعة الفلسفة الهندية من المسائل التي يهمنا فهمها من البداية؛ ومن ثم فهي تستحق الاستفاضة فيها بعض الشيء. في الغرب، بالتأكيد منذ أن فصل الفيلسوف الألماني العظيم إيمانويل كانط بين الرب وبين ما اعتقد أنه من الممكن معرفته عن طبيعة الأشياء من خلال التفكير، أصبح يوجد فرق واضح بين الفلسفة والدين، وأصبح الدين يعتبر مجالا لا يسمح فيه فحسب ب «الإيمان بالغيبيات»، بل يطلب هذا الأمر في بعض الأحيان، وقد تعطى الأولوية لما يزعم صحته أشخاص معينون فقط بسبب مواقعهم وهوياتهم (وهذا يعني الإيمان بصحة كلامهم بغض النظر عما إذا كانت صحته ممكنة الإثبات أو حتى مثيرة للجدل)؛ وأصبحت توجد مستويات متفاوتة من «الغيرية»؛ مثل وجود إله متعال، أو كائنات ذات مكانة أو معرفة تفوق البشر أو تخرق الطبيعة، أو وجود أنواع مختلفة من مصادر القوى الفائقة للبشر أو الخارقة للطبيعة، وكل هذه العوامل أو أي منها «يؤمن» بها معتنقو التقاليد الدينية المختلفة؛ إما إيمانا مطلقا لا يخالطه شك، أو في إطار الشك والتساؤل، ويسمى هؤلاء الأشخاص ب «المؤمنين».
وتوجد نقطة أساسية لهؤلاء المؤمنين تتمثل في أنهم يعتقدون أيضا أن ممارسة دينهم ترتبط ارتباطا مباشرا بمصيرهم. وتختلف تفاصيل هذه العلاقة؛ فبعضهم يعتقدون أن حياتهم في المكان والزمان الحاليين تتأثر بمعتقداتهم وممارساتهم الدينية، وبعضهم يعتقدون أنهم يحصدون نتائج تلك المعتقدات والممارسات بعد الموت فقط، وبعضهم يعتقدون أن ما يحدث لهم في الحياة الحالية وكذلك بعد الموت ينتج مباشرة عن معتقداتهم وممارساتهم الشخصية، بينما يعتقد آخرون أن مصائرهم تحددها تماما القوة «الغيرية» المتعالية الفائقة للبشر التي يؤمنون بها، وأخيرا يعتقد البعض أن مصائرهم يحددها مزيج من الاثنتين. وبغض النظر عن التفاصيل المفهومة، فإن وجود هذه العلاقة بين المعتقدات والممارسات الدينية ومصير الفرد - خاصة بعد الموت - هو السبب في أن يشار إلى الأديان بأنها سوتريولوجيا أو «أنظمة خلاص». «الدين باعتباره سوتريولوجيا»:
كلمة سوتريولوجيا مشتقة من كلمة إغريقية هي «سوتر» وتعني «المخلص». وفي الاستخدام الشائع، ليس من الضروري لأحد النظم العقائدية أن يكون لديه شخصية مخلص فعلية كي يوصف النظام نفسه بأنه سوتريولوجيا؛ فالنقطة الأساسية هي أن مصير المؤمنين بهذا النظام العقائدي يعتقد أنه يرتبط ارتباطا مباشرا بمعتقداتهم وممارساتهم.
وعلى النقيض من هذه النظرة، فمنذ كانط أصبح مبحث الفلسفة مهتما على نحو أساسي بالبحث عما يمكن معرفته عن طبيعة وتركيبة الحقيقة من خلال النقاش العقلاني وحده، وهذا يعني أنه أيا كانت الموضوعات المحددة التي يشغل الفلاسفة أنفسهم بها، فإنه يجب أن تكون طريقتهم في مناقشتها شديدة المنطقية؛ بمعنى أنه لا يسمح بالإيمان بما لا يمكن إثباته، ولا توجد كلمة تعلو على كلمة العقل، وليس ثمة جزء في هذه الممارسة يعتبر أي شيء غير كونه محاولة فكرية بشرية. علاوة على ذلك، يعتبر التفلسف، بغض النظر عن الموضوع الذي يناقشه، محض غاية فكرية في حد ذاته، وليس له أي أثر على الفرد مطلقا؛ فالفلسفة ببساطة ليست لها علاقة بالسوتريولوجيا، وفي واقع الأمر هذه سمة مهمة تميزها عن الدين.
توجد ملاحظتان مهمتان عن الفرق بين الدين والفلسفة؛ أولى هاتين الملاحظتين هي أنه على الرغم من الاختلاف بين الدين والفلسفة، فإن كلا المجالين يتشاركان في عدد من الاهتمامات المشتركة، والملاحظة الثانية هي أنه حتى في الغرب لم يكن هذا الفرق واضحا دائما. وتكمن أوجه التشابه في أن كلا من الدين والفلسفة يهتمان في الأساس بطبيعة الحقيقة؛ فعلى سبيل المثال، لنفترض أن أحد الأديان يقر التعاليم التالية: هناك رب يقره هذا الدين، وهذا الرب متعال تماما عن الكون الذي نعرفه، وهو خالق كل شيء، والعالم المخلوق يشمل بشرا بأرواح خالدة، وسلوك الفرد يؤثر على حياته الآخرة. حتى من هذا القدر القليل من المعلومات يمكننا أن نعرف أنه وفقا لهذا الدين فإن الحقيقة تتكون من نوعين من الكائنات المستقلة تماما بعضها عن بعض (وهما في هذه الحالة الإله، وغير الإله)، وأنه لا يمكن أن يوجد أي شيء آخر؛ لأن الرب هو خالق كل شيء. ونعلم أيضا أن جزءا على الأقل من الكائنات غير الإلهية يتسم بأنه جماعي (أي يجمع كل الأرواح الفردية) وأنه خالد كذلك. وببساطة، فهذه النقطة الأخيرة تخبرنا بشيء مهم عن طبيعة البشر، فهم في أنفسهم جزء من الحقيقة يمكن أن يتكون بأي عدد من الطرق. وبالإضافة إلى ذلك، فإننا نعلم أن نوعا من الأنظمة السببية يربط السلوك الحالي بشكل مجهول من أشكال الوجود المستقبلي .
وعلى الرغم من وجود جوانب أخرى كثيرة عن طبيعة الحقيقة قد يهتم المرء بمعرفتها، وقد يكون للدين ما يقوله عنها أيضا، وعلى الرغم من أن هذا المثال يتسم بالعمومية؛ فإن ما يذكره يتناول اثنين من الموضوعات الأساسية التي تهم الفلسفة أيضا، وهما: كيفية تكون الحقيقة في الأساس، وطبيعة البشر.
ومن الاهتمامات الأخرى المشتركة بين الدين والفلسفة طريقة توصل المرء لمعرفة إجابات مثل هذه الأسئلة الرئيسية؛ ففي حالة ذلك الدين المفترض، لو كانت التعاليم تعطى عن طريق رب يفوق البشر يسلم المؤمنون بكلامه بوصفه الحقيقة، فإن هذه المعرفة مكتسبة من خلال «الوحي» أو ما يمكن أن نسميه «الشهادة اللفظية». وفي الحقيقة، كلنا نعتمد على الشهادة اللفظية إلى حد كبير في حياتنا اليومية؛ فالأشخاص الذين لم يسافروا مطلقا إلى قارة أنتاركتيكا، على سبيل المثال، يسلمون بصحة روايات الأشخاص الذين رأوا القارة في المكان الذي تحدده الخريطة. وكون المخاض عملية مؤلمة يعد أمرا مسلما به لدى الأشخاص الذين لم ينجبوا؛ اعتمادا على كلام أولئك الذين خاضوا هذه التجربة. وجميعنا نطلع على كل أنواع الأشياء على نحو منتظم على أساس شهادة المراسلين الصحفيين والمعلمين والكتاب والعلماء والباحثين الخبراء وغيرهم. وفي المواقف اليومية، من الممكن التأكد من صحة المعلومات المكتسبة بهذه الطريقة ولو مبدئيا على أقل تقدير. وما يجعل الموقف الديني مختلفا ليس وسيلة المعرفة إنما هو استحالة التأكد من صحة المعلومات المكتسبة؛ فالمعلومات التي يقدمها معلم الدين لا يمكن سوى التسليم بصحتها على أساس الثقة أو «الإيمان بها». والفيلسوف سيعتبر عدم القدرة على التحقق من المعلومة أمرا غير مقبول، ولن يعتبر المعلومة التي تتحدث عن طبيعة الحقيقة صحيحة. وعند تناول الموضوعات نفسها، سوف يعتمد الفيلسوف فقط على عمليات المعرفة العقلانية أو المنطقية. والفلسفة بهذه الطريقة تهتم على وجه التحديد بما يعرف باسم «حدود المعرفة»، وهذا يعني أن الفلسفة تسعى إلى وضع معايير يمكن وفقا لها تحديد ما إذا كان من الممكن اعتبار أن البيانات معرفة مقبولة على أساس مشروع أم لا. ويشار إلى نظريات المعرفة (الطريقة التي نعرف بها) باسم الإبستيمولوجيا.
شيء يهم كلا من الدين والفلسفة
تتعلق «الميتافيزيقا» (ما وراء الطبيعة) بطبيعة الحقيقة ككل؛ فهي تتساءل عن طريقة تكوين الحقيقة في الأساس، وعن أنواع وطبيعة المكونات التي قد تكون موجودة، وعلاقة بعضها ببعض. ومن الموضوعات المهمة فيها: العالم/الفضاء/الكون؛ البشر، وغيرهم من الكائنات، والسببية. «إبستيمولوجيا» (مشتقة من الكلمة الإغريقية «إبستيمي»، وتعني «المعرفة») تهتم بوسائل المعرفة، وتتضمن وسائل المعرفة الشائعة: النقاش المنطقي أو التفكير، والاستنتاج، والشهادة، والإدراك الحسي.
وفيما يخص النقطة الثانية المذكورة آنفا المتمثلة في أنه لم يوجد دائما ذلك الفصل واضح المعالم بين ما هو دين وما هو فلسفة؛ فلقد بدأ التراث الفلسفي الغربي في اليونان في فترة ما قبل المسيحية، في مكان وزمان كان فيهما كثيرون يسعون إلى معرفة المزيد عن طبيعة الحقيقة، وكان الهدف والغرض من ذلك آنذاك تحقيق الحكمة في هذا الصدد، وأي معلومة ذات علاقة بحقيقة الحقيقة كانوا يرونها في ضوء اكتساب الحكمة؛ ومن ثم أصبحت الفلسفة هي «حب الحكمة». ولم تكن الفلسفة تتضمن أي مفهوم متعلق بالسوتريولوجيا كما نفهمها، ورغم ذلك، فإن الافتراضات المختلفة المتعلقة بطبيعة الحقيقة التي قدمها الفلاسفة الإغريق القدماء شملت موضوعات يمكن أن نجدها أيضا جزءا من التعاليم الدينية. لقد شغلوا أنفسهم بطبيعة العالم والبشر، وأهمية سعي البشر وراء الحصول على الحكمة، ورأوا أن هذا هو أسمى نشاط ممكن للبشر، وأنه من الضروري أن يطمح إليه البشر، إذا أمكن ذلك. وقدم البعض أيضا - لا سيما سقراط - اقتراحات حول كيفية الجمع بين السعي وراء الحكمة وعيش حياة جيدة على نحو مثالي.
وبعد الإغريق، ظلت الفلسفة الغربية في الحقبة المسيحية واقعة لقرون عديدة تحت سيطرة أشخاص كانوا أيضا غاية في التدين، وكانوا يسعون لفهم المزيد عن «عالم الرب». وكان الفلاسفة أصحاب القدرة الهائلة على الاستبصار والتأثير العظيم، أمثال أوغسطين وأنسلم وتوما الأكويني وديكارت وهيجل، كلهم مسيحيين ممارسين للشعائر، وسعوا لحل المشاكل الدينية والفلسفية بدلا من الفصل بينها. وفي حين أن اهتمامات هؤلاء المفكرين العظماء كانت واسعة النطاق للغاية، فقد كان من الموضوعات ذات الأهمية الكبيرة بالنسبة لهم كيفية وجود الرب ضمن منظومة الحقيقة. لقد كان وجود الرب، كما هو مفهوم في التراث المسيحي، مقبولا كحقيقة بديهية باعتباره عقيدة راسخة، لكن هؤلاء الفلاسفة حاولوا أيضا إثبات وجود الرب بالاستعانة بالنقاش العقلاني؛ وبهذه الطريقة سيصبح الإيمان متوافقا مع العقل بدلا من أن يكون متناقضا معه. وقالوا أيضا - لا سيما ديكارت - إن طبيعة الرب تتمثل في أنه يمكن للمرء أن يعتمد بأمان على مساعدته وحدها في التغلب على جوانب القصور في التفكير. بذلك انضم الإيمان إلى التفكير في السعي الهادف للفهم، وبالفعل وسع نطاق احتمالات الفهم. لقد كان هؤلاء الفلاسفة واعين جيدا لما يفعلون، لكنهم ظنوا أن طريقتهم طريقة مشروعة تماما، وكان أول فيلسوف في الغرب المسيحي يشكك جديا في مشروعية الخلط بين الإيمان والتفكير في السعي وراء المعرفة هو كانط، وأكد كانط على أن ما يمكن للمرء أن يعرفه معرفة يقينية يقتصر تماما على ما يمكن تأكيده من خلال التفكير، وأن هذا لا يشمل أي شيء له علاقة بالرب. وكان كانط - بصفته مسيحيا ورعا - مؤمنا بوجود الرب، ورغم ذلك، فصل هذا الإيمان بالرب عن المنطق الفلسفي، وقال إن المرء لا يمكنه أبدا الوصول لمعرفة يقينية عن المسائل الإيمانية، وإن هذه المسائل كانت وستظل دائما معتقدات، وإن المعرفة اليقينية تخص الفلسفة.
وبهذه الطريقة يزعم التراث الفلسفي الغربي في الوقت الحاضر أنه يهتم فقط بالمعرفة اليقينية ويحقق فقط في تلك الموضوعات التي يمكن التفكير فيها من خلال أساليب النقاش المنطقي. وأصبح هذا المعيار المنهجي مفروضا على نحو صارم، لدرجة أنه منذ أوائل القرن العشرين لم يشغل غالبية الفلاسفة أنفسهم بأسئلة ميتافيزيقية كبيرة مثل: ماذا يوجد هناك؟ وما الموجود؟ وما الحقيقة المطلقة فيما يتعلق بطبيعة الحقيقة؟ ويقول البعض إن الإجابة عن مثل هذه الأسئلة تتضمن استنتاجات تخمينية للغاية على نحو يجعلها غير مقبولة على نحو آمن ضمن حدود الفهم الممكن؛ ولذلك من الأفضل الإعراض عن تلك الموضوعات. وقال البعض الآخر إن الأسئلة المتعلقة بأي شيء قد يتجاوز التجربة البشرية التجريبية هي أسئلة عبثية بطبيعتها. وعلى هذا النحو يبدو أن الفلسفة الحديثة تشغل نفسها بالأسئلة المفصلة والتقنية المتعلقة بكافة أنواع التحليلات المنطقية واللغوية. أما الموضوعات على شاكلة الأخلاقيات والخير التي ناقشها الفلاسفة الأوائل في سياق الطريقة التي يجب أن يعيشوا بها حياتهم أثناء سعيهم إلى الحكمة أو الفهم، فتتناولها الفلسفة المعاصرة وتناقشها باعتبارها مجردات فكرية. وأصبحت الفلسفة الاحترافية منفصلة عن السعي الشخصي، وبالنسبة للكثيرين أصبحت الفلسفة في حد ذاتها مفهومة فقط بهذا المعنى الحديث.
عند تناول أصول وتطور التراث الفلسفي الهندي، يحتاج المرء إلى فهم دور الفلسفة بقدر أكبر بمعناها التقليدي أو الأصلي، كما ذكرنا في السابق، بدلا مما أصبح مفهوما عنها في العصر الحديث. وتعنى الفلسفة في الهند بالسعي إلى فهم طبيعة الحقيقة. علاوة على ذلك، فالهدف من القيام بذلك هو اعتقاد أن فهم الحقيقة له أثر عميق على مصير الفرد. ويعد هذا الهدف سوتريولوجيا على نحو مباشر بالنسبة للبعض، بينما يراه البعض الآخر غير ذي صلة بالسوتريولوجيا، لكنه بالنسبة للجميع مهمة روحية ونشاط مرتبط بالتراث الديني. وفي واقع الأمر، فإن الفصل الذي نتحدث عنه بين الدين والفلسفة لم يكن مفهوما في الهند حتى الفترات الأخيرة، عندما بدأت الإرساليات الغربية وبدأ الأكاديميون الغربيون في الفصل الجبري بين السمات المختلفة للموروثات الهندية من أجل أن تصبح مقبولة على نحو أيسر ضمن إطار التصور الغربي.
وقبل تناول بعض ملامح الإطار الهندي بمزيد من التفصيل يلزم توخي الحذر مما يلي: ربما بسبب التداخل بين الفلسفة والدين في الهند يوجد ميل في الغرب إلى اعتبار الفكر الهندي «صوفيا» بل «سحريا»، على النقيض من «عقلانية» الغرب، وهذا خطأ؛ فهذه النظرة جاءت من إضفاء صورة خيالية على الأنظمة الفكرية التي نشأت في مكان آخر وقدمت نفسها على نحو مختلف، فضلا عن نعت كل ما هو غير مألوف بالغرابة والشذوذ. ويوجد في واقع الأمر تراث قوي من النقاش العقلاني في الهند، وكان هذا التراث مهما لمناصري الأنظمة الفكرية المتعددة في الهند مثلما كان مهما لفلاسفة الغرب الكبار.
عندما يتناول الغربيون التراث الهندي لأول مرة، سواء أكان مقصدهم دينيا في الأساس أم فلسفيا، فإنهم يواجهون مشكلتين متساويتين ومتناقضتين؛ تتمثل الأولى في إيجاد شيء قابل للإدراك وسط هذه التعددية المحيرة على نحو واضح، وتتمثل المشكلة الثانية في عدم فرض مثل هذا القيد على المادة بحيث نغفل جوانب مهمة في هذه التعددية. والمثال التقليدي للمشكلة الثانية هو «الهندوسية»؛ فبسبب هذا الاسم (الهندوسية) توقع الغربيون وجود فكرة موحدة مثلها مثل بقية «المعتقدات» الأخرى، وظلوا في حيرة مما وجدوا، إلى أن اكتشفوا أن الهندوسية هي مصطلح أطلق في القرن التاسع عشر على مجموعة أنظمة فكرية معقدة ومتعددة للغاية، وكان من أطلقه هو غيرهم من الغربيين الذين لم يقدروا ذلك التعقيد. فكر في المنطقة التي تغطي أوروبا والشرق الأوسط في وقت بداية التقويم الميلادي، وافترض أن غرباء أطلقوا مصطلحا واحدا على «دين» هذا الزمن وهذه المنطقة. هذا التصور سوف يعطي فكرة عما حدث عندما أطلق على «دين» الهند اسم الهندوسية، وعدد الأمور اللازم تفسيرها كي نفهم هذا التراث وفقا لمفاهيمه الخاصة.
لكن مثلما يتشارك الكثير من جوانب دين وفكر أوروبا والشرق الأوسط في أصول وموضوعات وأنظمة معينة، ومثلما تتشارك إلى حد كبير في رؤية العالم والإطار التصوري؛ فإن الأمر نفسه ينطبق على الهند؛ ومن ثم فما يجب على المرء فعله لفك هذا التعقيد وجعله قابلا للإدراك هو العثور على تلك الأصول والموضوعات والأنظمة المشتركة، وأن يألف رؤية العالم والإطار التصوري اللذين يدور في فلكهما الفكر الهندي. ولحسن الحظ فإن الهند لديها فترة تعد نظيرة للفترة الإغريقية القديمة، وتلك هي الفترة التي بدأ فيها التراث الفلسفي الهندي. وعلى الرغم من أن المفكرين الهنود القدماء كانوا يستعينون حتى بأفكار وتصورات أكثر قدما ويطورونها، وبعض هذه الأفكار والتصورات معروفة لنا، فإنه خلال القرن الخامس قبل الميلاد بدأت مدارس فكرية يمكن تحديدها على نحو واضح في اعتراف بعضها ببعض، والتفاعل والجدل والسعي إلى تفنيد الرؤى، والاندماج في بعض الأحيان. وبداية من هذه الفترة عاشت المناهج المختلفة جنبا إلى جنب، وظل بعضها داخل إطار التراث الذي أطلق عليه الغربيون بعد ما يقرب من ألفي سنة اسم «الهندوسية»؛ اعتمادا على فهمهم القديم له، والبعض الآخر أسس تعاليم أخرى مثل البوذية والجاينية. وستكون هذه الفترة القديمة موضوع الفصلين الثاني والثالث.
استبصار الحقيقة
كان يشار إلى الفلسفة الهندية قديما باسم «دارشانا»، وهذا المصطلح نفسه يعطينا إشارة إلى رؤية العالم والإطار التصوري اللذين تعمل الفلسفة الهندية خلالهما، فالمعنى الحرفي لمصطلح «دارشانا» هو «الرؤية»؛ أي امتلاك «البصيرة» المعرفية لشيء، أما المعنى الضمني الذي ينطوي عليه هذا المصطلح فهو أن ما «يرى» أو «يبصر» هو حقيقة طبيعة الحقيقة، وهذا يوضح أن فهم طبيعة الحقيقة هو هدف الفلسفة في الهند. وكان يشار إلى المعلمين الأوائل المرتبطين بأنواع محددة من فلسفة الدارشانا باسم «ريشي»؛ وتعني «الناظرين».
ومن هذا المنطلق فإن مصطلح «دارشانا» يشير أيضا إلى شيوع التسليم بأن البشر قادرون على اكتساب رؤية فعلية، بمعنى معرفة تجريبية للحقيقة الميتافيزيقية؛ فالبصيرة، أو الحكمة، لا تقتصر في الفكر الهندي على المعرفة الفكرية. وبينما يلعب النقاش العقلاني والنقاش الفكري دورا غاية في الأهمية في الفلسفات الهندية - في بعضها على حساب بعض العوامل الأخرى تقريبا - فإنه من المقبول أيضا في هذه الفلسفات اعتقاد أنه من خلال تمارين الضبط الذهني مختلفة الأنواع يمكن أن يتحسن الإدراك المعرفي للمرء وأن يتغير، بحيث يستطيع المرء الرؤية بطرق تفوق ما يستطيع رؤيته «على نحو طبيعي». وسوف نرى أن أنواعا محددة من الدارشانا تقوم تعاليمها وحججها على ما أقره الناظرون القدماء من واقع رؤاهم الماورائية، وتعتبر شهادة هؤلاء الناظرين صحيحة على نحو مطلق؛ صحيحة كما لو كان المرء رآها بنفسه، أو كما لو كانوا توصلوا لهذه الفكرة عن طريق النقاش المنطقي وحده. وبالنسبة للأنواع الأخرى من الدارشانا، ترى أن الهدف من تعليم الدارشانا هو أن كل من يتبعها يجب أن يكون قادرا بنفسه على «رؤية» الحقيقة. ومن الناحية النظرية، يعتقد أن القدرة على اكتساب بصيرة ميتافيزيقية هي سمة بشرية عامة، ولا تعني أن الأشخاص الذين يزعمون اكتسابها يعتبرون خارقين بأي حال. إن إعادة توجيه الملكات المعرفية، كي تصبح هذه البصيرة ممكنة، هي السبب وراء ممارسة اليوجا، ويطلق على البصيرة الناتجة عنها الإدراك اليوجي.
هذه من أكبر الاختلافات بين رؤية العالم التي يقوم عليها الفكر الهندي وبين رؤية العالم لدى الغرب، وربما هذه هي نقطة الخلاف التي يجدها الغربيون من أصعب النقاط من حيث إمكانية التفهم، وربما بسببها يميل فلاسفة الغرب إلى التركيز فقط على الجوانب الأخرى من الفلسفة الهندية المتعلقة بموضوعات النقاش المنطقي، وربما أسهمت هذه النقطة أيضا في جعل الآخرين ينسبون صفات سحرية أو صوفية للفكر الهندي. ورغم ذلك، وفقا لرؤية العالم من المنظور الهندي، فإن إمكانية تغيير الإدراك المعرفي للفرد هي أمر يعتبر ممكنا من الناحية المنهجية، من خلال تمارين الضبط الذهني المنتظمة على نحو لا يختلف إطلاقا عن الاكتساب المنهجي للقدرة على العزف على إحدى الآلات الموسيقية؛ فكلتا العمليتين تتطلب مثابرة وممارسة طويلة الأجل، وتتضمن إتقان جوانب عديدة من التنسيق البدني والذهني، ولا يوجد أي شيء سحري في كلتا العمليتين؛ فكلتاهما تعتبر مهارات.
الكارما والميلاد المتكرر
الكارما والميلاد المتكرر من السمات المميزة لرؤية العالم في الفلسفة الهندية، والكارما مشتقة من الكلمة السنسكريتية «كارمان»، ومعناها الحرفي «الفعل». وتوحي طريقة استخدام المصطلح بوجود عواقب لكل فعل، وتشير الكارما إلى آليات عواقب الفعل التي تعد أحد قوانين الطبيعة. والمصطلح نفسه حيادي، لكن الثقافات باختلاف أنواعها تربط القيم بهذا المصطلح بطرق مختلفة. وعلى نحو مشابه، يختلف مركز آلية عواقب الفعل باختلاف الثقافات. أما عن أسباب ارتباط كلمة كارما بعواقب الفعل، فهي مرتبطة بطقوس تقديم القرابين؛ إذ كان يعتقد أن القيام بتقديم القرابين يحقق عواقب محددة بعينها تجعل الكون يسير على أفضل وجه. وكانت الأفعال الشعائرية المرتبطة بها عواقب معينة إما مادية أو لفظية (فقد كان يعتبر إصدار الأصوات «فعلا» من الأفعال)، وكانت الدقة ضرورية كي تكون الآليات فعالة. وعلى هذا النحو، فالذي كان يجعل أحد الأفعال سليما أو صالحا هو دقته، وكانت القيم المرتبطة بهذا الفهم للكارما ليست قيما متعلقة بالأخلاقيات.
وفي القرن الخامس قبل الميلاد، بالإضافة إلى الفهم السابق للكارما، ساد أيضا مبدأ يقول إن عيش المرء لحياته وفقا للواجبات التي يذكرها المعلمون الدينيون - «تنفيذ» الواجبات التي تشمل أداء طقوس القرابين ولا تقتصر عليها - سوف يكون ذا نتائج نافعة للمرء. وعند هذه المرحلة أصبحت الكارما مرتبطة بفكرة الميلاد المتكرر؛ إذ ساد الاعتقاد بأن العواقب الإيجابية أو السلبية لطريقة أداء الفرد لواجباته قد تلحق به في أي حياة من حيواته الكثيرة المستقبلية، التي تتحدد حالة كل منها على هذا النحو. وفيما يتعلق بالكارما كفعل شعائري، فإن ربط العواقب بأداء الواجبات الموصوفة حمل أيضا معيار قيمة الدقة وليس قيمة الأخلاق. وفي مرحلة لاحقة من تطور هذا الفرع من التراث الديني الهندي تأكدت هذه النقطة، عندما كرر معلمون مهمون قول إنه من الأفضل للمرء أن ينجز واجباته على نحو سيئ بدلا من أن ينجز واجبات غيره على نحو جيد؛ وإنه من الأفضل بلا شك أن يقوم المرء بواجبه، بغض النظر عن أن ذلك الواجب قد يبدو غير أخلاقي، بدلا من إهمال إنجازه بسبب مبدأ أخلاقي.
ومن ضمن التفسيرات الأخرى لآلية عمل الكارما التي كانت تعلم في القرن الخامس قبل الميلاد؛ تفسيرات الجاينيين والبوذيين؛ فقد قال الجاينيون إن كل الأفعال - التي صنفوها إلى لفظية ومادية وذهنية - تسبب جزيئات مادية تلتصق بروح الشخص، وتثقلها وتجعلها تبعث باستمرار في دائرة الميلاد المتكرر. ونظرا لأن الجاينيين آمنوا أيضا بضرورة سعي المرء لتحرير روحه من مأزق الولادة المتكررة، فقد تضمنت تعاليمهم أن كل الكارما هي كارما سيئة، وأنه لا يمكن أن توجد عاقبة «جيدة» لفعل ما. على النقيض من ذلك، يرى بوذا أن عمل الكارما أخلاقي في الأساس؛ إذ إن ما يأتي بالعاقبة هو نية المرء. وقال بوذا فيما يتعلق بالكارما إن نوايا المرء «هي» أفعاله، فليس المهم هو ما يفعله المرء خارجيا وظاهريا، بل المهم هو حالته الذهنية؛ ولذلك في هذا الصدد لا تكمن آلية الكارما فيما يقصد عادة ب «الأفعال».
وعلى هذا النحو فإن الكارما هي تطبيق لآليات امتلاك أي فعل لعواقب. وعلى الرغم من اختلاف تفسيراتها في المدارس الفكرية المختلفة فإنها تعد جزءا أساسيا من الرؤية الهندية للعالم في العموم، يلقى قبولا من الجميع باستثناء مدرسة فكرية صغيرة نسبيا تضم الماديين المتطرفين. ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد، أصبحت فكرة الكارما مرتبطة عموما بمعتقد أن الأفراد يشهدون ولادات متكررة متعاقبة. وتعمل آلية امتلاك أي فعل لعواقب بمثابة الوقود الذي يؤدي إلى استمرار الميلاد المتكرر، وترتبط الظروف المميزة لكل ولادة جديدة بتفاصيل الأفعال في الحيوات السابقة.
ومن الضروري أن نفهم هذا الجانب في الرؤية الهندية للعالم؛ والسبب الأساسي لذلك هو طريقة ارتباط الكارما برؤية طبيعة الواقع الحقيقية. وتقول معظم أنظمة الفكر الهندية إن اكتساب تلك الرؤية يؤدي إلى تحرير الفرد من استمرار الكارما. وهذا هو الهدف والغرض الأساسي من مهمة الفلسفة، وهو أيضا السبب الذي يجعل «الفلسفة» مرتبطة ب «الدين». وعند تقديم الدارشانا «لرؤيتها» للحقيقة، يكون كل نوع منها كما لو كان يصف الحقيقة التي سوف «يراها» ممارسو هذا النوع من الدارشانا. وأهمية الهدف من فلسفة الدارشانا - الذي يسميه الغربيون «الخلاص» - تفسر لماذا تعتقد كل المدارس الفكرية أنه من المهم للغاية تحقيق التجانس والصحة والكفاءة في تعاليمها.
التعقيد والتنوع: اختيار محتوى الكتاب
كانت البيئة الجدلية التي تطورت مع مرور الوقت ونوقشت فيها عدة رؤى متنافسة عن العالم؛ بيئة متنوعة، وشديدة التعقيد والابتكار، ومتعددة الجوانب. وهذا يعني أنه في هذا الكتاب الذي يمثل مقدمة قصيرة جدا كان من الضروري اتخاذ قرارات صعبة بشأن الموضوعات التي سيتضمنها والموضوعات التي ستحذف منه. ومن أبرز الموضوعات التي حذفتها من هذا الكتاب الديانة الجاينية الفلسفية التي ذكرتها سالفا. وكان ماهافيرا - مؤسس الجاينية - معاصرا لبوذا، وكانت تعاليمه مبتكرة ومثيرة، وترك التقليد أثرا بالفعل على التراث الهندي الديني الفلسفي، ورغم ذلك يمكن حذف الحديث عن الجاينية دون التأثير على الفلسفة الهندية الأشمل في مجملها. وحذفت أيضا تقليد الكارفاكا، الذي كون مدرسة فكرية مادية، ولم أذكرها إلا ذكرا عارضا. وتكمن أهمية هذا التقليد في أنه كون تحديات للمدارس الفكرية المعارضة، وقدم إسهامات مثيرة لمناخ الجدل الفلسفي. ورغم ذلك، وكما هو الحال مع الجاينية، فإن حذف الحديث المطنب عن الكارفاكا لا يثير مشاكل في فهم الصورة الكاملة للفلسفة الهندية. ومن أبرز الموضوعات التي حذفتها الشيفية، وتمثل الشيفية جانبا من جوانب الفلسفة الهندية مهما ومعقدا ومؤثرا للغاية، لكنه يتضمن مجالا متشعبا للغاية ومتنوعا في ذاته لدرجة تجعل تناوله على نحو موجز للغاية لن يسهم إلا في تشويهه فحسب.
بالإضافة إلى حذف هذه التقاليد المهمة، فإن طبيعة هذا الكتاب الموجز لا تسمح بسرد مفصل للطرق التي تطورت بها كل مدرسة من مدارس الفكر الفلسفي المختلفة والطريقة التي تفرعت بها داخليا كل منها على مر الزمان، وعادة ما يكون هذا التفرع نتيجة للتفسيرات المختلفة للأفكار الأساسية والنصوص الرئيسية للمدرسة الفكرية. وكان هذا التفرع شائعا للغاية في هذا المناخ الجدلي الذي ازدهرت فيه هذه التقاليد؛ لأن أتباع كل مدرسة سعوا إلى طرق جديدة لرفض مزاعم الآخرين دون الانحراف عن مصادرهم الأساسية. وكانت طبيعة تلك النصوص تعني أيضا أن التفسيرات المختلفة لها كانت محتملة على أية حال. وفي الغالب، كان ذلك بسبب أن تلك المصادر كانت مدونة باقتضاب شديد وبأسلوب مبهم، يتطلب خبيرا أو معلما لينقل لطالبه المعنى الكامل لهذه النصوص. وأحيانا، كما في حالة المدارس الفكرية القائمة على تأويلات نصوص مقدسة تسمى كتابات الأوبانيشاد، كان سبب اختلاف التفاسير هو أن المادة النصية نفسها كانت متشعبة للغاية لدرجة أن المناهج المختلفة واختلاف الاهتمامات أدى كلاهما إلى تفسيرات مختلفة تماما في المجمل. وعندما أجد أن السمات الأساسية للفروع الكبرى للتقليد من الممكن تقديمها على نحو واضح ومختصر فإنني أقدمها في الكتاب. أما إذا أراد القارئ سردا للغالبية العظمى من التطورات المفصلة للتقليد؛ فأوصيه في هذه الحالة بالاستعانة بكتاب آخر أكثر شمولية. «التأويلات» هي تفسير المادة النصية، وقد يفسر المؤولون المختلفون النص نفسه على نحو مختلف، وهذا يعني أن كلا منهم قد يزعم معنى مختلفا للنص نفسه أو للفقرة نفسها، وهذا يؤدي إلى أن يستنتجوا، فيما بعد، تفسيرات شديدة الاختلاف أحيانا من المصدر الأساسي نفسه.
أما ما يركز عليه الكتاب فهو أولا سرد للفترة التي بدأ خلالها التراث الديني الفلسفي الهندي على نحو محدد الملامح، وكان ذلك في القرن الخامس قبل الميلاد، ويركز أيضا على السمات الرئيسية للأفكار والممارسات السائدة في ذلك الوقت. ويناقش الكتاب السبب الذي جعل موضوعات معينة تبدو ذات أهمية حتمية لمدارس فكرية معينة، وهذا يساعد في معرفة السياق الذي جعل المدارس الفكرية المختلفة إما تركز على أمور مختلفة أو تتشارك الاهتمام بالعوامل المشتركة عند تفسيرها على نحو مختلف. وهذا يمهد الطريق لفهم كيف ولماذا أصبح الجدل محوريا في طريقة ازدهار التقليد لاحقا. وسوف نرى أيضا الغرض من الجدل، ونقاط الجدل والخلاف، وطريقة وضع المعايير المنهجية للجدل، وأهمية أن يطرح كل تقليد حجته.
ويقدم النقاش التالي ترتيبا زمنيا عاما للأفكار المطروحة؛ كي يمكن أن تفهم التطورات في سياقها. أما التقاليد والمدارس الفكرية القديمة التي يناقشها الكتاب على نحو مفصل فهي ديانة الفيدا القربانية والأفكار والممارسات المدونة في كتابات الأوبانيشاد القديمة. ولا تعد ديانة الفيدا القربانية والأفكار والممارسات المدونة في الأوبانيشاد «الذراعين» - إن جاز التعبير - لدين كهنة البراهما في الهند القديمة فحسب، بل هما أيضا تمثلان المصدر الأساسي للعديد من المدارس الفكرية الفلسفية التالية، وتمثلان أيضا الأساس الذي قامت عليه الحاجة إلى وضع أساسيات للجدل الفلسفي. علاوة على ذلك، فقد عارض الآخرون المرجعية المهيمنة التي أسسها هذا التقليد منذ وقت مبكر، وقدم هؤلاء أفكارا وتعاليم معارضة له. وكان بوذا من أشهر هؤلاء المعارضين، وقد عاش لمدة ثمانين عاما خلال القرن الخامس قبل الميلاد. ونظرا لقلة تواجد البوذية في الهند في الوقت الحاضر، وعدم تواجدها في الوقت الذي أطلق فيه على التقاليد الدينية في الهند مصطلح «الهندوسية»؛ فإن دور البوذية في التراث الديني الفلسفي الهندي ككل في الغالب لا يلقى تقديرا. ازدهرت البوذية في الهند، ومنذ البداية لعبت دورا مهما على قدر هائل ومؤثرا أيضا في تحدي وجهات نظر الآخرين وتطوير أفكار مختلفة. ولاقت البوذية بدورها انتقادا شديدا من قبل الآخرين. وتوجد في الكتاب فصول مخصصة للتحدث عن كل من الفترة الأولى للبوذية والطريقة التي قدمت بها الأفكار البوذية لأول مرة، والتطورات المنهجية أكاديميا وفلسفيا في الفكر البوذي التي ظهرت على مدار القرون التالية.
ومع مرور الوقت، غلب الطابع المنهجي واضح المعالم على العديد من المدارس الفكرية التي ترتبط أصولها وعلاقاتها، بطريقة أو بأخرى، بالتراث الفيدي الأوبانيشادي للبرهمية ارتباطا مباشرا. وأصبحت ست من هذه المدارس الفكرية هي السائدة، وأصبحت تعرف باسم الأنواع الستة الكلاسيكية لفلسفة الدارشانا الهندية. وفي أغلب الأحيان يطلق عليها مدارس الدارشانا «الهندوسية» الست، وعلى الرغم من أن استخدام مصطلح «الهندوسية» في الإشارة لهذه المدارس الست يعد مغالطة تاريخية فضلا عن أننا لن نستخدمه في هذا الكتاب؛ فإنه يفيد في تمييز تلك المدارس عن التراث البوذي وغيره من التقاليد الأخرى، مثل الجاينية، التي لا تشترك معها في السلالة المباشرة نفسها. أما ما جعل البوذية والجاينية نوعين منفصلين من التراث في حد ذاتهما فهو رفضهما الصريح والتام لسلطة وتعاليم كهنة البرهمية والمزاعم التي قالها كهنة البرهمية حول مكانة مصادرهم الأولية. وعلى النقيض من البوذية والجاينية، نجد أن أصحاب مدارس الدارشانا الست، على الرغم من انخراطهم في المحاجة والجدل وتقديم تعاليم ووجهات نظر تختلف أحيانا اختلافا كبيرا، قبلوا الهيمنة البرهمية؛ ومن ثم ظلوا تحت مظلتهم.
علم الوجود
يهتم علم الوجود بالموجودات؛ فهو يتعلق بالأمور الموجودة، ويمكن أن يكون جوابا على كافة المستويات من المستويات بالغة الصغر وحتى بالغة الكبر على سؤال: ماذا يوجد؟ ومهما كانت طريقة المرء في تناول الموضوعات الوجودية (ماذا يوجد؟) فالهدف هو إثبات «حالة وجود» الشيء الموجود، ويطلق على ذلك «الحالة الوجودية». فإذا تأمل المرء، على سبيل المثال، حديقة رآها في الحلم وأخرى في المتجر الذي يتسوق منه، فمن الممكن أن يرى المرء بسهولة أن كلتيهما لديها حالة وجود مختلفة؛ فالحالة الوجودية مختلفة. وبالمثل ، فالواحة التي يراها المرء في السراب حالتها الوجودية مختلفة عن الواحة التي يمكن أن يحدد المرء موقعها على الخريطة. فأي شيء موجود له حالة وجودية، ولا يشترط أن تكون هذه الحالة واضحة على الفور؛ فأثناء الحلم وأثناء تجربة السراب تبدو الحالتان الوجوديتان للحديقة والواحة مماثلتين لحالتيهما الوجوديتين عند رؤيتهما في المتجر أو على الخريطة، أما في واقع الأمر فإن وضعهما مختلف، ويمكن أن يفهم هذا الاختلاف في ضوء الحقيقة أو الواقعية. إن حديقة المتجر «أكثر واقعية» من الحديقة المرئية في الحلم، والواحة المبينة على الخريطة «أكثر واقعية» من الواحة المرئية في السراب، لكن الحديقة في الحلم وواحة السراب لديهما أيضا نوع من الواقعية أو الحالية؛ فالمرء يشعر «أنهما واقعيتان»، وفقط من خلال الإدراك المتأخر يمكن للمرء أن يدرك أنهما «أقل واقعية» من الحديقة والواحة المرئيتين في المتجر وعلى الخريطة. أما في سياق رؤية العالم أو النظام الفلسفي، فالحالة الوجودية هي ما تحدد الأمر الموجود في الواقع - حتى لو كنا لا نستطيع رؤيته على الفور - دون الارتباط بالتفسيرات الخاطئة المحتمل أن نأتي بها كما فعلنا في حالة الحلم والسراب. وعلى مدار العصور في الشرق والغرب، قدم الكثير من الحالات الوجودية المختلفة، وبعض هذه الحالات أقر أن ما نراه هو الموجود في واقع الأمر؛ والبعض الآخر قال إن حالة اليقظة العادية تشبه حالة الحلم، وإن الموجود فعلا يختلف عن ذلك.
يطلق على أنظمة الدارشانا الستة الكلاسيكية التي يتناولها الكتاب: نيايا، فايشيشيكا، يوجا، سانكيا، ميمانسا، فيدانتا. وجرت العادة على التعامل مع هذه الأنظمة الستة على أنها ثلاثة أزواج، كل زوج منها يتسم بسمات أساسية متوافقة أو متشابهة؛ فنجد أن الزوج الأول المتمثل في نيايا وفايشيشيكا يتشارك في الحالة الوجودية (انظر المربع السابق) التي يقدمها النظام الثاني (فايشيشيكا) وتتوافق معها طريقة الأول (نيايا)؛ ونجد أن الزوج الثاني المتمثل في يوجا وسانكيا يتشارك إلى حد كبير في الحالة الوجودية التي يقدمها النظام الثاني (سانكيا)، ومرة أخرى يتوافق معها منهج الأول (يوجا)؛ والزوج الثالث هو ميمانسا وفيدانتا، ويتشاركان في المنهج التأويلي للأجزاء المختلفة من صلب المادة النصية نفسها، التي ينسبان إليها نفس الحالة الأساسية. ويتبع الكتاب هذا الأسلوب التقليدي المتمثل في تقسيمها إلى أزواج، ويخصص فصولا منفصلة لكل زوج. ورغم ذلك، فعندما يكون الأمر مناسبا من ناحية الترتيب الزمني، فسوف تضم الفصول إشارات إلى مراحل رئيسية في التقاليد الأخرى؛ كي يظل القارئ مستوعبا كيف تطورت المدارس الفكرية المختلفة من خلال تفاعل بعضها مع بعض.
الفصل الثاني
البدايات البرهمية
القرابين والتأمل الكوني ووحدة الوجود
ستكون بداية القرن الخامس قبل الميلاد نقطة الانطلاق التي سنتناول من عندها الفكر الفلسفي الهندي من خلال إلقاء نظرة على الأفكار والممارسات التي أسس لها كهنة البرهمية في وسط شمال الهند في ذلك الوقت. وتعد هذه نقطة انطلاق جيدة لعدة أسباب؛ أولا: كان التقليد البرهمي يسود في شمال الهند في هذه الفترة، وقد ظل التقليد الوحيد الذي فرض هيمنته على التركيبة الاجتماعية الدينية للبلاد لفترة طويلة. وعلى الرغم من زيادة نفوذ أفكار وممارسات التقاليد الأخرى في فترات معينة، فقد ظل التقليد البرهمي يسيطر على المعايير المحددة لقيم المجتمع. ثانيا: في بداية القرن الخامس قبل الميلاد، وجد منهجان محددا المعالم على نحو واضح داخل هذا التقليد، ونحن نعلم معلومات كافية عن هذين المنهجين على نحو يمكننا من إبراز السمات والمساوئ الرئيسية في كل منهما. أما السبب الثالث، ولعله السبب الأهم بالنسبة لأغراضنا، فهو أننا من خلال مناقشة هذين المنهجين يمكننا أن نرى كيف أسهم كلاهما في انتشار التشكيك والجدل ومحاولات تفنيد أفكار الآخرين. وعند توضيح هذه النقاط، سوف نرى أيضا كيف ظهر هذان المنهجان في المراحل الأولية من هذا التقليد.
القرابين
كان كهنة البرهمية في القرن الخامس قبل الميلاد منحدرين من شعب اسمه الشعب الآري، جاءوا من أوراسيا الوسطى واستقروا في شمال غرب الهند منذ عدة قرون، وجلبوا معهم ممارساتهم وأفكارهم. كان لديهم لوقت طويل جدا ديانة تقوم على القرابين والطقوس، وكانوا يحفظون التفاصيل المقدسة لهذه القرابين والطقوس ويدونونها في «صحف» الطقوس. ونظرا لأن الكتابة كانت غير معروفة لهم في ذلك الوقت، فقد تولت عائلات مختلفة من الكهنة البرهميين، أسهمت كل منها في الطقوس، مسئولية الحفظ الشفهي للنصوص المتعلقة بواجباتهم الشعائرية، وتعاملوا مع هذه المسئولية بجدية بالغة؛ لأن فعالية القربان كانت تعتمد على دقة الحفظ، وأتقنوا أساليب متعددة للحفظ، وفي ضوء الأدلة الموجودة لدينا الآن، نعتقد أنه من المحتمل أنهم حققوا درجة عالية جدا من الدقة.
تأريخ زمني
2000-1500 قبل الميلاد تقريبا:
دخل تقليد تقديم القرابين الفيدي، القائم على الأفعال الشعائرية، إلى شمال غرب الهند على يد الآريين. وحافظ كهنة البرهمية على هذا التقليد وتولوا مهمة تنفيذه.
800-500 قبل الميلاد تقريبا:
اعتنق التقليد البرهمي التعاليم المدونة في كتابات الأوبانيشاد القديمة، التي قالت إن المعرفة ذات أهمية مطلقة.
بحلول عام 500 قبل الميلاد:
وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي من التقليد البرهمي جنبا إلى جنب.
وعلى الرغم من أن طقوس تقديم القرابين الفيدية تعتبر الآن نشاطا دينيا، فإن هذه الطقوس كانت تؤدى إلى حد كبير لأهداف دنيوية، وهذا يعني أن الغرض الأساسي من القربان كان أن يستمر الكون في العمل بأفضل مستوى كفاءة في الوقت الراهن. وكانت تقدم القرابين إلى عناصر النظام الطبيعي للكون مثل الشمس والمطر والبرق والرياح وغيرها، وكانت تقدم أيضا لمبادئ مجردة مثل العهود والنذور. وفي العموم كان يطلق على ما يقدم له القربان «ديفا». وكان المنطق وراء هذه الممارسة هو أنه إذا أدى الإنسان طقوس تقديم القربان على نحو صحيح، فإن «الديفا» سوف يرد بأداء وظيفته الكونية على أكمل وجه. وبهذه الطريقة استمر النظام الكوني، الذي أصبح معروفا فيما بعد باسم «دارما». أما ما فرض على كهنة البرهمية ضرورة القيام بالطقوس فهو صحف الطقوس، وتمثل هذه الصحف الأجزاء القديمة من مجموعة النصوص المعروفة باسم فيدا؛ ولذلك يمكن الإشارة إليها باسم صحف الطقوس الفيدية، وأحيانا يشار لهذا الدين القرباني باسم الدين الفيدي القرباني.
كانت «طقوس تقديم القرابين» التي جلبها الآريون تتم على يد أشخاص متخصصين (كهنة البرهمية)، نيابة عن أشخاص يحق لهم ويجب عليهم توظيف كهنة البرهمية للقيام بالطقوس. وكان تقديم القرابين يتم في مكان معد خصوصا لذلك، منظم حول نار أو نيران موجودة في المنتصف. وبالإضافة إلى الكلمات والأصوات التي يتمتمون بها أو يتحدثون بها أو ينشدونها، كانوا يستخدمون أيضا أدوات معدنية عند وضع القربان في النار، وكان القربان من مواد مثل الحبوب المطهوة والزيت. وكانت كل الأمور المتعلقة بالقربان، بداية من مساحة المكان إلى نوع القربان الواجب تقديمه والكلمات المستخدمة، موصوفة في صحف الطقوس.
كلمة «فيدا» تعني «المعرفة»؛ فهي تشير إلى اعتقاد أن الأسلاف القدماء للكهنة البرهميين في القرن الخامس قبل الميلاد عرفوا أو «رأوا» الحقيقة التي تتضمنها الفيدا (ولهذا السبب أطلق عليهم الناظرون). وهذا المعتقد لم يكن مفهوما مطلقا على أنه حقيقة مكتشفة خاصة بالمعلمين، بل فهموا أنها حقيقة كونية أبدية وغير مرتبطة بشخص بعينه، وأن الناظرين كانوا مجرد أداة لتدوينها للأجيال القادمة. وبهذه الطريقة أصبحت مكانة نصوص تقديم القرابين الفيدية ذات أهمية بالغة، واعتبر أي شيء مفروض على الإنسان بموجب مجموعة هذه النصوص صحيحا لذاته؛ إذ يجب تنفيذه لأنه يجب تنفيذه؛ فهذا جزء من الحقيقة الأبدية. وعلى هذا الأساس فإن الاهتمام بالدقة لضمان الفعالية عززه الاعتقاد الذي يقول إن الأداء الصحيح لكل طقس من الطقوس هو جزء من الواجب الكوني.
شكل : أدوات الطقوس المستخدمة في القربان الفيدي.
شكل : ما زالت طقوس القربان الفيدي تقام إلى يومنا الحالي، ولم تتغير عن الأوقات القديمة إلا قليلا.
بالإضافة إلى الأفعال الشعائرية البدنية، وصفت صحف الطقوس مجموعة من الكلمات والأصوات التي يمكن أن يشار إليها جميعا بأنها صيغ لا بد من نطقها أو التمتمة بها أو إنشادها عند تقديم القربان. وكان كل من الفعل البدني والصوت يسهمان في نتائج التضحية؛ فقد كانا من «الأفعال» ذات العواقب، أو ما يطلق عليه كارما. وكانت اللغة السنسكريتية هي اللغة المكونة لهذه الصيغ، ونتيجة لذلك اعتبرت اللغة أداة مقدسة ذات قدرة هائلة أكثر من كونها مجرد وسيلة للتواصل. وفي واقع الأمر، لقد اعتبرت تجسيدا في صورة صوتية لتجلي الكون.
اللغة السنسكريتية
تشترك كلمة «سنسكريت» مع كلمة كارما في جذر الفعل «كري»، أما البادئة «سنس» فتعطي معنى «المكونة جيدا» أو «المبنية جيدا»، وهذا يوضح الارتباط بين النطق الصحيح الواضح للكلمات السنسكريتية وبين الكون المتجلي الذي تشير إليه.
شكل : مقتطف من ريج فيدا، مخطوطة يعود تاريخها إلى عام 1434 للميلاد.
ونظرا لمكانة وقوة النصوص الفيدية واللغة السنسكريتية، فقد كان كهنة البرهمية يحرصون على معرفتهما معرفة وثيقة دون غيرهم من الناس، وأراد كهنة البرهمية إضفاء الشرعية على هذه المعرفة الحصرية فتعللوا بأن مثل هذه النصوص تحتاج إلى الحماية، لكن هذا في الوقت نفسه وضع الكهنة أنفسهم في موقع السيطرة المطلقة على المجتمع في ذلك الوقت، وكان المجتمع نفسه منظما بطريقة تحافظ على هذه السيطرة. أما أصول ما يعرف الآن بالنظام الطبقي الهندي فهي مدونة في صحف الطقوس الفيدية، وفيها كان الناس يقسمون وفقا لتسلسل هرمي على حسب النقاء الشعائري، وكان كهنة البرهمية، الأنقى، يحتلون القمة. إن نقاء كهنة البرهمية جعلهم مستحقين ومخولين بالتعامل بأمان وكفاءة مع الطقوس المقدسة ولغة القربان.
وهكذا فقد كانت السمات الأساسية للدين القرباني الفيدي تقوم على الطقوس الشعائرية، البدنية واللفظية أيضا، وكانت الدقة والإتقان في أداء هذه الطقوس ضروريين لضمان فعاليتها، وكان كهنة البرهمية يحفظون هذه الطقوس ويشرفون على القيام بها بالكامل، وكان الهدف من أداء هذه الممارسات الشعائرية هو الحفاظ على استمرار الكون، وكانوا يعتقدون أن الأفعال القربانية المختلفة - البدنية واللفظية - ترتبط بنتائجها بالتبعية.
التأمل الكوني
على الرغم من أن هذا النظام كان دنيويا إلى حد كبير، فإن كثيرا من النصوص الفيدية تسجل أن بعض القدماء المتخصصين في الطقوس كانوا يتأملون على نحو معقد في طبيعة الكون الذي يسعون إلى استمراره، وأدركوا أن الأدوار التي يلعبها الديفات التي يقدمون إليها القرابين كانت أدوارا مقتصرة على المكان المحدد والدور المحدد لكل منها في هذا الكون، وتفكروا أيضا في احتمالية وجود ما هو أعظم من الديفات. كما أرادوا أيضا معرفة المزيد عن أصول الكون نفسه؛ كيف بدأ كل هذا؟ من أو ماذا (إذا كان يوجد شخص أو شيء) خلقه؟ هل بدأ كجنين ذهبي؟ هل شيد على يد مهندس سماوي؟ هل نشأ عن قربان كوني؟ ما الدور الذي لعبه الكلام (أي صوت اللغة المقدسة)؟ هل النفس هو ما منح الحياة لكل شيء؟ أم كان الزمن هو ما بدأ كل شيء؟ ماذا كان يوجد من قبل؟ وربما السؤال الأهم هو: من يعلم ذلك؟
لم يكن يوجد عدم ولا وجود في ذلك الوقت، ولم يكن يوجد الفضاء ولا السماء التي وراءه. ما الذي بدأ كل شيء؟ وأين؟ وفي حماية من؟ هل كان يوجد ماء سحيق العمق؟
لم يكن يوجد موت ولا خلود في ذلك الوقت، لم تكن توجد علامة مميزة لليل أو النهار، أحدهم كان يتنفس ذاتيا، بلا هواء، وفيما عدا ذلك لم يكن يوجد شيء.
كان الظلام يخفيه الظلام في البداية، ولم توجد علامة مميزة، وكان كل شيء ماء. قوة الحياة التي كانت مغطاة بالخواء، أيقظها ذلك الكيان من خلال قوة الحرارة ...
من يعلم حقا؟ من سيعلن هنا؟ من أين جاء العالم؟ من أين جاء الخلق؟ الديفات أتت فيما بعد، مع خلق هذا الكون، فمن إذن يعلم من أين نشأ العالم؟
من أين نشأ هذا الخلق؟ ربما خلق نفسه، وربما لم يفعل ... الكيان الذي ينظر مراقبا من السماء العليا وحده يعلم، أو ربما لا يعلم. «ريج فيدا»، المجلد 10، من كتاب «مقتطفات من الريج فيدا»،
تحرير وترجمة ويندي دونيجر أوفليرتي، هارموندسوورث: بنجوين، 1981
تاريخ «الريج فيدا» غير مؤكد، لكن يعتقد أنها كانت قبل القرن الخامس قبل الميلاد بوقت كبير، ومن الممكن أن يعود تاريخها إلى قرابة 1500 قبل الميلاد.
يعد تأمل القدماء استثنائيا في مداه وعمقه، ويشير إلى قدر هائل من التفكير التحليلي من جانب ممارسي الطقوس عن طبيعة ما كانوا يقومون به. ولا يوجد لدينا دليل على ما إذا كان هذا التأمل قد أثر على الطقوس نفسها؛ وفي واقع الأمر سيكون من غير المحتمل أن يكون هذا التأمل قد أثر عليها؛ لأن الطقوس كانت مدونة بدقة صارمة، لكن من الممكن أن يكون هذا التساؤل المستمر قد أسهم في ظهور مجموعة ثانية من الأفكار والممارسات الدينية التي تبناها التقليد البرهمي. وإلى جانب استمرار غالبية الكهنة في ممارسة طقوس القربان الظاهرة والمرئية، تسجل النصوص الفيدية أن بعض الكهنة بدءوا يعتكفون للتأمل في طبيعة القربان بمزيد من العمق، وفي النهاية توصل بعض هؤلاء إلى اعتقاد أن القربان يمكن أن «يصبح باطنيا»؛ أي أن يمارس من خلال وسائل التركيز والتخيل.
والتطور التدريجي لهذا الاتجاه مسجل في كتب مجموعة النصوص الفيدية، المعروفة باسم البراهمانات والأرانياكات (انظر المربع التالي)، لكن في كتابات الأوبانيشاد توجد التعاليم التي قد تمثل، على نحو محدد، ذروة هذا الاتجاه. وتكون كتابات الأوبانيشاد الجزء الأخير من الشريعة الفيدية - ويطلقون عليها «نهاية الفيدا» - وجمعت محتوياتها في العائلات البرهمية نفسها التي جمعت النصوص الشعائرية.
كانت النصوص الفيدية محفوظة في عائلات برهمية مختلفة، ومع مرور الزمن أكملت «الأجزاء» الأربعة من «الصحف الشعائرية»، التي كان يستخدمها مختلف أنواع كهنة البرهمية، بكل من «البراهمانات» و«الأرانياكات» وأخيرا كتابات «الأوبانيشاد».
وكانت الأجزاء الشعائرية الأربعة هي:
ريج فيدا
ساما فيدا
ياجور فيدا
أتهارفا فيدا
ودمجت هذه العائلات نصوص «البراهمانا» و«الأرانياكا»، التي كانت تضم أفكارا حول طبيعة القربان و«تحويل القربان إلى قربان باطني».
وتمثل كتابات «الأوبانيشاد» ملحقات للنصوص القديمة، وتضم ما يلي: «كاوشي تاكي» «تشاندوجيا» «تايتيريا» «مونداكا» «براشنا» «بريهادارانياكا» «كينا» «كاتها» «إيشا» «شفيتاشفاتارا»
تحتوي كتابات الأوبانيشاد على الكثير من الأحاديث التأملية والتعليمية، حول طبيعة أداء الطقوس القربانية والهدف منها وضرورتها. أما ما يميزها عن النصوص البرهمية الأولى فهو أنها تحتوي أيضا على تعاليم وأفكار تقلل من مكانة الهدف من الطقوس وتجعله مجرد التزام بالسعي لفهم طبيعة البشر. بالإضافة إلى ذلك، فالمعرفة التي كانت تسعى إليها كانت معرفة شخصية وباطنية - معرفة «روحانية» داخلية - في مقابل معرفة القربان الطقسية العلنية. وهذا يمثل تحولا في التقليد من اهتماماته السابقة التي كانت متمحورة حول الكون إلى الاهتمام بموضوعات متمحورة حول الإنسان على نحو أكبر؛ أو أنه يركز على الفرد على نحو أكثر تحديدا داخل إطار الصورة الكونية الأوسع نطاقا المتعلقة بالفترة القديمة التي كانت خالصة للطقوس. تضم كتابات الأوبانيشاد أول تسجيل لفكرة أن البشر يولدون مرارا وتكرارا في ظروف تتوقف على أفعالهم في الحيوات السابقة. وتقول الكتابات إن الأداء المتقن والصحيح للقرابين لن يحقق العواقب التي من أجلها قدمت القرابين فحسب، بل سوف يؤثر تأثيرا مفيدا على ظروف الحياة التالية للشخص، وهذا هو قانون الكارما (الفعل) الذي لا ينطبق على آليات الطقوس فحسب، بل ينطبق أيضا على آليات التجربة البشرية.
ورغم ذلك، فأهم شيء يجب أن يطمح المرء إليه هو اكتساب معرفة طبيعة ذاته الجوهرية أو روحه، التي تسمى «أتمان» باللغة السنسكريتية. وتقول نصوص الأوبانيشاد إن الذات والكون شيء واحد، وتقول على نحو متكرر إن أتمان المرء لا تنفصل عن كل الموجودات. ويعرف ذلك على نحو مشهور بهذه الجملة: «تات تفام أسي»: «أنت [كل] ذلك» («تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد 6). ويجب السعي إلى اكتساب معرفة تجريبية عن هذه الهوية؛ لأن مثل هذه المعرفة تؤثر على خلاص المرء (الخلاص يعني «موكشا» بالسنسكريتية) من الميلاد المتكرر. ويقدم هذا المبدأ فكرة الخلاص إلى التقليد البرهمي لأول مرة، وعلى الرغم من استمرار ممارسة طقوس تقديم القرابين حتى الوقت الراهن، فإن تجربة الموكشا سرعان ما أصبحت الهدف الأسمى للوجود البشري. لقد أصبحت تعتبر معرفة إيجابية تماما مكنت المرء من الهروب من دوامة الميلاد المتكرر وجعلته يشهد الخلود: «إن المرء الذي يرى ذلك لا يشهد الموت أو المرض أو الضيق [بعد الآن].» («تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد 7).
وحدة الوجود
إذا نظرنا من وجهة النظر العامة بدلا من وجهة النظر الخاصة وجدنا أن المبدأ القائل بتطابق الذات والكون يجيب أيضا عن التأمل الأولي المتعلق بطبيعة الكون. في كتابات الأوبانيشاد القديمة يشار إلى الكون بالمصطلح المحايد «براهمان» (لا تخلط بينه وبين صيغته المذكرة «براهما» الذي هو اسم ديفا مهم في هذا التقليد). ويعد براهمان المرادف لثابت غير شخصي يمكن أن يطلق عليه أيضا وحدة الوجود أو الوجود. وفي فقرة مهمة يعلم فيها أحد الآباء ابنه، فيقول:
في البداية، كان هذا الكون مجرد وجود؛ واحد فقط دون ثان. وصحيح أن بعض الناس يقولون إنه «في البداية كان هذا العالم مجرد لاوجود - واحد فقط دون ثان - ومن اللاوجود ظهر الوجود.» لكن كيف يمكن أن يكون هذا هو واقع الأمر؟ كيف يمكن أن يأتي الوجود من اللاوجود؟ على النقيض من ذلك، في البداية، كان هذا العالم مجرد وجود - واحد فقط دون ثان. «تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد 6
يشار إلى المبدأ القائل إن الكون واحد بالمصطلح الوجودي «واحدية»، وهذا يعني أنه يوجد موجود واحد فقط، ولا يوجد شيء مغاير لهذا الموجود؛ إذن فكل ما هو موجود هو في النهاية شيء واحد، حتى إذا لم يبد لنا أن الأمر كذلك؛ فليس بالضرورة أن نكون قادرين على رؤية ذلك ليكون صحيحا. الواحدية مصطلح عددي وليس نوعيا. ويلزمنا معلومات إضافية لمعرفة طبيعة وسمات وحدة الوجود، في حال وجود تلك السمات.
الواحدية ليست مصطلحا إيمانيا أيضا، ويجب ألا يخلط بينها وبين مفهوم «التوحيد»؛ فالتوحيد ينص على وجود إله واحد، لكنه لا يخبرنا أي شيء آخر عن ذلك الموجود في حد ذاته، ولا ينص على أنه لا يوجد سوى وحدة الوجود. فإذا كان الكون واحديا، ففي إطار وحدة الوجود من الممكن أن يعتقد أنه يوجد شيء يبدو كإله - أو عدة آلهة في واقع الأمر - لكن ذلك لن يكون له علاقة بوحدة الوجود الأساسية سوى ذلك التعدد الظاهر في العالم التجريبي.
وتزخر كتابات الأوبانيشاد القديمة بجمل تفسر نتائج وحدة الوجود: «إنه من خلال الرؤية، والسمع، والتفكر، والتركيز على الذات الجوهرية للمرء (أتمان) يعرف العالم كله» («بريهادارانياكا أوبانيشاد»، المجلد 2). «الأتمان أسفل وأعلى، وفي الغرب والشرق والشمال والجنوب. الأتمان بالفعل هي العالم كله» («تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد 7). وعلى نحو مباشر إلى حد كبير، فالتعبير «أتمان هي براهمان» يوحد على نحو واضح تماما بين الذات الجوهرية والكون، ويجعلهما في النهاية شيئا واحدا لا شيئين.
إن التركيز على هوية الذات الباطنية والكون يشير إلى أن التعاليم المذكورة في كتابات الأوبانيشاد يمكن اعتبارها ذروة تحويل القربان إلى قربان باطني، كما قلنا في السابق. إن الممارسات الخارجية والمرئية الموجهة نحو العالم الخارجي تحولت ببساطة إلى فهم شخصي داخلي للعالم. وتدعم كتابات الأوبانيشاد أيضا تقليد طقس القربان؛ إذ إنها لا تذكر في أية نقطة ما يشير إلى ضرورة هجر تلك الطقوس. على العكس من ذلك، فإن كتابات الأوبانيشاد تؤكد على الحاجة إلى أداء الطقوس وعلى النظام الاجتماعي الطبقي، القائم على النقاء الشعائري الذي من خلاله تؤدى تلك الطقوس، وبذلك كان ممكنا أن توجد كل من الطقوس وتعاليم الأوبانيشاد جنبا إلى جنب داخل التقليد البرهمي. أما المكانة العليا المخصصة لصحف الطقوس الفيدية فهي مخصصة بالمثل لكتابات الأوبانيشاد؛ إذ تعتبر كلتاهما متضمنة لتعاليم متعلقة بالحقيقة.
يمكن للمرء أن يلاحظ على الفور أيضا كيف أن هذين الفرعين من التقليد يتضمنان موضوعات ووجهات نظر من المحتمل أن تسبب الخلاف والنزاع بين أتباع التقليد؛ فالتركيز والتأكيد في كتابات الأوبانيشاد لم يتحولا فحسب من الاهتمامات الدنيوية المتمثلة في الطقوس إلى الاهتمام بطبيعة ومصير الإنسان، كما وصفنا في السابق، بل أيضا اعتبر اكتساب المعرفة الباطنية ذا أهمية عليا، كما اعتبر هدفا أسمى من أداء الأفعال الشعائرية. علاوة على ذلك، وربما في غاية الأهمية، فإن ممارسة الطقوس الفيدية وسعي كتابات الأوبانيشاد إلى اكتساب المعرفة كليهما مدعومان بفهم مختلف لطبيعة الحقيقة؛ فكتابات الأوبانيشاد توضح أن تلك الطقوس، على الرغم من أهميتها، يجب أن تمارس فحسب وفق رؤية تفترض أن العالم المتعدد يتسم بالحقيقة المتسامية، وفي واقع الأمر فإن الغرض من الطقوس هو الحفاظ على العالم المتعدد. ورغم ذلك، ترى كتابات الأوبانيشاد أن تلك التعددية حقيقية فقط من الناحية التجريبية (أو من الناحية العرفية)، وأن معرفة الحقيقة الكبرى المتمثلة في وحدة الوجود الكامنة للعالم هي ما تؤدي إلى هدف الخلود الأعلى.
لا توجد تعددية هنا. إنه ينتقل من موت إلى موت من يؤمن بالتعددية في هذا الصدد. يجب أن يرى المرء واحدا فقط ... ومن خلال معرفة ذلك الواحد بعينه ، يمكن للبرهمي الحكيم أن يكتسب البصيرة بنفسه. «بريهادارانياكا أوبانيشاد»، المجلد 4
يطلق على الأشخاص الذين يقرون أن تعددية العالم من حولنا حقيقة مطلقة مصطلح «التعددين»، أما المصطلحات الأخرى التي تطلق على هذا المفهوم الوجودي فهي «الواقعية التعددية» و«الواقعية المتسامية»؛ وهذا يعني أن ما نراه - تعددية العالم التجريبي - حقيقي في حد ذاته، ومتسام (أو «خارج») عن أي شيء له علاقة بالإدراك البشري.
أما الأشخاص الذين يقولون إن التعددية التجريبية ليست حقيقية من جهة التسامي (وهذا سيشمل أولئك الذين يقولون إن الحقيقة واحدة) فإنهم لا ينكرون الحقيقة التجريبية، بل ما يقولونه هو أنه يوجد قدر أكبر من الحقيقة - الحقيقة المطلقة - يختلف عما نراه على السطح، والحقيقة التجريبية في هذا الصدد تكون «اصطلاحية».
في العقود الأولى من القرن الخامس قبل الميلاد لم يبد أن هذين المنهجين تعارضا فيما بينهما أو أنهما طرحا رؤيتين غير متوافقتين للعالم تتنافسان على السيادة، لكن هذا الوضع سرعان ما تغير، كما سنرى في الفصول المقبلة. فهذا القرن لم يشهد فحسب وجود بوذا وغيره من الذين تحدوا التعاليم البرهمية القائمة على كتابات الأوبانيشاد، بل سرعان ما أصبح من الضروري للمتخصصين في الطقوس أن يدافعوا عن رؤيتهم الواقعية للعالم ضد أولئك الذين سعوا إلى دحض الغرض من القربان أو السخرية منه، وفي سبيل القيام بذلك كانوا مضطرين إلى دحض أية فكرة متعلقة بالمكانة العرفية فحسب للعالم التجريبي كما تقول كتابات الأوبانيشاد، وكما يقول آخرون. وكان معنى ذلك أن أصبح التقليد البرهمي مضطرا للتصارع مع النقد الخارجي، وأيضا أصبح معرضا على نحو متزايد للتباين في الرأي بين أتباع التقليد استنادا إلى فرعي النصوص الأولية.
وفيما بعد، حاول أولئك المهتمون بعدم التشكيك في مشروعية وجود كلا المنهجين داخل التقليد نفسه التغلب على عدم التوافق بين المنهجين؛ عن طريق اقتراح ضرورة أداء الواجبات الشعائرية خلال فترة من حياة الفرد هي فترة زواجه وإنجابه للأطفال؛ وهذا يعني استمرار الحفاظ على العالم المعتمد على الطقوس، وكذلك إنتاج الأجيال المتعاقبة من الأبناء الذين يعتمد عليهم استمرار النظام الاجتماعي الطبقي الذي يقوده كهنة البرهمية. وبمجرد انقضاء هذه المرحلة من حياة المرء، يمكن تركيز الانتباه على السعي إلى تحرير المعرفة. وإلى وقتنا هذا، يرى الأشخاص الذين يهتمون في المقام الأول بالممارسة الدينية بدلا من النقاش الفلسفي أن هذا هو طريق الأرثوذكسية البرهمية التي تقر بالمكانة الجوهرية للفيدا ككل.
ومع ازدياد تطور النقاش الفلسفي والجدلي، شارك في النقاش مفكرون من تقاليد متنوعة، لكن من هذه النصوص الأولية مباشرة، بنت مدرستان من مدارس الدارشانا الفلسفية الكلاسيكية - هما ميمانسا وفيدانتا - تعاليمهما ورؤيتهما المختلفة للعالم على تأويلات نصوص تقديم القرابين الفيدية وعلى كتابات الأوبانيشاد على الترتيب. وأصبحت هاتان المجموعتان من النصوص، اللتان على أساسهما تعايش الفرعان الشعائري والمعرفي للتقليد البرهمي خلال أوائل القرن الخامس قبل الميلاد؛ معروفتين باسم «قسم الأفعال» («كارما كاندا») و«قسم المعرفة» («جنيانا كاندا») للفيدا لدى كل من الأشخاص الذين تحدوا التقليد، والأشخاص الذين وفقوا بين منهجي التقليد، والأشخاص الذين فسروا نصوص التقليد.
الفصل الثالث
هجر المنظومة البرهمية
الطريق الوسطي لبوذا
المارق في مواجهة المعتنق
إن ارتباط السلطة الدينية بالتسلسل الهرمي الاجتماعي الذي يتولى كهنة البرهمية إدارته وحراسته بالقدر نفسه من الصرامة التي يديرون بها الطقوس القربانية ويحرسونها؛ جعل البعض يرون أن العيش وفق قيود المنظومة البرهمية سيكون قهريا، وسعى هؤلاء الناس إلى إيجاد طرق اجتماعية دينية بديلة، وأصبح يطلق عليهم في مجملهم المارقون («شرامانا»). وكان ما رفضه هؤلاء هو كل ما يتعلق بسلطة كهنة البرهمية ومبادئهم التوجيهية، لكن ما فهمه الآخرون على وجه التحديد عن «المارقين» هو أنهم على طرف نقيض من «المعتنقين» المنصوص عليهم في التقليد البرهمي بهدف ضمان استمرارية ذلك التقليد. فواجب المعتنق لا يتمثل في تقديم القرابين فحسب، بل يتمثل في وجوب أن يكون منتجا اقتصاديا وتناسليا داخل السلالات الجماعية التي كانت تستبعد الأشخاص الذين لا ينتمون للمستوى نفسه من النقاء الشعائري. على الجانب الآخر، كان المارقون متجولين ومتسولين ومتبتلين، وبعضهم تجمع حول قادة وقبل تعاليمهم ورؤاهم واتفق معها، بينما كان كثير منهم متجولين معزولين ، وكثير منهم مارسوا أيضا أساليب تقشف قاسية، وأخضعوا أنفسهم لمستويات متطرفة من درجات الحرارة والجوع والعطش وأشكال مؤلمة من التشويه الجسدي، بالإضافة إلى أنواع أخرى متعددة من نكران الذات. وكان المارقون يرون أن ذلك الزهد له هدف؛ إذ كانوا يعتقدون أنه يسهم في اكتساب البصيرة الروحانية من خلال التركيز الذهني المكتسب بطرق معينة غير معتادة.
خريطة 1: المركزان الحضريان الأساسيان لحضارة وادي السند؛ موهينجو دارو وهارابا. منظر لموقع موهينجو دارو الأثري.
تأريخ زمني
عام 2000 قبل الميلاد تقريبا:
التقليد القرباني الفيدي.
800-500 قبل الميلاد تقريبا:
كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام 500 قبل الميلاد:
وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي من التقليد البرهمي جنبا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد:
في تناقض صارخ مع معتنقي الدين البرهمي كان المارقون - المتجولون والمتسولون والمتبتلون - يسعون إلى اكتساب المعرفة عن العالم وعن أنفسهم، ورفض المارقون كافة الأعراف البرهمية.
485-405 قبل الميلاد تقريبا:
تمثل هذه الفترة حياة بوذا. تسجل النصوص أن بوذا تحدى الممارسات والتعاليم البرهمية ومزاعمها القائلة بسلطة كهنة البرهمية، وأنه لم يجد بديلا مرضيا بين تعاليم المارقين. واعتمادا على رؤى اكتسبها من خلال تنويره شخصيا، تعلم بوذا طريقة وسطى بين طريقة المعتنقين وطريقة المارقين.
لا نعلم على وجه التحديد كيف أو متى أصبح وجود المارقين واضحا في مجتمع شمال الهند، الذي أخذت تزدهر فيه الرؤية البرهمية للعالم وأصبحت سائدة في الفترة السابقة للقرن الخامس قبل الميلاد. وخلال القرن العشرين، قدمت اكتشافات لحضارة موغلة في القدم كانت موجودة في السابق في وادي السند أدلة ترجح وجود تقليد قديم للغاية للسكان الأصليين للمنطقة ازدهر قبل وصول الآريين بفترة طويلة، وهذا يعني أن المارقين هم على الأرجح ورثة هذا التقليد، وأن منهج وممارسات هؤلاء المارقين على الأرجح لم ينشآ أثناء ازدهار التقليد الآري. وأيا كان المصدر، فإنه من المحتمل أن يكون الأمر متمثلا في أن بعض الأشخاص الذين كانوا يعيشون داخل المجتمع البرهمي سعوا إلى جعل هدف الشعائر القربانية وممارستها هدفا وممارسة باطنية، وأنهم سعوا أيضا إلى تجاوز القيود التي يفرضها تدخل الكهنة في إطار نظام اجتماعي محدد القواعد سلفا. ومن الممكن أيضا أن يكون الاتجاه نفسه إلى جعل القربان باطنيا قد أثاره الاحتكاك بممارسات السكان الأصليين.
شكل : منظر لموقع موهينجو دارو الأثري.
أما ما نعلمه، من مصادر متعددة يؤكد بعضها بعضا، فهو أنه في الوقت الذي كان فيه التقليد البرهمي يتبنى التعاليم الجديدة المدونة في كتابات الأوبانيشاد، كان يوجد عدد كبير من المارقين المتجولين الذين يسعون إلى اكتساب إجابات خاصة بهم لأسئلتهم الدينية الفلسفية. وكانت الأسئلة نفسها متعلقة، من عدة أوجه، بالموضوعات نفسها التي تناولتها النصوص التأملية الفيدية وكتابات الأوبانيشاد. وهذا يعني أن المارقين لم يكونوا يسعون إلى حقيقة مختلفة النوع كليا، بل كانوا فحسب يسعون إلى أجوبة بالاستعانة بوسائلهم الخاصة بدلا من الوسائل التي يعلمها كهنة البرهمية. وكان هدف الجميع تقريبا هو فهم طبيعة العالم وطبيعة الوجود البشري ممثلا في طبيعة الذات.
طبيعة الذات
تشير مصادرنا إلى وجود مجموعة كبيرة من النظريات المتعلقة بطبيعة الذات والعالم، ويختلف التأكيد على أحدهما أو كليهما باختلاف كل وجهة نظر. وتلخص هذه الأسئلة الكثيرة المتعلقة بالذات في النصوص البوذية القديمة على النحو التالي:
هل كنت موجودا في الماضي؟ ألم أكن موجودا في الماضي؟ ماذا كنت في الماضي؟ كيف كنت في الماضي؟ إذا كنت شيئا ما في الماضي، فماذا أصبحت في الماضي؟ هل سأكون موجودا في المستقبل؟ كيف سأكون موجودا في المستقبل؟ إذا كنت شيئا ما في الماضي، فماذا سأصبح في المستقبل؟ هل أنا موجود الآن؟ هل أنا لست موجودا الآن؟ ماذا أكون؟ كيف أكون؟ من أين أتى هذا الكيان؟ إلى أين سيذهب هذا الكيان؟
ويكمل النص فيقدم إجابات مقبولة على هذا النحو:
لي ذات. ليس لي ذات. أنا أدرك ذاتي من خلال ذاتي. أنا أدرك عدم وجود ذاتي من خلال ذاتي. أدرك ذاتي من خلال عدمية ذاتي. ذاتي هذه التي تتحدث وتشعر، والتي تشهد عواقب الأفعال الجيدة والسيئة أحيانا هنا وأحيانا هناك، هذه الذات دائمة ومستقرة وأبدية وغير متغيرة، وهي كما هي دائما . «ماجيما نيكايا»، المجلد 1
لقد كانت الأسئلة التأملية عن الذات والكون متعددة للغاية، لدرجة أن كافة الاحتمالات أصبحت مدرجة في إحدى الصيغ في النصوص البوذية؛ على النحو التالي:
هل الكون أبدي أم لا؟ هل الكون نهائي أم لا؟ هل الذات مختلفة عن الجسد أم لا؟ عند اكتساب التحرر من الميلاد المتكرر، هل يكون المرء موجودا أم غير موجود، أم موجودا وغير موجود، أم ليس موجودا وليس غير موجود؟ «ساميوتا نيكايا»، المجلد 2، (مثال معادة صياغته)
من هذا الدليل وغيره من الأدلة المعممة يمكن استنتاج بعض الأنماط الفكرية المتنوعة، فقد تبنى بعض الأشخاص نظرة مادية للغاية تنادي بالمادية المتأصلة للبشر في عالم نهائي تماما ومحدود زمنيا. وقال البعض إنه على الرغم من احتمالية وجود ذات غير مادية إلى حد ما مرتبطة بالجسم المادي خلال فترة حياة المرء؛ فإن هذه الذات تنتهي للأبد عند الموت. وتطلق المصادر البوذية القديمة على الأشخاص الذين تبنوا هذه النظرة اسم العدميين؛ حيث إن الموت يتضمن «انعدام» الذات. ولم يجد العدميون ولا الماديون المتطرفون أهمية للتعامل الجدي مع فكرة وجود قانون كارمي يحكم البشر، ورغم ذلك فكثير من المارقين، ومن الممكن أن يكون معظمهم، قد درسوا رؤاهم في إطار يفترض أن البشر يشهدون سلسلة من الحيوات. وبعض هؤلاء، بالإضافة إلى كهنة البرهمية المتبعين لكتابات الأوبانيشاد، اعتقدوا أن الذات دائمة وغير متغيرة، وأطلق عليهم البوذيون اسم الأبديين، وكان الآخرون غير أبديين، لكنهم اعتقدوا في استمرارية الذات بشكل أو بآخر. وكل هؤلاء الأشخاص اعتقدوا أن الأفعال لها عواقب في الحيوات المستقبلية، وبالنسبة لهم كانت الفكرة كلها من السعي وراء إجابات لهذه الأسئلة هي اعتقاد أن هذه المعرفة بعينها - معرفة طبيعة الذات وسياقها الوجودي - تؤدي إلى التحرر (موكشا) من الميلاد المتكرر؛ ولهذا السبب كان بحثهم عن الإجابات حتميا، وظل اهتمامهم منصبا على الأسئلة المتعلقة بهذه الموضوعات.
من المهم فهم هذه النقطة؛ لأنها تمثل سمة أساسية للمجتمع الذي نحاول فهمه، ولشرحها على نحو أكثر وضوحا قد يكون من المفيد تناول الصورة من زاوية مختلفة نسبيا. وفي العموم، فإن لدينا مجتمعا يمكن للمرء أن يرى فيه أن الممارسات والاهتمامات المختلفة مرتبطة ارتباطا مباشرا برؤى للعالم مناسبة لكل منها.
فمن ناحية، كان يوجد أتباع التقليد البرهمي القديم المتعلق بالدين القرباني الفيدي، وفيه كان أداء الطقوس يرتبط ارتباطا مباشرا بالحفاظ على كون إن لم يكن تجريبيا تماما، فهو بالتأكيد متعدد وحقيقي. وتركز الاهتمام على دقة القربان؛ نظرا لارتباط الفعل بالنتيجة، وكان هذا التقليد القديم في ذلك الوقت على وشك أن ينازعه مكانته مناهج أخرى ممثلة في تعاليم كتابات الأوبانيشاد واهتمامات المارقين غير الماديين. ورغم ذلك، فقد كان التقليد البرهمي قد أصبح بالفعل حامل لواء التقليدية، وواضع الأعراف الاجتماعية التي ما زالت مستمرة حتى وقتنا هذا. ولم يكن وجود وتأثير ذلك التقليد لينحى جانبا مهما بلغت قوة ادعاء أفضلية المناهج البديلة.
أما الآخرون، مثل الماديين والعدميين، فقد تمسكوا برؤية للعالم استبعدت التركيز على أي شيء بخلاف المكان والزمان الحاليين. واهتم هؤلاء الأشخاص، في المقام الأول، بالدفاع عن وجهات نظرهم ومحاولة تفنيد كل ما رأوا أنه مزاعم وممارسات سخيفة لدى كل من الشعائريين وغير الماديين على حد سواء.
وعلى النقيض، كان يوجد أولئك الذين اعتقدوا أن الحياة عبارة عن دورة ميلاد متكرر تحكمها الكارما، وأن العالم ليس تجريبيا كما يتراءى لنا، أو على الأقل يحمل في ثناياه أكثر من هذا المظهر. وكان اهتمام هؤلاء منصبا على اكتساب المعرفة المتعلقة بالتركيبة الدقيقة للعالم في حقيقة الأمر وموقع البشر داخله. وهذا الاهتمام لم يمكنهم فحسب من قول ادعاءات متعالية تزعم معرفة الحقيقة الماورائية، بل منحهم أيضا واجبا وجوديا لإدراك وسائل تحقيق الخلاص من قيد الميلاد المتكرر. وكانوا يرون أنهم إذا أرادوا الحصول على ذلك الخلاص الذي يمثل أعلى المنح، فإن أهم ما عليهم معرفته أكثر من أي شيء آخر هو طبيعة الذات، وهكذا سيطر هذا المسعى على منهجهم، مستبعدا أي اهتمامات أو موضوعات أخرى.
جوتاما - بوذا
هذه هي البيئة التي ولد فيها، حوالي عام 485 قبل الميلاد، رجل يسمى سيدهارتا جوتاما ، الذي أصبح فيما بعد معروفا باسم بوذا. وتعني كلمة بوذا حرفيا «اليقظ»، وتشير إلى مناسبة تنوير بوذا. وتصف النصوص المقدسة التنوير بأنه اكتساب الرؤية (ثلاث رؤى بالأحرى) التي كانت مهمة بما يكفي لأن تماثل اليقظة بعد النوم. وهذه النقطة تلفت الانتباه إلى الطريق البوذي، الذي يتفق مع تعاليم كهنة البرهمية أتباع كتابات الأوبانيشاد وكثير من المارقين في أنه يمثل الانتقال من الجهل إلى المعرفة. إن الجهل هو العامل الشرطي الأول الذي يدعم استمرار الميلاد المتكرر، الذي تتسم فيه كل حياة بعدم الرضا العميق المرتبط بالطبيعة المؤقتة لكل شيء يمكن للمرء أن يعايشه. أما المعرفة فهي العامل التمكيني الذي يمكن المرء من الوصول إلى إنهاء ذلك الميلاد المتكرر. ونظرا لأن المعلمين الأوائل لتلك التقاليد زعموا أنهم توصلوا لهذه المعرفة، فإن لدينا عددا هائلا من النظريات الميتافيزيقية المختلفة المتعلقة بهذه الفترة.
على الرغم من تداول الكثير من القصص الشعبية المستندة إلى التراث البوذي، الذي تقص أعماله الأدبية السردية سيرة حياة بوذا على نحو مبالغ في المديح، وتروي تعاليمه؛ فإننا لا نملك أية حقائق مؤكدة عن الحياة المبكرة لبوذا، فيما عدا أنه ولد لعائلة تعيش في مدينة كابيلافاتو (الموجودة في نيبال حاليا) ويبدو محتملا أن عائلته كانت ثرية وتتمتع بالنفوذ. وتروي النصوص أنه ترك منزله في أوائل الثلاثينيات من عمره بحثا عن إجابة لأسئلته المتعلقة بالطبيعة الوجودية للمصير البشري، وهذه الأسئلة هي: لماذا الوجود البشري على هذه الحال؟ لماذا يتسم بالمرض والشيخوخة والموت؟ أليس ثمة مفر من حالته تلك؟ هل يمكن للمرء فعل أي شيء حيال ذلك؟ هل يمكن للمرء حقا الهروب من مثل هذا الوجود؟
خريطة 2: المواقع المرتبطة ببوذا.
وسواء أكان لدى بوذا أي معرفة متعلقة بأي من التعاليم المذكورة في النصوص التي أشرنا إليها سابقا قبل مغادرته للمنزل أم لا (ونحن لا نعلم هذا)، فإن النصوص البوذية القديمة تخبرنا أنه بمجرد أن انطلق بوذا في سعيه قابل أشخاصا لديهم وجهات نظر شديدة التنوع. وفي واقع الأمر، تعد هذه النصوص واحدا من أهم مصادر المعلومات، بالإضافة إلى النصوص الجاينية المتعلقة بوجهات النظر المتعددة التي انتشرت في هذا المجتمع. وفي أثناء سعيه الباحث عن أجوبة لتلك الأسئلة المهمة، كان بوذا مهتما على نحو عملي بمقابلة الأشخاص المنطلقين في سعي مشابه، وتعلم ما ظنوا أن له علاقة بالموقف الإنساني وما يمكن أن يفعل حياله. ويبدو أنه أمضى بعض سنوات في الاستماع إلى نظرياتهم والتعلم منها واختبارها، من خلال السير على خطاهم في مختلف أنواع الممارسات التي مارسوها. ولم يشعر بوذا بأن أيا من هذه الممارسات تقدم الأجوبة الشافية التي كان يبحث عنها، وفي النهاية قرر أن يجرب أسلوبه الخاص في محاولة اكتساب الرؤى شديدة العمق التي كان يسعى إليها.
شكل : راهب بوذي يتأمل.
وباستخدام نوع من التأمل الثاقب قام بتعليمه للآخرين فيما بعد، زعم بوذا أنه اكتسب ثلاث معارف مكنته من فهم طبيعة الوجود البشري وسبب كونه على هذه الحال. وزعم أيضا أنه من خلال هذه المعارف الثلاث قد حقق الخلاص من أسر استمرار الوجود البشري، وتتمثل أولى هذه المعارف في أنه تمكن من رؤية حيواته السابقة، وطريقة تأثير كل منها على جودة وظروف الحيوات التالية؛ وهذا يعني أنه تمكن من رؤية تاريخ ميلاده المتكرر. وثانية هذه المعارف هي أنه رأى طريقة ولادة الموجودات الأخرى وطريقة ميلادها ثانية، وهذا أيضا وفقا لنتائج الأفعال التي قامت بها في الحيوات السابقة، وأثرت هذه النتائج بدورها على حيواتها التالية. وعلى هذا النحو فإن قبول بوذا لمبدأ الميلاد المتكرر والكارما وتدريسه كلا منهما لم يكونا قائمين على تبنيه لسمات رؤية العالم التي كانت سائدة آنذاك، بل كان قبول هذين المبدأين وتدريسهما قائمين على تجربته الشخصية. أما ثالثة تلك المعارف التي اكتسبها بوذا فكانت كيف يزيل من هذا الإطار المتصور ذهنيا تلك العوامل التي كان قادرا على أن يرى أنها تربطه بمنتهى القوة بالاستمرارية في هذا العالم؛ وتمثلت تلك العوامل المراد التخلص منها فيما يلي: الرغبات الشهوانية، والرغبة في الوجود المستمر، والجهل بالطبيعة الحقيقية للحقيقة، وتبني «وجهات نظر» متعنتة .
شكل : صورة بوذا وهو يلقي تعاليمه.
تنوير بوذا «بذهن مركز، وصاف، ونقي، وخال من التشتيت، ومرن ومحدد الهدف، وجهت عقلي نحو معرفة كيفية التخلص من «ميول الاستمرارية». تمكنت من رؤية السمة الأساسية للوجود البشري على حقيقتها، وكيف تنشأ، وعرفت أنها من الممكن أن تتوقف، وكيف السبيل إلى إيقافها، وعرفت ميول الاستمرارية على حقيقتها؛ نشأتها، وتوقفها، وكيفية إيقافها. ومن خلال هذه المعرفة وهذه الرؤية حقق عقلي التحرر من الآثار المقيدة لكل هذه الرغبات الشهوانية، ومن الآثار المقيدة للرغبة في استمرار الوجود، ومن الآثار المقيدة للتمسك بالآراء المتعنتة، ومن الآثار المقيدة للجهل. وبعد ذلك عرفت على نحو مؤكد أنني تحررت من الميلاد المتكرر، وأنني مارست ما كان من الضروري ممارسته، وفعلت ما كان من الضروري فعله، وأن حالتي الحالية لن تؤدي إلى استمرارية أخرى.» «فينايا»، المجلد 3 (فقرة معادة الصياغة)
انظر أيضا: «ماجيما نيكايا»، المجلد 1،
و«أنجوتارا نيكايا»، المجلد 2 والمجلد 4
وفقا للنصوص المتاحة (انظر المربع السابق)، قبل أن يصف بوذا المعرفة الثالثة التي اكتسبها لخص ما تمكن من رؤيته في صيغة رباعية على النحو التالي: (1) الوجود البشري في حد ذاته له صفات جوهرية معينة. (2) توجد عوامل محددة تعزز استمراريته. (3) من الممكن إيقاف تلك الاستمرارية. (4) توجد طريقة تؤدي لهذا الإيقاف. إن رؤية وفهم السمات الأساسية لهذا الموقف لأمران ضروريان إذا كان ما يسعى المرء إليه هو التحرر من أسره. وكان هذا الفهم أساسيا إلى حد كبير؛ لدرجة أنه أصبح أول مبدأ فعلي يعلمه للآخرين، ويعرف باسم الحقائق الأربعة النبيلة، ويقال إنه تحدث عن تلك الحقائق في حديقة أيائل في فاراناسي.
الحقائق الأربعة النبيلة
تركيبة الحقائق الأربعة النبيلة بسيطة وواضحة؛ فهي تقول إن «س» هي الحالة القائمة بسبب «ص»، وسوف تتوقف «س» إذا توقفت «ص»، في حين أن «س» متأصلة في الوجود البشري. وما تشير إليه تلك الحقائق بالمصطلحات المفاهيمية ليس من السهل استنتاجه؛ والسبب في ذلك يعود، إلى حد ما، إلى الطبيعة الغامضة لتلك الحقائق، والسبب الآخر يتمثل في أن مصطلح «دوكها»، ذلك المصطلح المأخوذ من اللغة البالية المستخدم في الإشارة إلى السمة المتأصلة في الوجود البشري المحددة في الحقيقة النبيلة الأولى؛ معناه غير واضح إلى حد كبير. لطالما ترجم مصطلح دوكها إلى «معاناة»، أو «ألم»، أو «مرض»، لكن في الوقت الحاضر أدرك قطاع عريض من الناس أن هذه الترجمة تنسب لبوذا على نحو خاطئ رؤية سلبية للغاية عن الوجود البشري، ويسهل دحضها. والترجمة الأفضل هي «عدم الرضا» التي تربط مصطلح دوكها، من الناحية المفاهيمية، بمبدأ بوذا القائل إن كل عوامل عالم الوجود الظاهري غير دائمة. وفي تناقض مباشر مع مزاعم معلمي الأوبانيشاد في عصره، التي قالت إنه على الرغم من التعددية الواضحة في الكون فإنه من الممكن إدراك أن الكون عبارة عن وحدة جوهرية دائمة وغير متغيرة؛ علم بوذا أتباعه أن كل العوامل المدركة غير دائمة. ونظرا لأن تلك العوامل غير دائمة، فإنها غير مرضية في نهاية المطاف (فحتى أفضل التجارب والمواقف لا تدوم) على النقيض من نعيم الخلود المفترض، أو الديمومة المطلقة. ومن هذا المنطلق يفهم أن الحقائق النبيلة الأربعة تصنف عدم الإشباع الناجم عن الزوال بأنه السمة الأساسية للحياة المتكررة. ونظرا لأن المرء لا يقبل بعدم الدوام ويسعى ويرغب دائما في أن تكون الأشياء دائمة - الشباب والصحة والأحباء والممتلكات النفيسة وهكذا - فإن هذا السعي وهذه الرغبة يدعمان استمرار عدم الرضا؛ لأن كل رغبات الإنسان مصيرها خيبة الأمل. وتأكيدا على الحقيقة النبيلة الثانية، توضح البوذية أن آلية عملية الكارما تكمن في رغبات المرء الشهوانية؛ أي تكمن في الحالة الذهنية المتعمدة للمرء.
تعاليم بوذا
الحقائق النبيلة الأربعة
يتسم الوجود البشري بسمة متأصلة هي «دوكها».
تنشأ «دوكها» عن التوق والرغبات الشهوانية (سواء أكانت إيجابية أم سلبية).
من الممكن إيقاف «دوكها»، ويعرف هذا الإيقاف باسم «نيرفانا».
تتحقق «نيرفانا» من خلال اتباع الطريق الثماني النبيل. «ساميوتا نيكايا»، المجلد 4، (مثال معادة صياغته)
تعني كلمة نيرفانا «الإطفاء»، وتشير إلى إيقاف وقود الاستمرارية.
النشأة المعتمدة «ما أعلمه هو النشأة المعتمدة؛ إن كل الأشياء المعروفة يعتمد بعضها على بعض في نشأتها، وهذه هي طبيعة الأشياء، الطبيعة المعتادة للأشياء.» «ساميوتا نيكايا»، المجلد 2
عندما يكون هذا، يكون ذاك.
عندما يحدث هذا، يحدث ذاك.
عندما لا يحدث هذا، لا يحدث ذاك.
عندما يتوقف هذا، يتوقف ذاك. «ماجيما نيكايا»، المجلد 3، (مثال)
سمات الوجود الثلاث
كل الأشياء معتمدة النشأة غير دائمة.
كل الأشياء معتمدة النشأة [نتيجة لذلك] غير مرضية.
كل الأشياء الممكنة معرفتها ليست هي الذات. «دامابادا»، (مثال)
إن الصيغة التي وصلت إلينا بها تعاليم البوذية القديمة الأساسية تعكس حقيقة أنه، حتى وقت تدوين تلك التعاليم في عام 40 قبل الميلاد تقريبا، كان الحفاظ القدماء لهذا التقليد يستخدمون أدوات تذكيرية لتساعدهم على الحفظ الشفهي لهذه التعاليم.
أما السبب وراء استمرار رغبة المرء وتوقه لما لا يمكنه الحصول عليه فهو جهله بالطبيعة الحقيقية للحقيقة. وفي الواقع، فإن كل شيء في دورة الحيوات مشروط بشيء آخر، ووضع بوذا هذه النقطة في مبدأ أو تعليم آخر من تعاليمه الأساسية؛ فقال إنه توجد «طبيعة للأشياء»، أو «نمط معتاد للأشياء»، وهذه الطبيعة أو هذا النمط المعتاد يتمثلان في أن كل الأشياء «نشأت معتمدة على غيرها». وهذا ينطبق عموما على كل عوامل تجربتنا المتكررة؛ فلا شيء على الإطلاق، مهما كانت طبيعته - ماديا أو ذهنيا، حسيا أو متصورا، ملموسا أو مجردا، عضويا أو غير عضوي - يحدث مستقلا عن عوامل شرطية. وبالفعل هذا هو سبب عدم دوام كل الأشياء.
النشأة المعتمدة
النشأة المعتمدة هي تعليم ميتافيزيقي متطرف، إلى حد كبير، من تعاليم بوذا، وهي لا تنص على عدمية الوجود، بل تقول إن طريقة حدوث كل الأشياء تختلف عن كل من: الوجود الذي ينطوي على الاستقلالية، وعدم الوجود الذي ينطوي على إنكار حدوث الأشياء. والهدف من هذا التعليم عن النشأة المعتمدة هو سلوك «طريق وسطي» بين الوجود وعدم الوجود، والإقرار بالوجود وعدم الوجود، وإنكار الوجود وعدم الوجود. إن هذه الصيغة المتحدية للمنطق، التي رأيناها بالفعل في السابق، مصممة لتضم وترفض كل أنواع التباديل الممكنة للمواقف الميتافيزيقية التي يتخذها الآخرون. «الطريق الوسطي» لبوذا
قال بوذا إن تعاليمه اتخذت طريقا وسطيا بين تعاليم وممارسات معتنقي التقليد البرهمي والمارقين منه، ويمكن رؤية ذلك بوضوح شديد في ثلاثة جوانب كالتالي: (1) كان مجتمع الرهبان البوذي بين طرفي نقيض؛ تمثل أحدهما في التمسك التام بالنظام الاجتماعي، وتمثل الآخر في الرفض التام لذلك النظام الاجتماعي، فكان أعضاء مجتمع الرهبان يعيشون منفصلين عن المجتمع لكنهم معتمدون على العوام على نحو متبادل. (2) النظام اليومي وأسلوب حياة الرهبان البوذيين كانا بين الانغماس الحسي المرتبط بالحياة الأسرية وبين أساليب التقشف القاسية المفروضة ذاتيا التي كان يمارسها المارقون من التقليد البرهمي؛ فقد كان الرهبان البوذيون متبتلين، لكن كل احتياجاتهم الأخرى كانت مجابة من أجل الحفاظ على السلامة الصحية التي اعتقدوا أنها مهمة من أجل الالتزام الكامل بالتقليد البوذي. (3) ميتافيزيقية النشأة المعتمدة سلكت طريقا وسطيا بين كل التباديل الممكنة للنظريات الوجودية المطروحة من قبل الآخرين؛ فلا يمكن التعبير عنها باستخدام أية مجموعات مصطلحات متعلقة بالوجود أو بعدم الوجود.
كثيرا ما يقال إن ما كان يعلمه بوذا في هذا السياق، في تناقض مباشر مع كهنة الأوبانيشاد وغيرهم، هو أنه لا توجد ذات. ونشأت وجهة النظر تلك من استخدام المصطلح البالي (من اللغة البالية) «أناتا» («أناتمان» بالسنسكريتية)، الذي يتضمن إضافة بادئة نفي للكلمة التي تعني «ذات». والذات، كما رأينا في السابق، كانت تشغل اهتماما محوريا لمعظم مجتمع بوذا. وكانت المجموعة البرهمية المسيطرة، التي كانت تتلقى تعاليمها من كتابات الأوبانيشاد، تزعم أن معرفة الهوية الخالدة للذات مع جوهر الكون تحقق التحرر. وعلى النقيض من ذلك، قال بوذا إن كل الأشياء التي يمكن معرفتها («داما») هي «أناتا»؛ أي «غير ذاتية». واعتبر البوذيون والأكاديميون، على حد سواء، أن ذلك إنكار تام للذاتية؛ أي إنه لا يوجد ذات.
ورغم ذلك أوضحت إحدى الدراسات الأكاديمية الحديثة أن السياق يطبق على نحو عام وليس فقط على نحو خاص؛ فالفكرة تتمثل في أنه إذا كانت كل الأشياء تنشأ معتمدة بعضها على بعض، بين كل تباديل الوجود وعدم الوجود، فهذا يعني أن الطريقة التي توجد بها الأشياء - بما فيها الذوات، وكذلك درجات السلم الموسيقي، وأظافر القدم، والأفكار، والضحك، والروائح، والقطط، والأشجار، والكراسي، والأحجار - هي طريقة واحدة في العموم، وليس أنها غير موجودة. وفي واقع الأمر، عدم الوجود أمر مرفوض تماما. ونظرا للدلالات الذاتية لمصطلح «أناتا»، فإنه من الممكن أن يصرف الانتباه عن المعنى المقصود. لم يكن بوذا ينفي وجود ذوات الأشخاص، بل كان ينفي وجود أي شيء مستقلا عن باقي الأشياء، وهذا يتعارض على نحو واضح مع مزاعم الآخرين القائلة بديمومة الذات، لكن كون هذا المبدأ ينص على عدم وجود الذات هو في الحقيقة أمر محل تشكيك.
ويدعم هذا التشكيك حقيقة أن بوذا حث على ضرورة ابتعاد المرء عن تبني أي موقف من هذه المواقف الوجودية المتعلقة بالذات أو بالكون. وقال إن كل هذه المواقف أو أيا منها هي «مجرد آراء» تعزز عوامل الاستمرارية القسرية إلى حد كبير، وهي العوامل التي ينبغي التخلص منها من أجل اكتساب رؤية تمكننا من معرفة طبيعة الحقيقة. ورفض بوذا نفسه الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بمثل هذه الموضوعات، وصمته عند التساؤل عن صيغة «المنطق الرباعي» المشار إليها في السابق أدى إلى تسميتها بالأسئلة غير المجابة في البوذية. وفي تعارض كبير مع معاصريه ومع معظم المعلمين الآخرين، لم يقدم بوذا أية معلومات عن الوضع الوجودي للذات والكون، أو على الأقل لم يقدم تلك المعلومات على نحو مباشر. أما ما كان يعلمه بوذا في واقع الأمر - من أجل «رؤية الأشياء على حقيقتها» كما تقول المصادر البوذية - فهو ضرورة ألا يكون الاستقصاء والفهم من جانب المرء مركزين على الموضوعات الوجودية، بل يجب أن يركزا على عمل الملكات المعرفية للمرء.
ويشار إلى هذه الملكات في المصادر البوذية بمجموعة العوامل الخماسية المتفاعلة، ويطلق عليها الكاندات الخمس، وكلمة «كاندا» ليس لها مرادف دقيق في هذا السياق. وإذا بدا أن السائل يصرف الانتباه إلى موضوع آخر، كان بوذا يؤكد على نحو متكرر أن آلية عمل الكاندات هي اللازم فهمها. علاوة على ذلك، وعلى قدر كبير من الأهمية، فإن النصوص القديمة تنص على نحو متكرر على أن الكاندات الخمس هي ما تكون الدوكها، تلك الدوكها التي تعد السمة الأساسية للوجود البشري المحددة في الحقيقة النبيلة الأولى. ويشير هذا الارتباط إلى أن الأهمية الكاملة للحقيقة لا تقتصر، من هذا المنطلق، على الحالة النفسية لعدم الرضا، بل تشمل أيضا فكرة أن نقطة الانطلاق التي يجب أن يبدأ من عندها الاستقصاء عن الوجود البشري هي الملكات المعرفية للمرء. إنها الوسيلة التي يدرك المرء من خلالها التجارب في العموم، ومن ثم فمن غير الممكن استقصاء أي شيء محدد أو معرفته دون أن نفهم أولا الوسيلة التي من خلالها يدرك المرء الشيء، أو يكون تصورا عنه في المقام الأول.
ومن الناحية «الدينية»، فإن الغرض من استقصاء الملكات المعرفية للمرء هو فهم الرابط بين طريقة عملها المعتادة وبين الطريقة التي تؤثر بها شهوات المرء ورغباته على هذه الملكات؛ فالاستجابة الرامية إلى الإشباع تعتمد على العمليات المعرفية التي تعمل على حسب القواعد المتعارف عليها، لكنها في واقع الأمر، ونظرا للطبيعة الحقيقية للحقيقة، تعمل على نحو خاطئ. وعلى وجه التحديد، فإن الفشل في فهم نتائج النشأة المعتمدة يقود الشخص إلى الاستمرار في الاستجابة كما لو كان راغبا مستقلا لديه رغبات مستقلة لأشياء مرغوبة متفرقة. وبهذه الطريقة تعزز الاستمرارية من خلال تضافر الجهل والرغبات الشهوانية. وبالعكس، سوف تضمر الرغبات الشهوانية إذا استبعد الجهل وحل محله فهم أن تصور الاستقلالية والفردية هو تصور زائف.
من طبيعة الوجود إلى طبيعة التجربة
من الناحية «الفلسفية» كل ما يفعله هذا المبدأ هو تحويل مركز الاستقصاء من الوجودية إلى الإبستيمولوجيا (نظرية المعرفة)، وهذا يعني أن بوذا أدخل في هذا المجتمع، الذي يزخر بتساؤلات ميتافيزيقية كثيرة ونظريات وجودية عميقة عن الذات والكون، زعما يقول إن كل ما يمكن للمرء الوصول إليه هو العملية المعرفية الذاتية للمرء؛ فالمرء لا يستطيع الخروج خارج هذا النطاق لرؤية أو للتحقق مما قد يكون الحال خارج نطاقه المعرفي، لكن يمكنه على الرغم من ذلك فهم آلية عمل ما يدور خارج نطاقه . وهذا يتضمن فهم دور الملكات المعرفية في تكوين طريقة إدراكنا للعالم من حولنا. وتشير النصوص إلى طريقة معالجة الملكات الإدراكية للشخص للبيانات «الخام» المتعلقة بالتجارب وتقسيمها إلى فئات مميزة ومنقحة ومتطورة إلى حد كبير، فالعملية برمتها تتضمن «تعديد الأشياء غير المتعددة في واقع الأمر» («أنجوتارا نيكايا»، المجلد 2).
العملية المعرفية
يحدث الإحساس البصري عند حدوث تواصل بين الوعي والعين والشيء المرئي، وبعد ذلك يصبح هذا الإحساس المبدئي مميزا ومتصورا ومتعددا. «ماجيما نيكايا»، المجلد 1، (فقرة معادة الصياغة)
ينطبق هذا النسق على السمع، والشم، والتذوق، واللمس والتفكير (تعترف البوذية وغيرها من مدارس الفكر الهندي بوجود ست حواس، من ضمنها حاسة متعلقة بالنشاط الذهني غير الحسي).
النشأة المعتمدة مرة أخرى «إن فهم النشأة المعتمدة يعني أن المرء «لن يطرح بعد ذلك» أسئلة عن وجود الذات أو الماضي أو المستقبل أو الحاضر من قبيل: هل الشيء موجود؟ أو هل الشيء غير موجود؟ أو ماذا يوجد؟ أو لماذا يوجد؟ أو هذا الشيء الذي على هذه الحالة، من أين أتى؟ وإلى أين سيذهب؟» «ساميوتا نيكايا»، المجلد 4، (فقرة معادة الصياغة بتصرف)
تتجلى نتيجتان من هذا التعليم، وهاتان النتيجتان لم تعبر عنهما النصوص على نحو صريح (في واقع الأمر، عبرت عن قدر قليل منهما على نحو صريح). إحدى هاتين النتيجتين هي أنه إذا كانت الملكات المعرفية الإدراكية هي ما تعالج كل البيانات التجريبية، فهذا إذن ما يكون منبت النشأة المعتمدة؛ أي إن كل ما يشهده المرء ينشأ على نحو اعتمادي في عمليات تجريبية ذاتية. وهذا لا يعني فحسب وجود ارتباط مباشر بين الذاتية والموضوعية، بل يعني أيضا أن السبب في كون ظواهر الوجود المتكررة التي تعتمد في نشأتها بعضها على بعض ظواهر غير دائمة هو الطبيعة التجريبية لتلك الظواهر. وكان مقدرا لهذه النتيجة أن تخضع لمزيد من التفسير والنقاش الكامل في البوذية المتأخرة، لا سيما في بوذية اليوجا كارا، لكن خلال الفترة المبكرة للبوذية ظلت هذه النتيجة مستترة التفاصيل إلى حد كبير.
أما النتيجة الثانية فتتمثل في أنه إذا كان التركيز يكمن في فهم طبيعة المعرفة خلافا لفهم طبيعة الأشياء، كما كان الأمر في السابق، بغض النظر عن ملكاتنا المعرفية، فهذا يعني أن لا شيء مما يعرفه المرء يمثل ذات المرء. وأيا كانت طبيعة المرء، ذلك الفاعل العارف، أو مكانته الوجودية فإنه لا يستطيع أن يجعل نفسه مفعولا به كي يعرف نفسه بنفسه؛ ولذلك نقرأ في السطر الأخير من الصيغة المعروفة باسم سمات الوجود الثلاث (الموضحة في المربع المذكور سابقا) ما يلي: «كل الأشياء الممكنة معرفتها («الداما») ليست هي الذات (أناتا).» وهذه النتيجة أيضا ظلت مستترة إلى حد كبير، وفي هذه الحالة، كان السبب يعود إلى المزاعم المناقضة التي كانت تقول إن مبدأ «أناتا» يقضي بعدم وجود الذات.
كان بوذا ناقدا لاذعا لآراء ومزاعم الآخرين في نواح كثيرة، فإذا كان مبدأ أناتا يقر بعدم وجود الذات، فهذا وحده سيكون متناقضا تماما مع مزاعم المجموعة البرهمية المسيطرة التي تتلقى تعاليمها من كتابات الأوبانيشاد على أقل تقدير. وفي واقع الأمر، لو كانت فحوى المبدأ أن لا شيء مما يعرفه المرء يمثل ذات المرء، إذن لقضى، إلى حد كبير، ليس فقط على معتقد المجموعة البرهمية المسيطرة، بل أيضا على الهدف نفسه من السعي كما تراه الغالبية العظمى من معاصريه. وعلى أية حال، فعند تعليم الآخرين معتقد النشأة المعتمدة، رفض بوذا كل المواقف الوجودية المختلفة التي تبناها الآخرون رفضا صريحا.
وعند استعراض السمات المختلفة لتعاليم بوذا، من المهم تذكر أنه في ذلك الوقت كان هدفه من إعطاء تعاليمه ورفض تعاليم الآخرين موجها تماما إلى مساعدة الآخرين في اكتساب الرؤية لتحقيق التحرر من تقلبات الوجود البشري. ولا يمكن للمرء قراءة النصوص البوذية القديمة دون أن يتذكر باستمرار هذا الهدف، كما أن تجاهله أو التغاضي عنه سيضر بالطريقة المحفوظة بها هذه التعاليم. لقد كان بوذا مهتما بتقليل نفوذ كهنة البرهمية، ليس لأنه تمنى تحقيق نصر فلسفي، بل لأنه رأى أن مزاعم أحقيتهم في احتكارية القيام بالطقوس والسلطة المطلقة تضر بصالح الناس. علاوة على ذلك، لقد اعتبر اعتمادهم على التقليد البرهمي في معرفة ما زعموا أنه طبيعة الأشياء بدلا من الاستفادة من فهمهم التجريبي المستقل الخاص؛ أمرا لا يعتمد عليه إلى حد كبير، لدرجة أنه يعد أمرا غير فعال بطبيعته؛ فهو لم ير أي سبب وجيه يلزم أي شخص بالإيمان بمبدأ قدمه شخص آخر لم يشهد مطلقا المزاعم التي يدعيها. واعترض بوذا أيضا على شعور الكهنة بأهميتهم الذاتية وعدم اهتمامهم بتحرر الآخرين. واعتبر بوذا كل الأنشطة الشعائرية التي كان يزاولها الكهنة عبثية، وقال إن آلية الفعل والنتيجة تكمن في الحالة الذهنية للمرء، ولا يمكن لأي شخص التحكم فيها سوى المرء نفسه. ورأى بوذا أن التركيز على تذكر الصيغ المقدسة بدقة وحجب اللغة المقدسة عن الآخرين يصرف الانتباه عن الحاجة إلى فهم نظام آليات الوجود ويوجهه نحو التفاصيل المتعلقة بالأصوات والصيغ المنطوقة، وأكد على أن المهم ليس الحرف بل الروح، وما يهم ليس التفاصيل بل الصورة الكلية، فليس المهم أن يحفظ المرء بل أن يفهم.
كان طابع النصوص البوذية القديمة طابعا «دينيا» ولم يكن تقليدا «فلسفيا»، وكانت الموضوعات التي تناولتها البوذية في تلك الفترة، والتي قد تهمنا فلسفيا على الصعيد الفكري، ذات طبيعة وجودية إلى حد كبير وليست اهتمامات مجردة. وفي واقع الأمر، كان من الممكن أن يشعر بوذا وأتباعه المباشرون، ومعاصروه الآخرون الباحثون عن الحقيقة، بالحيرة من أية محاولة تهدف ببساطة إلى وضع أفكارهم في قالب عقلاني. ورغم ذلك، فقد كان القرن الخامس قبل الميلاد هو البوتقة التي تشكلت فيها أفكار ومناهج كثير من مدارس الفكر المختلفة وتحددت على نحو واضح علاقاتها بعضها ببعض. علاوة على ذلك، بداية من ذلك القرن فصاعدا زادت الحاجة إلى مسوغات أكثر منهجية تبرهن على صحة ادعاءات المناهج الأكثر تأثيرا في ذلك المجتمع. وعلى الرغم من أن مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد لم يكن يرى ضرورة لوجود أية تفسيرات رسمية للأسس النظرية للتعاليم المختلفة المتعددة، فإنه لم يمر وقت طويل حتى أصبحت التفسيرات الرسمية تتنافس فيما بينها على الأفضلية والقبول، وأصبحت الأمور التي كانت تعلم، إما بسبب توجيهات تقليد راسخ منذ فترة طويلة أو لمجرد أهداف خلاصية عملية، تتطلب صياغات وتفسيرات أكاديمية ونظرية إلى حد كبير.
الفصل الرابع
الموضوعات والمبررات
اللغة والقواعد اللغوية والجدل
تهديد كهنة البرهمية
من وجهة نظر كهنة البرهمية، مثلت التطورات التي حدثت خلال القرن الخامس قبل الميلاد تهديدا خطيرا؛ فعلى مدار زمن طويل نجح أحفاد الآريين نجاحا كبيرا في أن يجعلوا لأنفسهم منصبا سياديا على كل من الصعيدين الثقافي والديني، لكن تحديات الآخرين للنفوذ البرهمي خلال تلك الفترة جعلتهم في حاجة إلى اتخاذ خطوات جادة للدفاع عن ممارساتهم ورؤيتهم للعالم. وكان تقليد تقديم القرابين أكثر الممارسات تعرضا لهذا التهديد؛ فالرؤى المنافسة التي تبناها الآخرون لم توضح فحسب أن الطقوس المرتبطة بالقربان عبثية، بل إن هذه الرؤى في حالة تحقيقها لقبول لدى الناس على نطاق كبير سوف تجعل كهنة البرهمية أنفسهم بلا عمل؛ ومن ثم تطيح بهم من قمة التسلسل الطبقي. وكان من ضمن مظاهر محاولة كهنة البرهمية حماية كل ما يتعلق بمكانتهم القيادية تعزيز وصياغة مجموعة من الحجج الفنية الرامية إلى إظهار فعالية القرابين ومكانتها.
وعلى غرار تطورات القرن الخامس قبل الميلاد التي تحدثنا عنها في الفصول السابقة، فقد استندت صياغة «الحجج المدافعة» عن التقليد الفيدي القرباني إلى نزعات قديمة. كان التقليد الشعائري ينظم ويحفظ وينفذ على نحو متخصص؛ إذ كانت كل عائلة مسئولة عن جانب من الجوانب المختلفة من عملية تقديم القرابين وخبيرة فيه، وبهذه الطريقة فإن صياغة حجج تفصيلية دفاعا عن طقس تقديم القرابين كان من الممكن أن تستعين بالحجج الموجودة، وتطور حججا جديدة تستند إلى التخصص: كانت عملية الدفاع عن طقس تقديم القرابين متداخلة على نحو معقد مع كل من الدراسات الجارية وقتها ومع الحجج الداعمة للممارسة في التقليد البرهمي ككل.
تأريخ زمني
عام 2000 قبل الميلاد تقريبا:
التقليد القرباني الفيدي.
800-500 قبل الميلاد تقريبا:
كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام 500 قبل الميلاد:
وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي من التقليد البرهمي جنبا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد:
معتنقو التقليد البرهمي والمارقون منه.
485-405 قبل الميلاد تقريبا:
تمثل هذه الفترة حياة بوذا.
من القرن الرابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
في مواجهة انتشار المزاعم المناهضة لمعرفتهم الحقيقة، كان كهنة البرهمية مضطرين إلى توضيح الموضوعات التي تبرر ممارساتهم وتؤكد سلطتهم في الوقت نفسه من أجل الحفاظ على مكانتهم السيادية. ونظرا لكونهم الحراس القدماء للطقوس القربانية واللغة السنسكريتية، فقد سعوا إلى وضع المعايير التي بموجبها تصبح ممارساتهم واهتماماتهم مشروعة، ليس فقط من أجلهم، بل أيضا من أجل دحض مزاعم الآخرين. وفي أثناء القيام بذلك وضعوا قائمة بالأمور التي تحتاج كل مدرسة من مدارس الفكر إلى إثباتها لتدعم موقفها.
من بين الشخصيات الرئيسية:
القرن الرابع قبل الميلاد:
النحوي بانيني.
من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
كاتيايانا وباتانياجالي، قاما بالتعليق على القواعد اللغوية التي وضعها بانيني.
القرن الثاني قبل الميلاد:
جايميني، مؤلف أول نص تأويلي مشهور حول قسم الأفعال - كارما كاندا - من الفيدا.
القرن الثاني قبل الميلاد:
بادارايانا، مؤلف نص «براهما سوترا»، وهو نص تأويلي مهم حول كتابات الأوبانيشاد المتعلقة بالقسم الفلسفي - جنيانا كاندا - من الفيدا.
خطوط الدفاع
ببساطة، كان كهنة البرهمية يرون في الأساس أن تهديد الطقس القرباني يمثل تهديدا للفيدا نفسها؛ تحديدا القسم «الأصلي» السابق لكتابات الأوبانيشاد، الذي يعرف باسم (كارما كاندا)؛ ومن ثم كان من الضروري الاستعانة بخطي دفاع؛ تمثل الخط الأول في تعزيز وحماية استمرارية النظام الاجتماعي الطبقي القائم على النقاء الشعائري، والذي يعتمد عليه مستقبل الفيدا. وتوجد أدلة هذا التعزيز الاجتماعي في الأطروحات المعروفة باسم «دارما شاستراس» و«أرتا شاستراس»، التي تدون على نحو مفصل كل فرد من أفراد المجتمع وتحدد له مكانه وأدواره وواجباته وحقوقه وأهدافه وقدرته وهكذا. وبهذه الطريقة أصبح النظام الاجتماعي راسخا، وعلى الرغم من أن الصرامة القاسية والحصرية الشديدة يمكن أن تكون مآخذ على هذا النظام، فإنه حقق نجاحا مذهلا إلى حد كبير فيما يتعلق ببقاء التقليد واستمراره كما هو حتى يومنا الحاضر. (وربما تجدر بنا الإشارة إلى أن أحد أسباب ذلك هو إيمانهم بأنه في أية حياة من حيوات الشخص تكون مكانته في النظام الطبقي الاجتماعية محددة من قبل أعماله في حيواته السابقة (الكارما). وهذا يعني بالنسبة لأبناء المجتمع أن النظام يقوم على عمل أحد قوانين الطبيعة وأنه ليس نظاما نخبويا يقوم على المصادفة كما يراه الغربيون.)
أما خط الدفاع الثاني فكان الحفاظ على المحتوى الكامل للنصوص المتعلقة بأداء الطقوس والدفاع عنه؛ ولذلك كانت التخصصات التي تطورت في هذا المجال قائمة على فروع معروفة باسم «فيدانجات» - أي «أطراف الفيدا» - وكانت ستة أطراف؛ كان فرع «الصوتيات» مهتما بالنطق الصحيح للأصوات الصادرة أو المنشدة أو الملفوظة أثناء عملية القربان، وكان «العروض» يصنف الأوزان الشعرية للتراتيل أو الصيغ المختلفة المستخدمة في عملية تقديم القرابين، ووضع «النحو» العلاقات بين الأجزاء المكونة للجملة، وكان «التحليل التأصيلي» يسعى لشرح معنى كل كلمة على حدة داخل الجملة، وحدد «الفلك» اليوم الميمون والزمان الميمون لأداء الطقوس، ووضعت «القواعد الشعائرية» الطريقة المثلى لأداء مختلف طقوس تقديم القرابين.
وإذا نحينا الفلك والقواعد الشعائرية جانبا، فقد كانت الفيدانجات مناسبة أيضا لأمور أخرى تهمنا إلى حد كبير، أهمها ربط محتوى الفيدا بفهم الحقيقة بواسطة «اللغة»، وهذا يعني أنه من خلال إرساء قواعد لغة الفيدا تصبح طريقة تأثير تلك اللغة في العالم الذي يستمد بقاءه من خلال طقس تقديم القرابين؛ راسخة هي الأخرى. وكان معنى ذلك أيضا شرح طبيعة العالم، وأن العلاقة بين اللغة ومعرفة ذلك العالم يمكن تحديدها - حتى وإن كان ذلك من وجهة النظر هذه فحسب. والفقرات التالية سوف توضح، كما آمل، كيف نتجت هذه النقاط عن النقاش اللغوي.
اللغة والحقيقة
كما شاع في كثير من أنواع التقاليد الهندية، على مر القرون، طرحت نظريات وحجج مختلفة داخل التقليد الفيدي تدعم النقاط الأكثر أهمية في النقاش الدائر حول اللغة؛ ونحتاج هنا فقط إلى ذكر بعض من أبرزها. لعل من أكثر الشخصيات تأثيرا النحوي الهندي العظيم بانيني، الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد. كتب بانيني كتابا من أكثر كتب القواعد اللغوية شمولا وتعقيدا في تاريخ اللغويات، وما زال الكتاب يحظى بقدر كبير من الاحترام حتى يومنا الحاضر. ويضم هذا العمل الرائد - «أشتاديايي» - ثمانية فصول تضم أربعة آلاف قاعدة. يضم الكتاب والملاحق كل ما يتعلق بعلم الدلالات اللغوية وقواعد تركيب الجملة والاشتقاقات وقواعد النطق وتصنيف جذور الأسماء والأفعال، والقواعد المتعلقة بالحالات الخاصة. وبهذه الطريقة، ضم بانيني علم تاريخ الألفاظ والصوتيات إلى كتابه الشامل لكل القواعد اللغوية، على الرغم من أنها تعد فيدانجات بذاتها، يدرسها الآخرون ويكتبون عنها كل منها على حدة.
كانت اللغة التي وصفتها القواعد اللغوية التي وضعها بانيني هي اللغة السنسكريتية، لغة الفيدا ولغة الطقس. وكانت السنسكريتية تعتبر كلاما «نقيا من الناحية الشعائرية»، وكان الجانب الإبداعي لهذه اللغة يحظى بأهمية محورية؛ إذ كانوا يعتقدون أن صوت اللغة السنسكريتية الملفوظ أثناء تقديم القربان هو ما يحقق النتائج المرجوة من القربان. ووصف بانيني هذه العملية بأنها نشاط له ميزة تتمثل في القيام بالفعل. وبهذه الطريقة، وعلى سبيل المثال، تتضح القيمة الإبداعية لجملة مثل «الماء يبلل الحبوب» من خلال فهمها على هذا النحو: «الحبوب المبللة تنتج عن الماء.» وبالنسبة لنا، يوجد أمران جديران بالملاحظة في هذا الصدد؛ الأمر الأول هو أن الاسمين (كلمتي التسمية) - وهما في هذه الحالة الحبوب والماء - مفهوم أنهما حقيقيان؛ أي أشياء أو كائنات فعلية. الأمر الثاني أن الفاعل - الماء في هذه الحالة - لا يحتاج إلى أن يكون فاعلا واعيا أو متعمدا؛ لأن أصوات أداء طقس تقديم القربان فعالة على نحو مبدع؛ لأنها تلقائية، وبالتأكيد غير شخصية؛ فدور الكهنة في «ترديد الآيات الفيدية» يشبه دور الماء في تبليل الحبوب. وبهذه الطريقة أوضحت اللغة نفسها حقيقة العالم المتعدد الذي يتم فيه تقديم القربان، وتأكد الدور الأساسي الذي يلعبه الكهنة في حفظ وحماية نصوص الطقس القرباني؛ فاللغة التي يستخدمها الكهنة كانت أداة الإبداع.
ومن الأمور ذات الأهمية الهامشية إلى حد ما أنه عند وضع القواعد النحوية للغة السنسكريتية، لعب بانيني دورا مهما في «ختم» اللغة. وهذا عامل غريب في تاريخ أي لغة ؛ لأن معظم اللغات تستمر في التغير والتكيف مع سياق التطورات الثقافية. أما اللغة السنسكريتية، على النقيض من ذلك، فلها صيغة «كلاسيكية» محددة، تعطي دليلا واضحا حول الصحيح والخطأ، وكيفية أو إمكانية استخدامها، وهكذا. وعلى الرغم من أن اللغة السنسكريتية لها تراث غني في استخدامها في أدب ودراما الهند وكذلك في الكتابات «الدينية» الأخرى، فإن الهدف من الطبيعة المقيدة بالقواعد الخاصة باللغة السنسكريتية ومبرر ذلك التقييد هما المكانة الفريدة للغة في عملية تقديم القربان الإبداعية.
كان من أهم أتباع بانيني والمعلقين عليه باتانياجالي وكاتيايانا، وقد عاش كلاهما في القرن الثاني قبل الميلاد، وتمثل إسهامهما في ربط قواعد بانيني النظرية بطريقة استخدام اللغة السنسكريتية عمليا. وقالا إن استخدام اللغة مثل سلطة نحوية إضافية. وفي واقع الأمر، إن استخدام اللغة مثل وسيلة موثوقة للوصول إلى المعرفة. وكان هذا الأمر من الأهمية بمكان؛ فمعنى ذلك أنه حتى الجمل التي تبدو مكونة على نحو غير مكتمل أو على نحو غير مثالي يمكن فهمها بواسطة الروابط النحوية. وهذا يعني أنه إذا كانت إحدى الجمل أو إذا كانت مجموعة من الكلمات لا تتفق على نحو دقيق مع القواعد النحوية الدقيقة، يمكن اعتبار أن تلك الجملة أو هذه المجموعة من الكلمات ذات معنى من خلال الاستخدامات المتعارف عليها. وكان هذا تأكيدا مهما ليس فقط في توسيع نطاق المعايير التي تستخدم اللغة وفقها، بل كان أكثر أهمية على وجه الخصوص للمدافعين عن الفيدا؛ والسبب في ذلك هو أن بعض الكلام الموجود في النصوص الشعائرية لم يكن واضحا أو متسقا. وجزء كبير من هذا الكلام كان مكونا من أوامر (أو نواه في واقع الأمر) محددة بوضوح لأغراض أداء الطقس، وقد كانت إمكانية تطبيق القواعد النحوية واضحة في هذا الجزء. ورغم ذلك، احتوت النصوص أيضا على أوصاف تكميلية متعددة ذات معنى إما أنه غير واضح في حد ذاته أو قد يبدو متعارضا مع الجمل المذكورة في أجزاء أخرى من النصوص. وبالاستعانة بمعايير الاستخدام يمكن تفسير تلك الفقرات على أنها استعارات مجازية ، أو طريقة أخرى غير حرفية للتعبير، مما يضمن تمام الصحة والتماسك للغة المقدسة التي دونت بها تلك النصوص.
دفاع جايميني عن الفيدا
في نهاية المطاف، أدى وضع النظريات حول اللغة ودورها إلى قيام مدافعين آخرين بمحاولات أكثر تحديدا لتأكيد معنى محتوى الفيدا وإثبات صحته. ومكنهم عمل النحويين مبدئيا من ضمان دقة حفظ النص والدقة في تقديم القربان نفسه. ولكن كان من الضروري أيضا أن يكونوا قادرين على إثبات أن مجموعة النصوص بأكملها لها معان ومترابطة. وكان أول مؤول مهم ومعروف للنصوص الفيدية هو جايميني، الذي عاش في القرن الثاني قبل الميلاد، والذي حاول فهم طبيعة الطقس القرباني والهدف منه. وكان هذا بداية تقليد «ميمانسا» («ميمانسا» تعني «التأويل»). وأصبح اسم ميمانسا مرتبطا بتأويل النصوص الشعائرية، وقسم الأفعال من الفيدا المعروف باسم كارما كاندا، والتقليد الفلسفي القائم على هذا التأويل.
المعنى والنحو «النار تطهو الأرز.» هذه جملة واضحة، بها اسمان من الأسماء هما النار والأرز، ونشاط هو الطهي، وفاعل هو النار التي تنتج الأرز المطهو. يمكن للمرء أن يفهم الجملة على أنها «إيجاد» الأرز المطهو بواسطة التفاعل بين الاسمين والنشاط.
ويرتبط معنى كل كلمة من هذه الكلمات بالصيغة النحوية للجملة ككل؛ فعلى سبيل المثال، لو كانت الجملة سالفة الذكر هكذا: «النيران تطهو الجاودار»، فالمعنى المختلف لكلمة «نيران» (أكثر من نار واحدة) وكلمة «جاودار» (مادة مختلفة توضحها كلمة مختلفة) يعني أن تلك الجملة في مجملها تنص على أمر مختلف عن جملة «النار تطهو الأرز»؛ ولهذا السبب كان من المهم معرفة أمرين: أولهما هو معنى كل كلمة، وهذه هي وظيفة علم أصول الكلمات، وثانيهما هو طريقة عمل القواعد النحوية؛ كي نفهم الجملة بأكملها. «شعرها كان ضوء شمس رائقا.» هذه الجملة لا يمكن فهمها فهما حرفيا؛ لأنه من غير الممكن أن يكون الشعر فعليا ضوء شمس. وإذا حللنا الجملة وفقا لقواعد علم أصول الكلمات وقواعد التراكيب اللغوية (معنى الكلمات المرتبطة بصيغة لغوية)، أصبحت الجملة مرفوضة باعتبارها خاطئة. ورغم ذلك، فمن الممكن فهم هذه الجملة بواسطة قواعد «الاستخدام»، وعندها ستفهم باعتبارها استعارة. وعند هذه الحالة سيعرف أن المقصود هو أن الشعر في هذه الجملة كان أصفر اللون وساطعا ولامعا، يتوهج أو يتلألأ في الضوء على الأرجح، وأن الجملة لا تزعم أن الشعر يتحول إلى ضوء الشمس.
سنناقش تقليد ميمانسا بشكل أساسي في الفصل الثامن؛ لأن ازدهار التقليد جاء في مرحلة لاحقة، لكن فهم بدايات التقليد سيكون مفيدا بالنسبة لنا في هذه المرحلة؛ نظرا لتأثيره على مدارس الفكر الأخرى في القرون اللاحقة. وكان هدف جايميني، المدون في ميمانسا سوترا، هو فهم النصوص الشعائرية الفيدية باعتبارها واضعة قوانين الدارما. وكما ذكرنا في الفصل الأول، فإن الدارما هي النظام الكوني الذي يستمر من خلال الأداء الصحيح للقربان، ذلك القربان الذي يعتمد بدوره على الحفاظ على النظام الاجتماعي الطبقي المطلوب. وباعتبار جايميني، مؤول نصوص الدارما، فإنه عرف الدارما بأنها ذات طبيعة آمرة، وهذا يعني أنه فسر النصوص الفيدية على أساس معناها الإلزامي في المقام الأول؛ فهذه النصوص تخبر المرء بما يجب أن يفعله، أو ما يجب ألا يفعله في واقع الأمر، أثناء تقديم القربان. والفكرة الأساسية هنا أنه رأى النصوص في ضوء أنها المحرض الوحيد على الفعل (الأفعال)؛ ولذلك فكل ما هو موجود في تلك النصوص يجب أن يفهم حرفيا على أنه تعليمات لفعل أمور معينة، أو يفهم على أنه يمثل شيئا مرتبطا بهذا الغرض. ووفقا لذلك استخدم معايير نحوية لشرح الطريقة التي يجب أن تفهم بها الجمل كي يكون لها معنى إلزامي، وشكك في وجود معنى لأي شيء لا يمكن تفسيره بهذه الطريقة، وبالتأكيد شكك في المرجعية المتعلقة بالهدف من القربان الفيدي.
الدارما
تحظى الدارما بأهمية محورية في التقليد البرهمي، ومن الصعب ترجمة هذه الكلمة دون أن نخطئ في التعبير عن معناها الحقيقي؛ ولذلك فمن الأفضل محاولة فهمها كمفهوم. ويمكن فعل ذلك على «مستويين»؛ فمن الناحية الكونية المكبرة تشير الدارما إلى النظام الكوني كله، فكل ما هو موجود يعد جزءا من الدارما على هذا النحو. وإذا لم تكن الأمور كما ينبغي لها أن تكون، أو غير منظمة على أفضل نظام ممكن، فهذا يعني وجود حالة اضطراب أو «أدارما»؛ أي خلل في الدارما.
والحفاظ على الدارما يتم من خلال طريقتين؛ إحداهما: أداء طقوس تقديم القرابين وفقا للتعاليم الفيدية. والأخرى تتمثل في الأفراد الذين يعيشون وفقا لمكانتهم الاجتماعية الشعائرية وأداء ما ينبغي لهم فعله للحفاظ على المستوى الأمثل من الوضع الحالي في التسلسل الطبقي الاجتماعي. وتشكل هاتان الطريقتان «المستوى» الثاني لفهم الدارما؛ حيث يمكن للمرء رؤية الجانب الإنساني المصغر من الدارما، الذي يشير إلى واجبات الفرد. ويطلق على الدارما الفردية «سفا دارما»، وتعني «الدارما الشخصية» للفرد؛ ولذلك يعد الأداء الصحيح للدارما الشخصية للمرء ضروريا من أجل الحفاظ على الدارما الكونية والحيلولة دون حدوث الخلل (أدارما).
وضعت قواعد الدارما الشخصية بقدر عال من التفصيل بداية من القرن الثاني قبل الميلاد في نصوص تعرف باسم «دارما شاستراس»، وتعني أطروحات حول واجب الدارما.
وعلى مستوى فلسفي أكثر عمقا، شهد القرن الثاني قبل الميلاد التأويل الذي ساقه مؤول النصوص الفيدية جايميني للنصوص المبكرة للدارما، وهي النصوص الأكثر قدما التي تدون الطقوس الفيدية. وقال جايميني إن كل النصوص الفيدية تتكون من تعليمات حول الأمور الواجب فعلها، وعرف الدارما في هذا السياق بأنها «الأمور الواجب فعلها.»
ومن ناحية «دينية» أكثر تخصصا في التقليد الهندوسي، فإن الخلل في الدارما (أي «أدارما») يوجب ويحفز التدخل الإلهي. وعلى سبيل المثال، في النص المعروف باسم «بهاجافاد جيتا» يقول أحد الأشكال المجسدة للإله الأعلى: «في أي وقت يحدث خلل في الدارما سوف أبرز في حيز الوجود، عصرا بعد آخر.» «بهاجافاد جيتا»، المجلد 4، (مثال معادة صياغته)
لقد فهم جايميني أن الأوامر ترتبط ارتباطا مباشرا بالأسماء الموجودة في العالم المتعدد. واعتمادا على أعمال النحويين، فهم جايميني أن معنى الكلمة يرتبط بوجود الشيء الذي تشير إليه؛ فعلى سبيل المثال، إذا قال المرء: «بقرة»، فمن أجل أن يكون لهذه الكلمة معنى لا بد أن يوجد ذلك الشيء المسمى بقرة. وعلى هذا النحو، فإن الأوامر الموجودة في الفيدا تعني ضرورة وجود المكونات الضرورية لتنفيذ تلك الأوامر؛ فعلى أقل تقدير يجب وجود الفاعل والمنتج في كل حالة، وهذا يعني أن النصوص الفيدية أثبتت، على نحو يعتمد عليه، كلا من حقيقة الكون الذي تشير إليه تلك النصوص، وأيضا صحة الأوامر اللازم تنفيذها من أجل الحفاظ على استمرارية ذلك الكون.
وبخصوص تعليم الأوبانيشاد الذي ينص على أن التحرر يتأثر بمعرفة الهوية الجوهرية للذات وللكون، قال جايميني إنه يجب اعتبار معرفة المرء لذاته، كمؤد للقربان في إطار علاقته بالكون الذي يستمد بقاءه من أفعال المرء، بمثابة أمر من أوامر الفيدا. وفسر الفقرات التي تنص بوضوح على وحدة الوجود بأنها استعارات، وبذلك يكون جايميني قد نفى عدم توافقها مع واقعية النصوص الشعائرية. وفي واقع الأمر، قال جايميني إن كتابات الأوبانيشاد أثبتت حقيقة تعددية الذوات الفردية، التي تحتاج كل ذات منها إلى معرفة أنها توجد كفاعل.
أفضلية كتابات الأوبانيشاد
إلى جانب محاولات جايميني التأويلية التي ركزت على نحو أساسي على النصوص الشعائرية، كانت كتابات الأوبانيشاد نفسها خاضعة على نحو محدد للتفسير على يد الأشخاص الأكثر اهتماما بتعاليم «اعرف نفسك» غير الشعائرية، المذكورة في كتابات الأوبانيشاد، وكان هؤلاء الأشخاص مهتمين أيضا بإثبات هيمنة وأفضلية النصوص الفيدية على أية نصوص. وكتب أحد معاصري جايميني، ويدعى بادارايانا، نسخة قديمة من نص في غاية الأهمية (خضعت لاحقا للتعديل على يد آخرين)، تزعم تلخيص التعاليم الأساسية لكتابات الأوبانيشاد بالشكل الذي يجب فهمها عليه. ويعكس نص بادارايانا المعروف على نطاق واسع باسم «فيدانتا سوترا» حقيقة أن كتابات الأوبانيشاد تمثل «نهاية الفيدا» (فيدانتا). ويعرف النص أيضا باسم «براهما سوترا»؛ مما يوضح أن اهتمامها الأبرز ليس الجانب الشعائري بل فهم ما تقوله كتابات الأوبانيشاد عن البراهمان، الذي يعد أساس الكون. وتقول أول آية من هذا النص: «ثم [هناك] الاستفسار حول براهمان»، وتستطرد الآية الثانية فتقول: «الذي من خلاله [تحدث] النشأة والاستمرار والفناء [لكل ما هو موجود].» وهذا النص لا يشير إلى اختلاف نقطة التركيز فحسب، بل يشير أيضا إلى فهم مختلف كلية لطبيعة الحقيقة؛ فبدلا من التعددية الكونية التي أكدها جايميني في عمله، توضح «فيدانتا سوترا» أن كل الأشياء جزء من البراهمان الواحد. وهذا يشير إلى ضرورة عدم اعتبار أن الأوامر الشعائرية تدل على حقيقة ما تشير إليه، فقد كان بادارايانا يرى أن اللغة لا تمتلك تلك الطبيعة الدلالية الجوهرية. علاوة على ذلك، نظرا لأن كتابات الأوبانيشاد نصوص أوامر في حد ذاتها، فإنها تنص على أن معرفة البراهمان هي ما يجب أن «يفعله» المرء.
النص والشهادة
أصبحت أعمال جايميني وبادارايانا النصوص التي انبثقت منها لاحقا ميمانسا دارشانا وفيدانتا دارشانا على الترتيب؛ ولهذا السبب يشار أحيانا إلى ميمانسا وفيدانتا باسم بورفا ميمانسا (الأولى) وأوتارا ميمانسا (الأخيرة)، وميمانسا تعني التأويل؛ ومن ثم فمعنى اسميهما على الترتيب هو تأويل القسم الأول وتأويل القسم الأخير من الفيدا. وقد وضع جايميني وبادارايانا فيما بينهما أيضا سمتين مهمتين للتقليد الهندي ككل؛ أولى هاتين السمتين كانت أسلوبهما في الكتابة الذي تمثل في شكل «السوترا» شديد الغموض، فكل آية تتكون من كلمات قليلة كثيرا ما يكون معناها وسياقها أبعد ما يكون عن الوضوح الذاتي، فضلا عن أن النصوص تتطلب تفسيرا إضافيا من أجل فهمها. ومن الممكن أن يكون ذلك الأمر انعكاسا لحقيقة أن التقليد كان في الأساس تقليدا شفهيا، وأن النقاط الأساسية التي ناقشتها الشخصيات المهمة دونت على هيئة مذكرات فحسب. وقد يعكس هذا أيضا الميل إلى الفهم الحصري في كل تقليد؛ مما يشير إلى أفضلية الأشخاص «أصحاب المعرفة». وبغض النظر عن السبب الذي حث على استخدام ذلك الأسلوب الغامض، فمن أهم نتائجه أنه على مر الزمان نشأت أكثر من مدرسة فكرية داخل كل تقليد؛ لأن المؤولين المتأخرين أضافوا تعليقاتهم الخاصة على النصوص القديمة.
الطبيعة الغامضة للسوترا
يجب أن تكون في واقع الأمر أبدية؛ لأنها مذكورة من أجل شخص آخر. ويوجد اتساق دائم؛ لأنه لا يوجد عدد؛ لأنها مستقلة. «ميمانسا سوترا»، المجلد 1، عن طبيعة اللغة
وبعد ذلك يوجد التساؤل عن البراهمان، ومنه نشأة هذا. هذا يشكل كونها مصدر النصوص ؛ وذلك لأنها مرتبطة بالهدف منها. «فيدانتا سوترا»، المجلد 1، عن موضوع السوترا
أما السمة الثانية التي رسخها هذان المؤولان القديمان فكانت بدايات ما سيصبح معيارا إبستيمولوجيا (معرفيا) مهما للغاية ومثيرا للجدل إلى حد كبير في التقليد الهندي؛ ألا وهو الشهادة؛ وهذا يعني أن جايميني وبادارايانا كليهما رفضا رفضا مطلقا تعاليم بوذا وغيره، وأكدا على أن المصادر الفيدية تمثل مصدر معرفة صحيحا لا يرقى إليه الشك، وأن كل ما يقوله يجب أن يعتبر موثوقا به تماما. أصبحت معايير المعرفة الإبستيمولوجية معروفة بالمصطلح السنسكريتي «برامانا»، وتعني «وسيلة المعرفة»، وأطلق على الشهادة كلمة «شابدا برامانا»؛ وتعني حرفيا «المعرفة بواسطة الكلمة». ومنذ ذلك الوقت فصاعدا، أصبح لزاما على كل مفكر منهجي مراجعة مدى إمكانية قبول الشهادة كوسيلة معرفة صحيحة، سواء أكان المصدر محل الدراسة هو الفيدا، أو أي شيء آخر، أو «كلمة» شخص آخر. وأولئك الذين رفضوا مصداقية الشهادة، أو قللوا من أولويتها المعرفية، كانوا مضطرين لإثبات أولوية وأفضلية معيار معرفي واحد - على الأقل - آخر غير المعايير المذكورة؛ مثل الإدراك، أو الاستنباط، أو التفكير أو الحجة المنطقية. وأما الموضوعات الوجودية المتعلقة، فكان لزاما أيضا مراجعتها والدفاع عنها، لا سيما طبيعة الذات و«مكانتها الحقيقية»، في إطار علاقتها بالمعرفة والقيام بالفعل، وطبيعة الكون و«مكانته الحقيقية» فيما يتعلق بالأمور التي عرفت وخضعت لتأثير الفعل. وفي بعض الحالات، كانوا يفكرون فيما إذا كانت هذه الأمور متعلقة باستخدام اللغة أو يمكن تحديدها من خلالها.
وأصبح الاستقصاء عن الموضوعات المتعلقة بالذات معروفا بمصطلح «أتما فيديا» - «معرفة الذات». أما نشاط التفلسف نفسه فكان يشار إليه في العموم بمصطلح «أنفيكشيكي» الذي يعني شيئا من قبيل «النظر إلى»، أو حتى «الأمور اللازم النظر إليها». وفي العادة يفهم هذا المصطلح على أنه مصطلح تقني مرادف لمصطلح «التفكير المنطقي»، لكن المصطلح في حقيقة الأمر يعكس المراحل الأولى التي كان التقليد خلالها يقرر ويحدد حرفيا الموضوعات الواجب «النظر إليها»، و«فحصها»، وجعلها «موضوع الاستقصاء». وأية نظرية مقدمة كان لزاما أن تكون مترابطة ومتسقة في حد ذاتها، أو تزعم ذلك على الأقل، فيما يتعلق بهذه الأمور. علاوة على ذلك، ركزت الأعمال المنتقدة لآراء الآخرين على طريقة تناولهم وفهمهم لهذه الموضوعات. وكان مجال «أنفيكشيكي» مهتما بكيفية مزاولة هذا النشاط.
وفي مثل هذه البيئة التي انتشر فيها الجدل والنقاش، كان من الشائع أن يقوم مؤيد إحدى النظريات بطرح رؤية بديلة أولا ليقوم بنفيها فيما بعد. وكان يشار إلى الرؤية البديلة (في بعض الأحيان كان النقاش الواحد يطرح أكثر من رؤية لنفيها) بأنها رؤية «بورفا باكشين»؛ أي رؤية «المؤيد السابق للنظرية». وعادة كان يعبر المقترح عن نظريته على النحو التالي: «إذا قيل [أي قال البورفا باكشين] س (أو ص أو ع)، فهذا خطأ.» ورغم اختلاف التفاصيل الدقيقة من نظام إلى آخر، يأتي بعد ذلك النفي والنقاش، ولا يقتصر التركيز على الرؤى البديلة في حد ذاتها، بل يتناول المعايير المعرفية (الإبستيمولوجية) التي تم التوصل من خلالها إلى تلك الرؤى. ويعرض المؤيد الحالي موقفه الشخصي أيضا مستعينا بكافة الأدلة الداعمة التي تناسب موقفه ورؤيته، ويشرح معاييره المعرفية.
الفصل الخامس
الفئات والطريقة
فايشيشيكا ونيايا
فكر فايشيشيكا: الفئات الكونية
من أول الأنظمة الفكرية التي نشأت في بيئة تقرير «الأمور اللازم النظر إليها» كان نظام كانادا الفكري، كما هو مدون في «فايشيشيكا سوترا»، التي كتبها خلال القرن الثاني قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن أصول كانادا وخلفيته غير مؤكدة العقيدة، فإنه مثل جايميني كان مهتما بفهم الدارما. وبالنسبة لكانادا كانت الدارما هي الأهم، لدرجة أنه على النقيض من جايميني، الذي اعتقد أن الفيدا نفسها تتمتع بالسمو لذاتها؛ فإن كانادا اعتنق الفيدا (فقط) لأنها تتضمن الدارما. وهذا يعني أنه بينما كان جايميني مؤولا للفيدا ومدافعا عنها في الأساس، كان كانادا مهتما للغاية بطبيعة الحقيقة، التي فهم أنها الدارما، التي كان الحفاظ عليها يتم من خلال تنفيذ التعاليم الفيدية؛ ولذلك فالآيات الافتتاحية من «فايشيشيكا سوترا» تقول:
يجب أن نتناول الآن طبيعة الدارما.
فمن الدارما يتحقق الصالح الأعلى والأسمى.
والفيدا تتمتع بهذه السيادة نظرا لاهتمامها بالدارما. «فايشيشيكا سوترا» 1-3
تمثل فلسفة «فايشيشيكا سوترا» نظاما للواقعية التعددية؛ الحقيقة المستقلة لكل شيء في العالم المحيط بنا، الموجود خارجنا والمستقل عن أنفسنا. وتهتم هذه السوترا باستقصاء تلك التعددية من أجل تصنيفها وفقا لأنواع الكيانات المختلفة التي تتكون منها. ومن هنا اكتسب النظام اسمه؛ لأن «فايشيشيكا» توضح المكونات «فايشيشا» محل الفحص، أما التأثير المستمر لمنهج فايشيشيكا وموقفها الوجودي فنشعر به بفضل ارتباطها الوثيق بالنظام الفكري المسمى نيايا، الذي قدمه لأول مرة رجل اسمه جوتاما، غير معروف على وجه التحديد الفترة التي عاش فيها، لكنه عاش في القرن الثالث قبل الميلاد على الأرجح. وتضافرت فايشيشيكا ونيانا مكونتين ما يعرف الآن باسم نيايا فايشيشيكا، ولعبتا دورا مهما للغاية وبالغ التأثير بين أنواع الدارشانات التقليدية، وقدمتا إسهامات كبيرة للفكر الهندي. وعلى الرغم من أن النيايا الأكثر شيوعا كثيرا ما يشار إليها وتدرس على نحو مستقل، فإن مثل هذا المنهج يفترض تبنيه لواقعية فايشيشيكا؛ ولذلك فمن المفيد أن نفهم بعض الأمور عن موقف فايشيشيكا ومزاعمها قبل تناول نيايا، بالإضافة إلى معرفة قدر التفصيل الذي قدم به على نحو تحليلي زعمهما القائل بالواقعية.
تأريخ زمني
عام 2000 قبل الميلاد تقريبا:
التقليد القرباني الفيدي.
800-500 قبل الميلاد تقريبا:
كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام 500 قبل الميلاد:
وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي من التقليد البرهمي جنبا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد:
معتنقو التقليد البرهمي والمارقون منه.
485-405 قبل الميلاد تقريبا:
تمثل هذه الفترة حياة بوذا.
من القرن الرابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
حدد النحويون والمؤولون القدماء الموضوعات الواجب «النظر إليها».
من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد: «فايشيشيكا سوترا» لصاحبها كانادا؛ اهتمت تلك السوترا بالوضع الوجودي «لمكونات» («فايشيشا») الحقيقة. وسعى كانادا إلى تحديد «المكونات» أو أنواع الكيانات التي يتكون منها العالم.
القرن الثالث قبل الميلاد تقريبا: «نيايا سوترا» لصاحبها جوتاما؛ تبنت نيايا سوترا الواقعية التعددية الوجودية التي قال بها كانادا، واهتمت بالطريقة التي يمكن للمرء من خلالها التوصل إلى معرفة مؤكدة حول تلك التعددية، وتساءل الكتاب: ما أساليب المعرفة المشروعة؟ وكان أهم إسهاماتها طريقة إبستيمولوجية تقوم على التفكير الاستدلالي.
وتصنيف المكونات محل اهتمام فلسفة فايشيشيكا كان يتم عن طريق تحديد «الفئات» الأساسية لكل الكيانات الموجودة. وكان المصطلح السنسكريتي المستخدم للإشارة لهذه الفئات هو: «بادارتا»، الذي يعني حرفيا: «الأمر المتوقع من الكلمة.» وكان هذا المصطلح نفسه يعتبر إشارة للحقيقة الغيبية للكيانات قيد الفحص، وهذا يعني أنه بموجب الإشارة الشفهية للشيء يدرك المرء أن الشيء له وجود مستقل. ووفقا لفلسفة فايشيشيكا، فإنه توجد سبع فئات هي: المادة، والصفة، والفعل، والخصائص العامة، والخصائص الخاصة، وعلاقة التأصل، والغياب أو النفي (وقد أضيفت تلك الفئة فيما بعد).
المادة والصفة
تعد المادة أهم تلك الفئات؛ لأن كل الفئات الأخرى ترتبط بها بطريقة أو بأخرى. وكل المواد أيا كانت طبيعتها تعود إلى واحد أو أكثر من الأنواع التسعة المختلفة التالية: الأرض والماء والنار والهواء والأثير والمكان والزمان والذات والعقل. وتتسم الأرض بصفات مختلفة، وعن الصفات الخمس الأول تقول «فايشيشيكا سوترا» ما يلي:
تمتلك الأرض اللون والطعم والرائحة والملمس (بالإضافة إلى الصلابة).
يمتلك الماء اللون والطعم والملمس والسيولة.
تمتلك النار اللون والملمس (بالإضافة إلى الحرارة).
يمتلك الهواء الملمس (بالإضافة إلى الحركة).
لا يمتلك الأثير صفة قابلة للإدراك. «فايشيشيكا سوترا»، المجلد 2 (فقرة معادة الصياغة) «علم الوجود في فايشيشيكا» يتسم بواقعية تعددية؛ فهو يقسم المكونات الأساسية للواقع إلى سبع «فئات» هي: المادة، والصفة، والفعل، والخصائص العامة، والخصائص الخاصة، وعلاقة التأصل، والغياب أو النفي. «المادة» تنقسم بدورها إلى تسعة أنواع مختلفة من «الذرات» هي: الأرض والماء والنار والهواء والأثير والمكان والزمان والذات والعقل.
تعد الأرض والماء والنار والهواء ذرات «مواد مادية»، أما المكان والزمان والذات والعقل فهي ذرات «مواد غير مادية»، وكل الذرات أبدية.
تتجمع ذرات الأرض والماء والنار والهواء معا لتكوين أشياء قابلة للإدراك، بالاشتراك مع ذرة أو أكثر من أنواع الذرات الأخرى في حالة كون ذلك مناسبا. وذرات الأثير والزمان والمكان والذات والعقل بالإضافة لكونها أبدية، فإنها منتشرة في كل مكان. أما العقل فهو ذري فقط في حجمه ، وترتبط ذرة العقل الواحدة بذرة ذات واحدة في كل إنسان على حدة. «المادة» هي الفئة الأهم؛ لأن الفئات الأخرى لا تتحقق إلا من خلال علاقتها بالمادة.
يوجد 24 «صفة»، و5 أنواع من «الفعل»، «متأصلة» في «المواد». وكل حدوث فردي «للمادة» هو مثال «خاص» على شيء «عام». «الغياب» يسمح بإدراك أن أنواعا مختلفة من النفي، أو عدم الحضور، أو عدم الوجود، تعد جزءا من الواقع.
وعلى الرغم من أن الأثير لا يمتلك صفة قابلة للإدراك، فإن صفته الأساسية هي أنه الوسط الذي ينتقل من خلاله الصوت، على سبيل المثال، ويصل إلى الحواس. وبهذه الطريقة يعتبر مادة في حد ذاته.
تحدث كل المواد في شكل ذري، وتكون كل ذرة أبدية وغير قابلة للتدمير، وعند اندماج تلك الذرات بنسب متباينة تنتج تلك الذرات كافة الأشياء المختلفة الموجودة في الكون، والتي بدورها تكون منتهية ويمكن تحليلها إلى ذراتها المكونة لها. وعلى النقيض من ذرات الأرض والماء والنار والهواء التي تكون المادة المادية، فإن ذرات الأثير والمكان والزمان والذات والعقل غير مادية. ومن بين تلك المواد غير المادية الخمس، يعد العقل شيئا خاصا بكل ذات فردية، وهو نفسه ذو حجم ذري، بينما المواد الأربع المتبقية، بالإضافة إلى كونها أبدية، فإنها مواد كلية الوجود، موجودة في كل مكان وزمان.
وتتضح تعددية الذوات في التجسيد المتعدد لصفة الوعي (أو المعرفة)، وكل ذات تتسم بعدة صفات هي: الرغبة، والنفور، والمتعة، والألم، والجهد. أما الدور الذي يلعبه العقل، والذي يستنتج وجوده من نشاطه، فهو معالجة المعلومات الحسية؛ ويعد هذا الدور مهما أيضا في السماح بإدراك الذات على نحو داخلي. وهذا الفصل الواضح بين الذات والعقل شائع في الفكر الهندي.
عند استعراض فئة المادة، أشرنا بالفعل إلى أمثلة من الفئة الثانية في القائمة وهي فئة الصفة. والصفات يمكن أن توجد فقط في المواد، ولا يمكن أن توجد مستقلة بذاتها. وتوجد ما بين 17 و24 صفة مدونة في نصوص مختلفة من نصوص فلسفة فايشيشيكا، وتنقسم تلك الصفات إلى صفات يمكن أن توجد في المواد المادية ، وصفات يمكن أن توجد في الأشياء غير المادية، وصفات يمكن أن توجد في كلتيهما. وعلى هذا، فاللون والمذاق والرائحة والملمس والميوعة والصلابة، على سبيل المثال، توجد في المواد المادية المتمثلة في الأرض والماء والنار والهواء، والصفات المتمثلة في الإدراك والسعادة والتعاسة والرغبة والنفور توجد فقط في الأشياء غير المادية، والعدد والحجم والارتباط على سبيل المثال توجد في أية مادة. وفي بعض الأحيان يلزم وجود أكثر من مادة لتأصل صفة معينة، مثل الارتباط والغيرية والعدد الدال على الجمع.
وتكمن أهمية الصفات في أنها تميز المواد بطريقة تجعلنا نميز المادة باعتبارها هذا الشيء أو ذاك، وبدون الصفات لن يمكن تمييز المادة على النحو الذي نعرف به العالم. وعلى هذا النحو، فالمادة دائما ما تتسم بصفة واحدة على الأقل متأصلة فيها، وهذا التأصل في حد ذاته هو فئة أخرى في مخطط فايشيشيكا، ويمثل ما يمكن أن نطلق عليه نوعا من «الصمغ» بين فئتين أخريين، بدونه لا تتمكن هاتان الفئتان من الوجود على نحو مستقل. ويوجد مثال يذكر في الغالب لتوضيح هذه الفكرة؛ وذلك المثال يتمثل في استحالة وجود صفة «اللون» من تلقاء نفسها، أو استحالة حدوث المادة المركبة المتمثلة في «الزهرة» دون وجود صفة اللون. وعلى هذا النحو، إذا تناولنا زهرة حمراء في هذه الحالة، فسنجد أن اللون الأحمر متأصل بالضرورة كصفة في مادة الزهرة. وعلى الرغم من أن هذه العلاقة حتمية، فإن الصفة (اللون في هذه الحالة) والمادة (الزهرة في هذه الحالة)، بالإضافة إلى التأصل؛ هي سمات من سمات الواقع منفصلة من الناحية الفئوية. ويمكن استخدام اللون الأحمر أيضا لتوضيح فئة الخصائص العامة والخصائص الخاصة؛ فاللون الأحمر المتأصل في إحدى الزهور الحمراء يعد مثالا خاصا على «الحمرة» العامة. والخاصية العامة يمكن أن يشترك فيها أي عدد من الأشياء الخاصة، وخصوصية الحدوث الفردي للخاصية العامة هي ما تميز إحدى الزهور مثلا من غيرها. بالإضافة إلى ذلك، فإنه فقط من خلال الخصائص الخاصة يمكن ظهور الخصائص العامة. بل إن الذرات الفردية المتماثلة من الناحية الوجودية، على نحو يتراوح بين كل ذرات الأرض وكل ذرات الذوات، تتمايز بالخصائص الخاصة في هذا المخطط التعددي إلى حد جذري؛ وعلى الرغم من تماثلها من الناحية الفئوية، وتشاركها في الخصائص العامة المشتركة، فإن كل ذرة تعد فريدة إلى حد ما، وهذا التفرد يصنف على نحو منفصل بأنه خصوصية تلك الذرة. وتكمن أهمية الخصائص العامة في أنه بدونها لن يوجد سبيل لمعرفة تلك الخصائص المعينة؛ فعلى سبيل المثال، تتشارك كل الزهور في الهوية الزهرية المشتركة (أي كونها زهرة)، وعلى هذا النحو، فعلى الرغم من أن كلا منها له ذات خاصة، فكلها في واقع الأمر زهور.
وتبقى فئتان من الفئات اللازمة مناقشتها، وهاتان الفئتان هما الفعل والغياب، ويعد الفعل هو الأهم بينهما؛ لأنه يمثل السمة النشطة والفعالة للمادة، في حين أن الصفات سلبية وخاملة. والفعل هو المسئول عن كافة الأنشطة الواضحة، بالإضافة إلى كونه مسئولا عن طريقة تحول الذرات إلى أشياء مركبة، وطريقة توقفها عن التحول لأشياء مركبة. وفي هذه السمة الأخيرة، يعد الفعل مطلوبا بالإضافة إلى التأصل؛ لأنه يمثل العامل «المسبب»؛ فالفعل هو المسئول عن السببية ككل، ويمكن للمرء أن يبدل من الناحية المفاهيمية «السببية» ليحل محلها «الفعل» ليكون هو اسم هذه الفئة؛ على الرغم من أن أتباع فلسفة «فايشيشيكا» أنفسهم لم يفعلوا ذلك مطلقا.
إن اعتبار الغياب فئة مستقلة يمكن أن يعد أمرا مفاجئا في مدرسة فكرية واقعية عن ظهر قلب كمدرسة فايشيشيكا. وقد أضيفت هذه الفئة إلى القائمة الأصلية المكونة من ست فئات لإضافة توضيح يقول إن الغياب أو عدم الوجود يعد حالة حقيقية و«واقعية» في نظام يعتبر فيه الوجود صفة متأصلة للشيء قيد الفحص المتمثل في الواقع. وعلى هذا النحو، فقد سمحت صفة «الغياب» لجمل على شاكلة: «لا توجد زهرة هنا» و«الأثير لا يمتلك أية صفة قابلة للإدراك»، بأن تكون ذات معنى حقيقي. وفي هاتين الجملتين تحدد خمسة أنواع من الغياب هي: عدم وجود زهرة هنا (الغياب)، الزهرة ليست بقرة (اختلاف)، لا توجد زهرة بعد على شجيرة الزهور (عدم وجود سابق للوجود)، الزهرة لم تعد موجودة (عدم وجود يعقب الوجود)، صفة الزهرية لا توجد مطلقا في البقرة (شيء لا يوجد أبدا). ونظرا لأن الغياب كان في حد ذاته جزءا من الواقع على هذا النحو فقد خصصت له فئة منفصلة خاصة به.
ولا يعرف بالضبط كيف توصل أتباع مدرسة فايشيشيكا لهذا النظام الوجودي؛ إذ إنه ليس واضحا إذا ما كانوا يحاولون وصف الواقع أم يحاولون تكوين نظام قائم على الواقع؛ ومن ثم فإنه من غير المعروف من أين حصلوا على هذه الصيغة المتمثلة في النظام الفئوي، أو المعايير المستخدمة في تحديد العوامل المختلفة التي ضموها في هذا النظام. وعندما تبنى أتباع مدرسة نيايا النظام الوجودي لمدرسة فايشيشيكا، فإنهم لم يشككوا به أيضا. أما ما يمكننا قوله عن هاتين المدرستين فهو أن أتباعهما سعوا إلى وضع حقيقة مطلقة لعالم الحس العام التعددي، وأنهم اعتبروا أن تصورات الحس العام تقدم تمثيلا حقيقيا لذلك العالم، ورغم ذلك فقد اختاروا بعد ذلك تقسيمه إلى فئات. وبهذه الطريقة منحوا أولوية فائقة للتصورات الحسية باعتبارها وسيلة للمعرفة، على النقيض من اعتماد جايميني وبادارايانا على الشهادة. ورغم ذلك، فإن هذا القبول لصحة التصورات الحسية للعالم اليومي قد تبنى الموقف الوجودي الذي أقره مؤولو النصوص الفيدية، لكن هذا القبول تعرض لتشكيك الآخرين فيما بعد، وكان البوذيون أبرز المشككين، كما سنرى في الفصل التالي.
إسهام نيايا
أضاف مفكرو نيايا، بداية بجوتاما في «نيايا سوترا»، عاملين في غاية الأهمية إلى نظام فايشيشيكا؛ أول هذين العاملين هو أنهم وضعوا معيارا واضحا يمكن وفقا له التوضيح على نحو منطقي أن حقيقة كل عامل من عوامل النظام هي تلك الحقيقة الموصوفة في النظام؛ وهذا يعني أنهم قدموا «طريقة» معينة، تقوم على قواعد فكرية محددة، يمكن من خلالها التوصل لمعرفة مؤكدة حول الشيء محل الاستقصاء، وهذا سمح لهم أن يزعموا أنهم «أثبتوا» الواقعية التعددية التي تقدمها لنا تصوراتنا. وجدير بالذكر أنه بالإضافة إلى التصورات الحسية فقد قبلت مدرسة نيايا صحة التصورات اليوجية المذكورة في الفصل الأول، بالإضافة إلى كافة أنواع التصورات الممكن أن نطلق عليها في العموم تصورات «حدسية». بيد أنه من بين كل هذه التصورات نجد أن التصورات الحسية تلعب الدور المعرفي (الإبستيمولوجي) الأهم بالنسبة لأتباع مدرسة نيايا. وكانت الطريقة الرسمية لمدرسة نيايا هي أقدم طريقة تظهر في مجتمع الجدل المزدهر في الهند القديمة، وكان للقواعد التي وضعتها أثر دائم على التقليد في مجمله. كما أنها أسهمت أيضا في قواعد الجدل على نحو عام إلى حد كبير؛ إذ أوضحت الأمور التي تجعل الحجة غير صحيحة أو غير مقبولة.
أما العامل المهم الثاني، الذي أضافه مفكرو نيايا إلى نظام فايشيشيكا، فهو قولهم إن المعرفة المكتسبة بهذه الطريقة كانت فعالة من الناحية السوتريولوجية (أي إن اكتساب هذه المعرفة يؤثر على مصير المعتنقين)؛ وهذا أمر لم يهتم به مفكرو فايشيشيكا على نحو واضح، وربما السبب في ذلك هو أن كانادا كان مهتما بالدارما (بوصفها تركيبة الكون) أكثر من اهتمامه بالموكشا (الخلاص أو التحرر). وعند تقديم طريقة التوصل للمعرفة المؤكدة قال جوتاما إن هذه الطريقة يجب استخدامها في حالات معينة. وقدم قائمة توضح «الأشياء ذات المعرفة الحقيقية»، وتضم هذه القائمة تلك الأشياء المشروع التساؤل عن وجودها وطبيعتها؛ لأن المعرفة المتعلقة بوجودها وطبيعتها تسهم في الوصول إلى «الصالح الأعلى»، ذلك الصالح المفهوم في هذا التقليد أنه يعني التحرر.
سوف نناقش طريقة نيايا مع الإشارة أولا إلى المعايير التي وضعتها لإجراء الاستقصاء، ثم الإشارة ثانيا إلى قائمة الأشياء المشروع الاستفسار عنها، وهذا سيقودنا إلى مناقشة طريقة تناولها، مع أمثلة محددة من تلك القائمة.
المعرفة المؤكدة المتعلقة بالوسائل المناسبة لاكتساب المعرفة الصحيحة وتلك الأشياء المشروع التساؤل عنها ... (والعوامل الأخرى وثيقة الصلة المتعلقة بطريقة ومنهج النقاش)؛ تؤدي إلى الوصول إلى الصالح الأعلى.
إن التخلص من المعرفة الزائفة ... [في نهاية الأمر، بعد عدة مراحل] هو ما يؤدي إلى التحرر. «نيايا سوترا»، المجلد 1
متابعة التقدم
تقول فلسفة نيايا إن الاستقصاء يجب إجراؤه فقط في حالة وجود بعض الشكوك حول الأمر المستقصى عنه، وهذا يعني أنه لا جدوى من إجراء استقصاء إذا كان الشيء معلوما بالفعل على وجه التأكيد؛ ولذا فالأمر اللازم الاستقصاء عنه لا بد أن يكون أمرا قد يفهم على عدة أوجه مختلفة. علاوة على ذلك، يجب أن يكون من المحتمل التوصل لنتيجة مؤكدة لهذا الاستقصاء، فالهدف من الاستقصاء هو الحصول على معرفة مؤكدة، وهي تمثل «خاتمة» الاستقصاء، وإذا كان من المستحيل التوصل إليها فسيكون إجراء الاستقصاء في حد ذاته عبثيا. إن احتمال التوصل إلى يقين غير معروف حتى لحظة إجراء الاستقصاء يوضح الحالة السابقة المطلوبة المتمثلة في عدم اليقين أو الشك، ويعد أيضا هذا الاحتمال أحد الأمور الأساسية التي تجعل إجراء الاستقصاء مشروعا.
ورغم ذلك، فالشك واحتمالية التوصل لليقين، في حد ذاتهما، ليسا كافيين لإضفاء الشرعية على إجراء الاستقصاء، وإذا كانا كافيين، فربما تحفز المرء بدافع الفضول، وهذا «العبث» مناقض «للسلوك العقلاني» للإنسان، كما يقول جوتاما. وبدلا من ذلك، يجب أن يوجد أيضا «هدف» وجيه لإجراء الاستقصاء. وعلى الرغم من اختلاف التفسيرات على مدار المراحل المتعددة للتقليد، فإن نتيجة هذا التصريح الموجود في نيايا سوترا الذي يقول إن الاستقصاء لا بد أن يسهم في اكتساب «الصالح الأعلى»؛ تتمثل في أن الهدف لا بد أن يسهم في الوصول إلى التحرر من الميلاد المتكرر.
ومن المتطلبات الأخرى لإجراء الاستقصاء ضرورة وجود بيانات ناتجة عن الملاحظة والرصد يمكن استخدامها لدعم الافتراض المقدم في بداية الاستقصاء، وأيضا لدعم المعايير الداعمة للحجة التي تثبت اليقين. وفي هذا الصدد يربط نظام نيايا نفسه على نحو بالغ التحديد باستخدام كل ما يلزم كي يكون واقع العالم التعددي الموجود حولنا؛ فالأمر بالنسبة للمؤمنين بنظام نيايا هو أنهم عند استخدام البيانات الناتجة عن الملاحظة والرصد مثل: «حيثما يكون الدخان، توجد النار»، فإنهم يزعمون ترسيخ دليل لا جدال فيه، وبذلك يؤكدون على صحة وقطعية نتيجة الجدل القائم. وهذه السمة في النظام تشير أيضا إلى أنه من المهم للمؤمنين بنيايا الربط بين البيانات الناتجة عن الملاحظة ، أو بين العالم التجريبي، وبين نظام الجدل المنطقي الخاص بهم، فلا مجال للمجردات الفلسفية القائمة فقط على المنطق الرياضي، على سبيل المثال، كما هو الحال في الفلسفة الغربية المعاصرة. وبدلا من ذلك، فطريقتهم المنطقية مرتبطة على نحو راسخ بالعالم من حولهم، وبالبشر الموجودين فيه، على نحو وجودي أو تجريبي إلى حد كبير.
الطريقة نفسها
يقودنا هذا إلى الطريقة نفسها التي تطرح في صورة حجة ذات خمس مراحل أو «أطراف» تقود الاستقصاء إلى استنتاج مؤكد. والمراحل الخمس هي كالتالي؛ أولا: ذكر الأطروحة اللازم إثباتها، ثانيا: ذكر سبب الأطروحة، ثالثا: إعطاء مثال يمثل «قاعدة» يمكن الاستناد إليها للمساعدة في إثبات الأطروحة، رابعا: ذكر علاقة «القاعدة» بالأطروحة، خامسا: إعادة ذكر الأطروحة على النحو الذي أثبتت به. والمثال الذي قدمه جوتاما في «نيايا سوترا» هو: (1) توجد نار على التل؛ (2) لأنه يوجد دخان هناك. (3) حيثما يوجد الدخان توجد النار (مثل ما يمكن للمرء رؤيته في المطبخ). (4) يوجد دخان، مرتبط بالنار، على التل؛ (5) لذلك توجد نار على التل.
من هذه الطريقة خماسية الأطراف يمكن أن نرى الأهمية الحتمية التي تعزوها نيايا للاستنباط؛ حيث يمكن استنباط وجود «س» (النار على التل)، وهذا الاستنباط قائم على الدليل الملاحظ «ص» (الدخان) والقاعدة «ع» (حيثما يوجد الدخان توجد النار). ويمثل التفكير الاستنباطي واستخدام البيانات التي تم الوصول إليها من خلال وسائل الإدراك السبيل الرئيسي للتوصل إلى معرفة مؤكدة بالنسبة لنيايا. وفي وقت لاحق في التقليد الهندي ككل، لا سيما على يد علماء المنطق البوذيين ومفكري نيايا المتأخرين، زاد الاهتمام بتأكيد مصداقية الأمثلة أو «القواعد» التي يقوم على أساسها الاستنباط، كما إذا كان الدخان في واقع الأمر إشارة صادقة على وجود نار. كان هذا التطور مهما؛ لأن القاعدة كان لزاما أن تصبح ثابتة بحيث تمثل دعما يعتمد عليه بشكل مطلق في إثبات المسألة المطروحة. وعلى الرغم من الثغرة الموجودة في نظامه، كان مؤلف كتاب «نيايا سوترا» القديم - جوتاما - بالإضافة إلى تقديمه لأول طريقة فلسفية رسمية أول من جعل للاستنباط هذه المكانة المحورية في الجدل المنطقي بهذه الطريقة.
يمكننا الآن الالتفات إلى الأشياء المشروع الاستقصاء عنها التي دونها جوتاما في قائمته. وتعد القائمة إضافة إلى فئات المادة التي تذكرها فلسفة فايشيشيكا، ومذكورة في «نيايا سوترا»، المجلد 1، على النحو التالي: النفس (الذات)، والجسم، وأعضاء الحواس، والأشياء المحسوسة، والإدراك، والعقل، والفعل، والميلاد والموت المتكرران، والعواقب، والمعاناة، والتحرر. ويعلق فاتسيايانا - أحد الأشخاص المهمين الذين خلفوا جوتاما - في رغبة واضحة لتحقيق الترابط في القائمة، فيقول التالي:
في هذا الصدد، تعد الذات هي رائي كل الأشياء، المستمتع بكل الأشياء، وهي محيطة، شاهدة على كل الأشياء، والجسم هو محل المتعة والألم للذات، وأعضاء الحواس هي الوسائل التي من خلالها يتم التعرف على المتعة والألم، والحاسة الداخلية «العقل» هي تلك التي تعرف كل شيء، والفعل هو سبب كل المتع والآلام، والأمر نفسه ينطبق على العيوب المتمثلة في الرغبة والحسد والتعلق. كان للذات أجساد سابقة على هذا الجسد، وسيكون لها أجساد أخرى بعد هذا الجسد، إلى أن يتحقق التحرر، وهذه هي دائرة الميلاد والموت التي ليست لها بداية. «العاقبة» هي الشعور بالمتعة والألم، مع وسائل الشعور بهما، والألم يرتبط ارتباطا وثيقا بالمتعة. ومن أجل تحقيق التحرر، يجب أن يفهم المرء أن كل أشكال السعادة تماثل الألم؛ وهذا يؤدي إلى انتهاء التعلق، ويؤدي في نهاية الأمر إلى التحرر. «نيايا سوترا بهاشيا»: تعليق على «نيايا سوترا»، المجلد 1
في سياق المعايير التي قدمها جوتاما لإجراء أي استقصاء، تخبرنا هذه القائمة عن تلك الأمور التي اعتقد أن الرغبة في التوصل إلى معرفة مؤكدة عنها تعد أمرا مبررا، وأنه يوجد قبل إجراء الاستقصاء عنها عنصر شك فيما يتعلق بوجودها أو طبيعتها. إن معرفة هذه الأمور سوف تسهم فيما بعد في الوصول إلى «الصالح الأعلى» الذي يعد الهدف الأساسي من البحث.
إثبات وجود الذات
كمثال على كيفية تطبيق جوتاما للطريقة التي أسس لها في «نيايا سوترا» على الأشياء المشروع الاستقصاء عنها التي دونها في قائمته؛ دعونا نلق نظرة على «إثباته» لوجود الذات الجوهرية (أتمان). إن هذا الشيء محل الاستقصاء - الذات - يلبي بوضوح معيار الشك؛ إذ لم يكن يوجد إجماع على وجوده وطبيعته، بل على العكس، كان هذا الشيء يتصدر قائمة أعمال الأشخاص المنخرطين في هذا السعي الديني الفلسفي. لقد اعتقد مفكرو نيايا أن تطبيق طريقتهم سوف يسفر عن معرفة مؤكدة حاسمة عن وجود الذات الجوهرية، وأن الوصول إلى تلك المعرفة سيكون مفيدا في السعي الهادف للوصول إلى الصالح الأعلى. ومن خلال التمعن في هذا المثال، يمكننا أيضا أن نرى كيف استخدم مفكرو نيايا نظام فايشيشيكا المتعلق بالمادة والصفات.
يقدم جوتاما أطروحة تقول بوجود تعددية للذوات، والسبب الذي يعطيه لذلك هو وجود تعددية في الوعي، وأيضا وجود صفات الرغبة والكراهية والجهد والمتعة والألم على نحو تعددي. أما المثال أو القاعدة التي يسوقها فهو أن تعددية الوعي - بالإضافة إلى تلك الصفات المعينة - تشير إلى ذوات أبدية غير مادية منفصلة عن كل من العقل والجسد؛ وهذا يعني على وجه التحديد أن تلك هي سمات هذا النوع من الذوات. وكل هذه السمات هي حالة تشير إلى تعددية الذوات؛ ولذلك توجد تعددية للذوات. وتتسم السوترا التي تقر بوجود الذات («نيايا سوترا»، المجلد 1) بالغموض الشديد، كما أن التعليق عليها الموضحة فيه هذه الحجة على نحو كامل لا يتسم بالوضوح؛ ولذا فإن كل نقطة منهجية تتطلب درجة من درجات الاستنتاج. ورغم ذلك، فهذا هو شكل «الإثبات» الذي قدمه جوتاما لهذا الشيء محل الاستقصاء. وتقول السوترا أيضا إن الصفات تتأصل فقط في الذات قبل التحرر من الميلاد المتكرر، وبعد ذلك الميلاد تكون كل ذات خالية من كل الصفات لكنها تحتفظ بخصوصيتها، تلك الخصوصية الأبدية. وفي إشارة واضحة إلى تراث تأويل النصوص الفيدية، تزعم نيايا أن هذه طريقة مؤكدة لاكتساب المعرفة حول الذات بدلا من الاعتماد على الشهادة.
ولسنا في حاجة إلى القول إن هذا الدليل وغيره من «الأدلة» المقدمة في «نيايا سوترا» وتعليقاتها، مثل تلك المتعلقة بالتعددية وطبيعة «العقول» المنفصلة، تعرضت لكافة أشكال النقد على يد المفكرين المعاصرين والمتأخرين. ورغم ذلك، فهذه الطريقة قد حظيت بالاهتمام حتى وقتنا الحالي داخل التراث الهندي وأيضا في الأوساط الفلسفية الغربية، فقد قدمت جانبا من أسهل جوانب التراث الهندي الممكن استقراؤها كي يخضع للدراسة في سياق الفكر الغربي. وإلى جانب أمور أخرى فقد ناقش الباحثون المعاصرون تركيبتها ومزاياها المنهجية النسبية بالمقارنة بالقياس المنطقي لأرسطو، الذي يمثل في الغالب بهذا المثال: «كل البشر فانون، سقراط إنسان؛ لذلك سقراط فان.»
وتلخيصا لما قلنا، فإن رؤية نيايا فايشيشيكا للعالم هي رؤية تتصف بالواقعية التعددية. ويرى أصحاب هذا الفكر أن إدراك أحد الأشياء ينقل للشخص المدرك معرفة الوجود المستقل لذلك الشيء؛ فعلى سبيل المثال، إذا رأى الشخص زهرة، فمن الممكن أن يعتبر أن تلك الزهرة حقيقية على نحو متسام، وهذا يعني أن الصفات المتأصلة في الزهرة، مثل الحمرة والرائحة الزكية، هي وحدها الممكنة معرفتها عن طريقة الإدراك الحسي، بل من الممكن إدراك الزهرة نفسها كمادة موجودة على نحو مستقل. وهذه الواقعية على قدر كاف من المصداقية كي تكون أساسا لنظام نيايا للتفكير الاستنباطي من أجل اكتساب معرفة معينة عن وجود وطبيعة أشياء أخرى أكثر أهمية وقيمة من الناحية الخلاصية، أشياء مثل العقول والذوات الأبدية، تلك الأشياء غير الممكنة معرفتها عن طريق الإدراك وحده. وعلى هذا النحو، فإن وسائل المعرفة الأساسية المستخدمة في دارشانات نيايا فايشيشيكا هي: الإدراك، والتفكير، والاستنباط.
الفصل السادس
الأشياء واللاأشياء
تطورات في الفكر البوذي
رأينا في الفصل الرابع كيف دفع ظهور تعاليم وأفكار بديلة متحدية البرهميين التقليديين إلى محاولة الدفاع عن صحة وسيادة النصوص الفيدية المتمثلة في كل من النصوص الشعائرية وكتابات الأوبانيشاد. ورأينا كيف كان لهذا أثر على الواقعية التعددية في خطابات نيايا فايشيشيكا الأكثر منهجية. وإلى جانب تلك التطورات التي حدثت تحت مظلة التقليد البرهمي، كان الفكر البوذي والتعاليم البوذية أيضا يخضعان للفحص والتعديل والدراسة والمراجعة. وقبل الشروع في مناقشة هذه الأمور، يجدر بنا ذكر أنه على الصعيد الداخلي وعلى صعيد العلاقة بمدارس الفكر الأخرى، فإن كثيرا من الأفكار والفرضيات التي قدمها المفكرون البوذيون يمكن أن تبدو صعبة الفهم للغاية بالنسبة للمبتدئين. ورغم ذلك، آمل أن يساعد هذا السياق المتسع الذي يتناوله الفصل في توضيح أية مشاكل قد تقابل القارئ. إن عمق الفلسفة البوذية يستحق أيضا المثابرة؛ فهي تضم بعض الافتراضات الأكثر راديكالية في تاريخ الفكر البشري.
أنواع الفكر البوذي
اهتم أول النقاشات الجادة داخل التقليد البوذي بالقواعد الرهبانية الانضباطية الصارمة، وقد أدت هذه النقاشات إلى قبولها وتقنينها من قبل البعض، وإلى رفضها وتعديلها من قبل البعض الآخر. وبهذه الطريقة، التي يمكن أن نطلق عليها «انشقاقية»، بدأ التشظي الأول للبوذية إلى «مدارس» مختلفة، وتلك الاختلافات المبدئية في القواعد الانضباطية الصارمة لتلك المدارس مهدت الطريق لظهور اختلافات في النظرة العقائدية وترسخها في المجتمعات المتماثلة الفكر. وتشير النصوص إلى حوالي 18 مدرسة وجدت في الهند خلال مراحل مختلفة أثناء الفترة التي تقدر بنحو 800 عام أو ما يقرب من ذلك التي أعقبت وفاة بوذا. ومن بين هذه المدارس التي يمكن أن نشير إليها في مجملها بأنها تمثل البوذية «القديمة» أو بوذية «ما قبل الماهايانا»، وحدها بوذية التيرافادا التي بقيت حتى يومنا الحاضر، لكن المدارس الأخرى التي لدينا بعض المعلومات عنها تشمل لوكوتارافادا، وساماتيا، وسوترانتيكا، وسارفاستيفادا.
تأريخ زمني
عام 2000 قبل الميلاد تقريبا:
التقليد القرباني الفيدي.
800-500 قبل الميلاد تقريبا:
كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام 500 قبل الميلاد:
وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي للتقليد البرهمي جنبا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد:
معتنقو التقليد البرهمي والمارقون منه.
485-405 قبل الميلاد تقريبا:
تمثل هذه الفترة حياة بوذا.
من القرن الرابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
وضع النحويون والمؤولون الأوائل معايير الأمور التي يجب «النظر إليها».
من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
فايشيشيكا ونيايا يجمعان بين النظرة الوجودية للواقعية التعددية وبين طريقة رسمية يمكن من خلالها الوصول للمعرفة المؤكدة.
من القرن الرابع إلى القرن الأول قبل الميلاد:
شهد التقليد البوذي القديم انقساما إلى مدارس مختلفة. بدأ الانشقاق على أساس اختلاف القوانين الرهبانية الصارمة، وتدريجيا بدأت تلك المدارس تتبنى وجهات نظر عقائدية مختلفة على نحو مميز .
من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي:
تطور في تقليد بوذية «أبهيدارما» («أبهيداما» باللغة البالية)؛ تبنت المدرسة نشاط التحقيق وتصنيف ظواهر (الدارما/الداما) إلى فئات من أجل فهم طبيعة الواقع.
من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي:
ظهور بوذية ماهايانا وسوترات «براجنياباراميتا» («كمال الحكمة»).
القرن الثاني الميلادي تقريبا:
اعتمادا على نصوص براجنياباراميتا، تركز فلسفة مادياماكا كاريكا لصاحبها ناجارجونا على «خواء» (شونياتا) كل الظواهر، وتضع الأساس لمدرسة فكرية تعرف باسم مادياماكا (الطريق الوسطي). ويحظى مبدأ «النشأة المعتمدة» الذي قال به بوذا بأهمية محورية في تعاليم ناجارجونا.
القرن الرابع الميلادي تقريبا:
وضعت إحدى المدارس البوذية المعروفة باسم شيتاماترا («العقل فقط») أو يوجاكارا («ممارسة اليوجا») تفسيرا بديلا لفحوى تعاليم براجنياباراميتا؛ في محاولة لتقليل العدمية الواضحة لمدرسة «الخواء». وكما يوحي المصطلحان «يوجا» و«العقل» فهذه الطريقة تركز على فهم العمليات التأملية أو «أحداث الوعي».
وكانت المعايير التي على أساسها تنقسم المدارس وفقا للعقائد مرتبطة بالمكانة الوجودية للبشر (سواء لبوذا على وجه التحديد في هذه الحالة أو للبشر أجمعين) والعالم، وهذه موضوعات شائعة في المجتمع الهندي الأوسع نطاقا. وكان لكهنة البرهمية ومفكري نيايا فايشيشيكا نقطة انطلاق أكثر بساطة من عدة جهات؛ لأن موقفهم كان متفقا مع نظرة الفطرة السليمة للواقع، إلا أن البوذيين كانوا مضطرين لمواجهة التعاليم الأولية التي ركزت على العمليات العقلية بدلا من العالم الخارجي، وكذلك مع مبدأ «اللاذات» الذي يعد أكثر صعوبة في التناول.
بالنسبة لأتباع لوكوتارافادا، كان الموضوع الرئيسي هو مكانة بوذا. ومعظم البوذيين يتفقون على أنه كان رجلا يحمل مكانة مماثلة لمكانة أي شخص آخر، لكن أتباع لوكوتارافادا يعتقدون أنه بطريقة ما تسامى فوق البشرية العادية؛ ومن ثم لم يكن خاضعا للمعيار الماورائي البوذي المتمثل في عدم الديمومة. (تتكون «لوكوتارافادا» من كلمة «لوكا» وتعني «العالم»، وكلمة «أوتارا» وتعني «وراء» أو «فوق»). وأصبح كثير من البوذيين اللاحقين يؤمنون بتسامي بوذا، وكذلك بتسامي الشخصيات العظيمة الأخرى التي تتسم بالشفقة والبصيرة المعروفة باسم البوديساتفات، لكن أتباع لوكوتارافادا كانوا هم الوحيدين الذين تبنوا وجهة النظر تلك بين البوذيين القدماء. وتتمثل أهمية هذا المعتقد بالنسبة لأتباعه في أن الهدف الذي يأملون في تحقيقه من خلال اتباع التعاليم كان هدفا يرمي إلى التسامي فوق العالم البشري.
المدارس والنصوص البوذية
تشير المصادر النصية إلى أنه خلال فترة 500 سنة أعقبت حياة بوذا، تأسس نحو 18 مدرسة بوذية مختلفة. كان «الانشقاق» المبدئي في جماعة الرهبان أساسه الخلاف حول القواعد الانضباطية، وفيما بعد فسرت الجماعات المتشابهة في وجهات النظر التعاليم البوذية على نحو مختلف. أما المدرسة البوذية القديمة الوحيدة التي استمرت حتى وقتنا المعاصر فهي بوذية التيرافادا. ومن بين المدارس البوذية القديمة مدارس «لوكوتارافادا»، و«ساماتيا»، و«سوترانتيكا»، و«سارفاستيفادا».
والنصوص التي تضم القانون البوذي أو الشريعة البوذية تندرج تحت ثلاثة أنواع هي:
أطروحات عقائدية - «سوتات» أو «سوترات».
قوانين انضباطية للرهبان - «فينايا».
تفسيرات فلسفية اسكولاستية للتعاليم - «أبهيدارما».
وتعود «الأبهيدارمات» المتبقية حاليا إلى مدرستي «تيرافادا» و«سارفاستيفادا».
ويتمسك أتباع مدرسة «سوترانتيكا» بنصوص «السوترات» فقط ويرفضون المنهج الاسكولاستي للمدارس الأخرى.
وزعم مفكرو مدرسة ساماتيا أنه على الرغم من مبدأ «اللاذات» (الذي يفسر في الغالب على أنه «عدو وجود الذات»)؛ فإن كل البشر لديهم ذاتية خاصة بهم إلى حد ما. ولا يوجد دليل على كيفية تكون هذا الفكر، لكن أفكار مدرسة ساماتيا كانت مرفوضة تماما من قبل المدارس البوذية الأخرى.
أبهيدارما
يشير اسم مدرسة سوترانتيكا («سوترا-أنتيكا») إلى أن مجموعة التعاليم التي اعتبرتها هذه المدرسة الأكثر موثوقية هي تلك التعاليم الموجودة في الأطروحات العقائدية أو السوترات. ولقد رأوا أن هذا التمييز ضروري في ظل تطوير أطروحات تفسيرية أكثر أكاديمية مضمنة في الأعمال المعروفة باسم الأبهيدارمات. فقد كان لكل من مدرسة تيرافادا ومدرسة سارفاستيفادا أبهيدارما خاصة بهما؛ وأبهيدارما تيرافادا مدونة باللغة البالية («أبهيداما بيتاكا»)، أما أبهيدارما سارفاستيفادا فمكتوبة باللغة السنسكريتية. (عندما انخرط البرهميون مع آخرين في الدفاع عن نصوصهم، أصبحت اللغة السنسكريتية هي اللغة المشتركة للجدل ولغة تدوين النصوص في الهند، لكن كل أعمال التيرافادا الباقية، المحفوظة في سيلان (سريلانكا حاليا ) بدلا من البر الرئيسي الهندي؛ مكتوبة باللغة البالية.)
كان اهتمام تقليد أبهيدارما منصبا على (أبهي) دارما، وهذا «الاهتمام بالدارما» نشهده في أمرين؛ أولا: ارتباطه بالفهم والتفسير القاطع للتعاليم (الدارما) ككل. وكانوا يرون أن هذا الأمر ضروري بسبب الطبيعة المبهمة أو الغامضة التي قدمت بها تلك التعاليم في أول مرة؛ مما أدى إلى شعور البعض أن التقليد يحتاج إلى بعض التوضيح المنظم، فخضعت الكلمات والعبارات والجمل والتعاليم العقائدية لتحليل دقيق ودونت التعريفات والتفسيرات «الصحيحة». ثانيا: حقق مفكرو أبهيدارما في طبيعة الواقع فيما يتعلق «بالدارمات»؛ فأي شيء موجود، أيا كانت طبيعته، يمكن أن يشار إليه بحيادية وبلا إسناد على أنه دارما، وهذا يعني أن مصطلح دارما في حد ذاته لا يخلع على الأشياء التي يشير إليها أية صفة أو حالة على الإطلاق. في الفصل الثالث رأينا المصطلح مستخدما بهذه الطريقة (باللغة البالية) في السطر الثالث من صيغة سمات الوجود الثلاث: «كل الدامات (الأشياء الممكنة معرفتها) ليست هي الذات.» وسعى مفكرو أبهيداما بعد ذلك إلى تحديد طبيعة الواقع في سياق تعاليم بوذا إلى حد كبير، على غرار ما سعت لتنفيذه «فايشيشيكا سوترا» لصاحبها جوتاما في سياق الدارما الفيدية (واستخدام كلمة دارما في هذا الصدد يعد مثيرا للالتباس، لكنه يمثل أحد المعاني الأخرى المستخدمة لكلمة دارما).
الدارما مرة أخرى
في الفكر البرهمي، تعني الدارما كلا من النظام الكوني والواجب الشخصي للفرد، كما شرحنا في الفصل الرابع. وفي البوذية، للدارما («الداما» باللغة البالية) معنيان مهمان؛ أولا: تشير إلى تعاليم بوذا؛ فلكي يصبح المرء بوذيا، فإنه يوافق على «الالتجاء» إلى بوذا (أي قبوله واحترامه والولاء له) وتعاليمه (الدارما) وجماعته. ثانيا: وعلى قدر أكبر من الأهمية بالنسبة لنا في هذا السياق، يستخدم مصطلح الدارما للإشارة بشكل عام وغير محدد إلى «كل شيء»، دون تحديد أي شيء عنه. إنه مصطلح مظلي، ينطبق على الملموس أو المجرد، والحاضر أو الماضي، والحسي أو التصوري، والذاتي أو الموضوعي، والحي أو الجماد، والعضوي أو غير العضوي، وهكذا. وقد ظهر المصطلح لأول مرة بهذه الطريقة في المبدأ البوذي القديم الذي يقول: «كل الدارمات أناتا (ليست ذات).» الذي ناقشناه في الفصل الثالث.
لم يرفض أتباع مدرسة سوترانتيكا مشروعية الجهود التي بذلها أتباع الأبهيدارما، لكنهم منحوا الأولوية لتحليل وفهم طبيعة الواقع كما هو موضح في التعاليم الموجودة في الأطروحات العقائدية القديمة (المعروفة باسم السوترات)، بدلا من تطوير تقليد اسكولاستي. وركز تحليلهم على شرح العلاقة بين الإدراك المعرفي للعالم من منظور الشخص وبين الاستمرارية الكارمية. وقالوا إن مكونات هذه العملية التجريبية (الدارمات) غير دائمة، ومتغيرة، و«لحظية»، وليس لها أي نوع من الوجود المتأصل. وبتبني هذا الموقف اشتبك أتباع مدرسة سوترانتيكا مع أتباع مدرسة سارفاستيفادا على وجه الخصوص، الذين تستند رؤيتهم للعالم إلى الأبهيدارما الخاصة بهم استنادا تاما، تلك الأبهيدارما التي تمثل عملا شاملا يسعى إلى إثبات أن «كل شيء موجود»، وهذا هو معنى «سارفا أستي».
واستكمالا للتحقيقات فقد ربط أتباع الأبهيدارما لكلتا المدرستين مبدأ «اللاذات» عمليا وعلى نحو حصري بالبشر بدلا من كل أشكال الدارما على حد سواء. وفعلوا ذلك من خلال قول إن البشر لا يتكونون من ذات مستقلة بل يتكونون من خمسة أجزاء مكونة متعايشة معا تسمى «سكاندات» («كاندات» باللغة البالية)؛ وهي التركيبة الخماسية نفسها التي فسرناها في الفصل الثالث باعتبارها الملكات المعرفية. تلك المكونات نفسها كانت خاضعة لتحليل الدارما، لكنها كونت المبدأ الذي بموجبه رفض البوذيون أي زعم من قبل الآخرين يقول بوجود أي نوع من الذاتية البشرية المستقلة أو الدائمة.
وكان أتباع مدرسة سارفاستيفادا منشغلين أيضا بالتفكير على وجه الخصوص في حالة واقعية الدارما فيما يتعلق بالاستمرارية؛ فانشغلوا بعدة أسئلة من قبيل: كيف يمكن أن يوجد أي رابط سببي بين دارمات غير دائمة؟ كيف يمكن للمرء فهم العلاقة التبادلية بين عدم الديمومة والاستمرارية؟ وأجابوا عن هذه الأسئلة بأن زعموا أنه على الرغم من أن كل الدارمات مؤقتة، وأنها توجد لوقت يكفي فقط لإحداث الاستمرارية، فإنها توجد أيضا بالفعل في كل «الأنماط الزمنية»؛ في الماضي، وفي الحاضر، وفي المستقبل. وعزوا إلى الدارما «جوهرا» مستمرا أساسيا («سفابهافا»، «وجود ذاتي»)، وتمادوا حتى وصفوها بأنها «مواد».
وأجرى أتباع أبهيدارما تيرافادا تحقيقهم عن الدارمات ليس فيما يتعلق بالأنماط الزمنية ولكن من خلال تصنيف كل جوانب التجارب فيما يتعلق بأنواع الدارمات. وبهذه الطريقة سعوا إلى فهم سبب وجود فوارق مهمة، من الناحية الظواهرية، بين الجوانب المادية والمعنوية للتجربة على سبيل المثال. وفي العموم، يصنف مفكرو التيرافادا الدارمات إلى حوالي 28 فئة «مادية» و52 فئة «ذهنية»، بالإضافة إلى الوعي. وكان هدف الممارسين هو تعلم ملاحظة وتحليل تلك الدارمات في حالات التأمل، وبهذه الطريقة يصبح اكتساب البصيرة أكثر سهولة.
تراجع البوذية في الهند
على مدار ما يقرب من ألف سنة بعد وفاة بوذا، ازدهرت البوذية في الهند. وخلال حكم الملك الماوري أشوكا، في القرن الثالث قبل الميلاد، أصبحت البوذية الدين الرسمي للهند، وأغدق المال ببذخ على جماعات الرهبان البوذيين؛ وأدى هذا إلى تشكيل قاعدة قوية لجماعات الرهبان مكنت من تكاثر الأفكار فيها وانتشار التعاليم البوذية منها. وعلى مدار قرون، لعب الفكر البوذي دورا كبيرا في الحياة الدينية الفلسفية في الهند، وأسهم بمجموعة من الأفكار الجديدة والمعقدة، وكذلك الآراء النقدية ووجهات النظر، ونقل الكثير من هذه الأفكار والآراء النقدية ووجهات النظر إلى دول أخرى مثل سيلان (سريلانكا حاليا)، والصين، والتبت (ومن خلال هذه البلدان وصلت إلى جنوب شرق آسيا وإلى الشرق الأقصى)؛ مما جعل البوذية إحدى الديانات الكبرى في العالم، ولا يعرف على وجه التحديد كيف أو لماذا انتهت البوذية فعليا في الهند. ويوجد عدد من الاحتمالات؛ من بينها أن عدد الرهبان البوذيين قد أضحى أكبر بكثير من عدد العوام الذين يعتنقون الديانة؛ ومن ثم لم تعد قادرة على الاستمرار، ومن المحتمل أن يكون انتشار الطوائف الدينية داخل ما نطلق عليه حاليا الهندوسية قد جذب الكثيرين بعيدا عن البوذية، ومن المحتمل أن تكون حياة الرهبان في الأديرة قد شهدت نوعا من التدهور استمر لفترة طويلة؛ مما أدى إلى تدمير الديانة ذاتيا. ومن المؤكد أنه عندما استقر المسلمون في الهند، من القرن الثامن الميلادي فصاعدا ، تمكنوا دون صعوبة من إزالة بقايا البوذية في الهند، وفي ذلك الوقت كانت الأديرة البوذية عرضة للدمار الشامل الذي عانت منه على يد محطمي الأصنام المسلمين.
وعلى الرغم من أن تيرافادا لم تنسب مطلقا أي نوع من الجوهر للدارمات بأي شكل من الأشكال، مثلما فعلت مدرسة سارفاستيفادا؛ فإن كلتا المدرستين ذواتي الأبهيدارمات تحدتا أتباع نيايا فايشيشيكا فيما يتعلق بطريقة فهمهم للعلاقة بين المظهر المعرفي للأشياء وحالتها الوجودية، بالإضافة إلى حالة الصفات، والخصائص العامة والخاصة، وهكذا. وركز نقد الأبهيدارما على الطبيعة والكمية الوافرة من الذرات التي يفترضها أتباع نيايا فايشيشيكا. وقال أتباع المدرستين إنه من الخطأ ومن غير الضروري تصنيف عدد كبير من العوامل كأنواع منفصلة من الذرات، فالصفات والخصائص العامة على سبيل المثال كانت جزءا من الحدث المعرفي - جزءا ضروريا بالنسبة له، لكنها ليست فئات وجودية منفصلة. وفي نقدهم للاستقلالية والأبدية المطلقة للذرات، ركزت إحدى الحجج الأساسية لأتباع أبهيدارما على استحالة انضمام ذرات غير مكونة من أجزاء بعضها مع بعض لتكوين الأشياء المختلفة التي نشهدها، فإذا كانت الذرات غير مكونة من أجزاء، فكيف يمكن لجزء من الذرة س أن يلتصق أو ينضم إلى جزء من الذرة ص؟ علاوة على ذلك، فقد نفوا الزعم بأن الإدراك هو ما يكون الحقيقة الأبدية للمدركات، وكذلك نفوا أن المدركات عبارة عن ذرات تندمج معا لتكوين كيانات كلية «خاصة» منفصلة على نحو واضح، أما الزعم الآخر الذي أوضحه أتباع أبهيدارما فقد نفى إمكانية إدراك الأجزاء بالإضافة إلى الكليات نفيا مطلقا. وعلى أي حال، فأي شيء ندركه لديه حالة ظواهرية مؤقتة فحسب. ويضم تراث كتابات نيايا فايشيشيكا ردودا على تلك الآراء النقدية وغيرها، ويوضح الطريقة التي عدلوا بها أو أكدوا بها على بعض النقاط العقائدية الخاصة بهم بناء على ذلك.
ونظرا لأن مفكري الأبهيدارما ورثوا من المراحل الأولية للبوذية تعاليم كانت أبعد ما تكون عن الوضوح الفلسفي، وكانت على أية حال مهتمة في المقام الأول بالفعالية الخلاصية التي تحققها؛ فقد تعامل مفكرو الأبهيدارما مع موقفين متلازمين ، تمثل الموقف الأول في اعتقادهم أن التقليد البوذي الذي يتسع نطاق انتشاره كان في حاجة إلى أن يقدم لأعضائه الممارسين تمثيلا لتعاليمه يتسم بقدر أكبر من التفصيل والمنهجية؛ لتحل التفسيرات القاطعة محل الغموض العقائدي، وفعلوا ذلك من خلال الاستعانة بمجموعة معايير تقنية بداية من التحليل اللغوي وحتى الممارسات التأملية. أما الموقف الثاني فكان اكتساب الميل إلى تقديم التعاليم على نحو منهجي لإثبات صحة وترابط تلك المعايير بالنسبة لهم، وليمكنهم أيضا من التعامل على نحو أسهل مع المزاعم المعارضة التي يطرحها الغرباء حول موضوعات مشابهة. وإلى حد ما، كان مفكرو الأبهيدارما مجبرين تقريبا على اتباع نظام معين يقوم على تحليل وتصنيف الدارمات إلى فئات كي تصبح تعاليمهم من الممكن مقارنتها بتعاليم مفكري نيايا فايشيشيكا.
الخواء وكمال الحكمة
لذا فمن المحتمل، إلى حد كبير، أن يكون طابع نصوص الأبهيدارمات يظهر تفاعل مدارس فكرية مختلفة، والطريقة التي انتهجتها لتقديم وجهات نظرها بطريقة متفقة مع طرق عرض الآخرين. وعلى الرغم من أن البوذيين قدموا بالفعل نقدا لآراء نيايا فايشيشيكا، فما حدث مع مرور الوقت هو أن دارمات الأبهيدارمات أصبحت واقعية على نحو متزايد؛ فالأشياء التي كانت مفهومة في البداية بطريقة مجردة إلى حد ما اكتسبت تدريجيا مكانة «الأشياء» المتعددة والواقعية. وفي ضوء عدم الواقعية التي ميزت التعاليم البوذية القديمة، فإن هذا التجسيد قدم دعوة مفتوحة لرأي ناقد جاد لموقف الأبهيدارمات. وعندما ظهر ذلك، جاء من داخل التقليد البوذي، وأسهم في ظهور ما أطلق عليه بوذية الماهايانا، وهي حركة بوذية شاملة سعت إلى وضع فهم لتعاليم بوذا يكون أقل مراوغة ويمثل فهما قاطعا مقارنة بما قدمته الأبهيدارمات. والمراحل الأولى لهذه الحركة نجدها ممثلة في الأدبيات المعروفة باسم «أطروحات حول كمال الحكمة» («سوترات براجنياباراميتا»). واستهدفت تلك النصوص نظريات الدارما الخاصة بالأبهيدارمات، وأوضحت أنها مناقضة للمبدأ الذي ينص على أن كل الأشياء نشأت معتمدة بعضها على بعض؛ ولذلك فإنها تفتقر تماما إلى الجوهر. واعترف كتاب كمال الحكمة بأن أسلافهم فهموا على نحو صحيح الطبيعة غير الجوهرية للذات البشرية، لكنهم زعموا أنهم فشلوا تماما في فهم الطبيعة العامة لمعتقد «اللاذات». وعلى هذا النحو، فقد زعم كتاب كمال الحكمة امتلاكهم لقدر «أعلى» و«أكثر صحة» من البصيرة أو الحكمة؛ ولذلك زعموا أن تعاليمهم تمثل «الطريق الأعلى»، وهذا هو معنى ماهايانا.
وعندما قدموا نقدهم للأبهيدارمات، كان كتاب كمال الحكمة أوفر حظا من بوذا؛ حيث إنهم لم يزاولوا نقدهم في ظل مجتمع يسوده مبدأ البرهميين الجديد الذي يزعم أن البشر لديهم ذات جوهرية (أتمان) متطابقة مع جوهر الكون (براهمان)؛ ولذلك أصبح هؤلاء البوذيون المتأخرون أحرارا في تقديم صياغتهم لمبدأ بوذا بطريقة لم تذكر الذات، بل قالوا إن كل الأشياء (الدارمات) خاوية («شونيا») من «الوجود الذاتي» (سفابهافا). وهذا المصطلح الحيادي («الخواء») جعل المبدأ أقل عرضة للتخصيص الذاتي، وجعل إمكانية تطبيقه على نطاق عام ممكنة الفهم إلى حد كبير من الناحية المفاهيمية.
الطريق الوسطي لنارجارجونا
لم يمر وقت طويل بعد أن بدأت نصوص كمال الحكمة في الظهور حتى قدم ناجارجونا نقده المدمر تماما لأي نوع من أنواع الواقعية أو التعددية، وناجارجونا هو مفكر بوذي نجيب عاش في القرن الثاني الميلادي. ويطلق على عمل ناجارجونا الرائد «مادياماكا كاريكا»، وتعني «كتابات حول الطريق الوسطي»، ومن هذا الاسم أيضا اشتق اسم مدرسة مادياماكا الفكرية المرتبطة به. ومنذ الآيات الافتتاحية للمادياماكا كاريكا يتضح أن ناجارجونا كان يعتقد أنه يقدم تفسيرا لتعاليم بوذا بدلا من وضع نظرة فلسفية خاصة به، ويتضح أيضا أنه يعتقد أن المعنى المحوري لتعاليم بوذا يوجد في مبدأ النشأة المعتمدة؛ وهذا المبدأ يلخص المقصود ب «الطريق الوسطي». ويوضح ناجارجونا أن هذا مرتبط بتعاليم كمال الحكمة؛ لأن «النشأة المعتمدة هي تلك التي نشير إليها باسم «الخواء»، وهذا هو الطريق الوسطي» («مادياماكا كاريكا»، المجلد 24). وهذا يعني (كما يمكن للمرء أن يرى كيف أن هذا الكلام يعد تكرارا لتعاليم بوذا المذكورة في الفصل الثالث) أن الأشياء معتمدة النشأة تكون «خاوية» من «الجوهر الذاتي» (أي الوجود المستقل).
يمكن تطبيق رأي ناجارجونا الناقد للتعددية على ذرات نيايا فايشيشيكا بقدر ما يمكن تطبيقه على الحالة الوجودية الغامضة لفئات الدارما التابعة للأبهيدارمات (ولا سيما أبهيدارمات سارفاستيفادا التي أعزي إليها جوهر أو «وجود ذاتي» - سفابهافا). ومع ذلك، فمن المرجح أن هدفه الأساسي كان تعديل ما رآه انحرافا لدى متبعي المدرسة الأخيرة في تقديمهم للتعاليم البوذية. وفي تناوله لاهتمامهم بالدارما، ذكر أن الدارما ليست فقط غير مالكة لأي نوع من «الوجود الذاتي»، ولكن أيضا من المستحيل أن يوجد أي نوع من الدارما له «وجود ذاتي». ويبدأ نقده بالعبارة الراديكالية: «لا توجد أي كيانات في أي مكان وبأية طريقة تنشأ من تلقاء نفسها، أو من شيء آخر، أو من الاثنين، أو تنشأ تلقائيا.» («مادياماكا كاريكا» 1). في هذه العبارة لم يكن ناجارجونا يقول أو يرغب في إثبات عدمية الوجود، وإنما كان اهتمامه منصبا على إثبات التداعيات الوجودية للنشأة المعتمدة من أجل فهم حالة الموجودات على نحو سليم. وكان ناجارجونا مؤمنا بأن ثمة مصطلحات مثل «الوجود» (كما في «الوجود الذاتي» - والذي يمكن أن نطلق عليه «الكيان» أو «الشيء») كانت تستخدم بحيث تلمح خطأ إلى الوجود المستقل لما تشير إليه، وأن فكرة وجود قانون سببي يعمل بين الكيانات كانت فكرة مغلوطة. وكان نقده موجها لتوضيح هذه النقاط. ما قاله ناجارجونا في هذا الصدد يمكن فهمه على نحو أفضل على أربع مراحل كالتالي: (1) ليس الأمر أن الشيء «ذاتي الوجود» ينتج من تلقاء نفسه. (2) ليس الأمر أن ذلك الشيء «ذاتي الوجود» ينتج من شيء آخر غير نفسه. (3) ليس ممكنا بالطبع أن ينتج من كل من نفسه ومن غيره. والمعنى الضمني لهذه المراحل هو أنه من غير المنطقي اعتقاد أن أي شيء «ذاتي الوجود» يمكن أن يأتي من خلال أسباب أو شروط؛ لأن الكيان المسبب أو المشروط سيكون تابعا؛ ووجود «كائن تابع ذاتي الوجود» هو أمر غير منطقي، ولا يوجد مسبب «آخر» مستقل الوجود على أية حال (وهذا أمر مكرر في مادياماكا كاريكا في المجلد 15). (4) والمرحلة الأخيرة هي استحالة النشأة العفوية للأشياء «ذاتية الوجود»؛ لأنه لو كان هذا هو الحال لكان العالم فوضى عشوائية، وهو ليس كذلك. وأضاف المعلقون على ناجارجونا تفسيرات إضافية فقالوا لو أن شيئا أنتج نفسه في هذا العالم فسوف يؤدي ذلك إلى سلسلة إنتاج مستمرة لا يمكن إيقافها تنتج الشيء نفسه، ومن المستحيل أن شيئا «ذاتي الوجود» ذا طبيعة محددة ينتج شيئا آخر «ذاتي الوجود» ذا طبيعة مختلفة تماما؛ فأين يمكن أن يكمن الرابط المسبب؟ كما أن مزيجا من هذين النمطين من الإنتاج سوف يعاني من كلا النوعين من المشاكل.
وعلى هذا النحو فالنشأة المعتمدة ليست نظرية عن السببية متعلقة بنشأة عالم واقعي على نحو تعددي، فالعالم الذي تكون فيه النشأة المعتمدة عاملا فعالا لديه حالة وجودية مختلفة؛ هو عالم «الخواء». ولا يمكن فهم ذلك العالم في ضوء الوجود أو عدم الوجود؛ لأن أيا من هاتين الحالتين لا تنطبق عليه؛ فالوجود لا ينطبق عليه لأن المعنى التصوري للوجود يفترض عالما واقعيا على نحو تعددي، ولو كان العالم على هذه الشاكلة لكان ثابتا وغير متغير للأبد. وكما يشير ناجارجونا فهذا يرجع، إلى حد كبير، إلى عدم إمكانية عمل أي قانون سببي في مثل هذا العالم؛ فالمكونات المستقلة لا يمكن أن تكون تابعة على نحو سببي. ولا ينطبق عدم الوجود على العالم؛ لأنه من خلال النشأة المعتمدة نشهد العالم الظواهري. وهنا يقدم ناجارجونا فكرة «الحقيقتين»؛ الحقيقة الاصطلاحية أو العرفية والحقيقة المطلقة، وترتبط الحقيقة الاصطلاحية بالعالم التجريبي الذي نعيش فيه، أما الحقيقة المطلقة فترتبط بالأشياء «كما هي في واقع الأمر».
حقيقتان ومنطق الخواء
العالم التجريبي الذي نشهده ليس عالما غير واقعي؛ فنحن نشهده في واقع الأمر. ورغم ذلك، فإن لم يتمكن المرء إلا من رؤيته من زاوية «الأشياء كما هي في واقع الأمر» أو من زاوية الحقيقة المطلقة (وهذا بالطبع هو المقصود تحقيقه من خلال اتباع الطريق البوذي؛ الوصول إلى التنوير)؛ فسوف يعرف المرء أن طبيعة حقيقته - حالته الوجودية - ليست تعددية مستقلة كما تبدو لنا. وبدلا من ذلك، فما نرى أنه تعددية مستقلة هو في واقع الأمر عالم مشروط وتابع - وهذا يعني في المطلق أنه اصطلاحي - ولذلك فهو «خاو» من أي نوع من الجوهر أو «الوجود الذاتي». ومن هذا المنطلق فالعالم التجريبي الذي نألفه، والذي يتسم بمكونات تبدو منفصلة ومن ثم موجودة، هو كله جزء من المستوى الذي اصطلح عليه للحقيقة؛ وهذا سبب آخر يفسر لماذا من الخطأ أن نسعى لفهم الأشياء كما هي في واقع الأمر (أي حقيقتها المطلقة) في ضوء أي معايير متعلقة ب «الوجود». ويستطرد ناجارجونا فيقول إن إساءة فهم هذا الأمر، وافتراض أن الخواء يعني عدم الوجود، يؤديان إلى عدم فهم المبدأ العميق الذي أقره بوذا، وهذا سوف يدمر الأشخاص ضعاف العقول («مادياماكا كاريكا»، المجلد 24). ويكمل قائلا إن الخواء هو الاحتمالية الوجودية المنطقية الوحيدة لعالم الوجود التجريبي في واقع الأمر، فالتمسك بالواقعية التعددية يعد أمرا غير منطقي تماما؛ لأنه يحول دون وجود أية سببية وأي تغيير.
إن موقف ناجارجونا من الخواء كثيرا ما يشار إليه عن طريق الصيغة الرباعية (الموجودة فيما سبق في النصوص المنسوبة لبوذا نفسه كما ذكرنا في الفصل الثالث)، تلك الصيغة التي تقول إن من الخطأ التفكير في أن أي شيء إما أنه موجود أو غير موجود، أو أنه موجود وغير موجود معا، أو أنه ليس موجودا وليس غير موجود. وقد كتب البوذيون والأكاديميون على حد سواء الكثير من الكتابات حول الطريقة التي يجب فهم هذا المنطق بها بالضبط، ونتائج هذا الفهم، وما إذا كان سيقود على نحو لا يمكن تغييره إلى قدر من العدمية، أو ما إذا كان يجب أن يعتبر مجرد نقد لمواقف الآخرين، وأنه لا يتخذ موقفا خاصا به. وفيما يخص أهدافنا، أعتقد أنه من الأكثر إفادة أن نرى ذلك المنطق بمثابة طريقة للرفض الشامل لأي موقف محتمل للخصوم، ذلك الرفض الذي يستند إلى فكرة أساسية تتمثل في أن الشرط الأساسي لأية نظرية وجودية مقدمة حول الوجود أو عدم الوجود؛ هو الاستناد إلى إطار مفاهيمي يقوم على الحقيقة المعتادة فحسب. ومن وجهة نظر الحقيقة المطلقة فمن ثم هذا لا يمكن أن يكون صحيحا؛ لأن مجرد قول هذه الفكرة يجعلها مناقضة لنفسها. ووفقا لناجارجونا فإن أفضل طريقة، وما يجب أن يتطلع المرء إلى تحقيقه إذا أراد أن يفهم طبيعة الحقيقة هو «إيقاف كل التفريقات اللفظية». فكل ما نتلفظ به من ألفاظ حول الحقيقة محتوم عليه بأن يكون زائفا بسبب زيف أطروحات العالم المعتاد الذي تعمل فيه هذه التعبيرات اللفظية؛ ولذلك يجب أن يسعى المرء إلى اكتساب الرؤية غير المنظمة على ضوء تلك المصطلحات (وهذا هو هدف مبادئ التأمل). ومن هذا المنطلق، يدرك الناس أن «الخواء» نفسه أمر معتاد وليس كيانا غير لفظي متساميا مستقل الوجود.
الخواء يؤكد العالم كما نعرفه
وردا على المعترض الذي يقول إنه إذا كانت كل الأشياء خاوية فلا شيء موجود، وإن ناجارجونا في طرح وجهة نظر الخواء ينكر وجود بوذا وتعاليمه؛ يقول ناجارجونا:
عند قول هذا، يبدو واضحا أنك لا تفهم الخواء، وأنك تعذب نفسك بلا داع حول عدم الوجود. يجب أن يفهم المرء طبيعة الواقع في ضوء حقيقتين: حقيقة اصطلاحية وحقيقة مطلقة. وهذا هو المبدأ العميق لبوذا، الذي سوف يدمر أصحاب الذكاء الضعيف الذين يفهمون ذلك المبدأ على نحو خاطئ. فقط إذا كان الخواء منطقيا يكون العالم التجريبي منطقيا؛ وبدون الخواء سيصبح العالم التجريبي عبثيا. وإذا قلت إن الكيانات واقعية على نحو مستقل فإنك تنكر احتمالية الظروف والعلاقات السببية. ولا شيء من الأشياء المألوفة بالنسبة لنا يمكن حدوثه إن لم تكن كل الأشياء تنشأ معتمدة بعضها على بعض (أي خاوية)؛ فلا شيء يمكن أن ينشأ أو يتوقف، ولا يمكن اكتساب معرفة أو التخلص من جهل، ولا يمكن ممارسة نشاط، ولا يمكن حدوث ميلاد أو موت، وسيكون كل شيء ثابتا؛ إذا لم يغير الشيء حالته. أنت، وليس أنا، من يفترض عدم وجود العالم كما نعرفه، وإذا أنكرت الخواء فإنك تنكر العالم. لكن الذين يرون حقيقة النشأة المعتمدة يرون العالم على حقيقته، ويفهمون مبدأ دوكها الذي قاله بوذا، ويفهمون نشأة تلك المعاناة وكيفية إيقافها . «مادياماكا كاريكا»، الفصل 24 (فقرة معادة صياغتها)
ملحوظة:
النقطة الأخيرة تمثل تطابقا في معنى ما يقوله ناجارجونا مع ما قاله بوذا في الحقائق النبيلة.
ويكتب ناجارجونا عن «خواء الخواء»؛ وهو وصف وليس مستوى أساسيا. علاوة على ذلك، لا يوجد فرق وجودي بين مستويات الحقيقة؛ فالفارق الوحيد هو فارق تجريبي. ولأنه طالما ظل الفرد جاهلا بطبيعة الأشياء، سيظل خاضعا للتجارب ولمعايير الحقيقة الاصطلاحية. وعندما يكتسب المرء البصيرة، سيرى الاصطلاحية ويفهم الخواء. وفي تناقض كامل مع مؤولي النصوص الفيدية ومع كتابات نيايا فايشيشيكا، يرى ناجارجونا أن ما تفترضه اللغة ليس حقيقة تعددية على نحو متسام، بل إنها تفترض عالما يجب «النظر إلى ما وراءه» إذا أراد المرء أن يدرك الحقيقة المطلقة.
إيقاف التفريق اللفظي
فكرة «الكيان» و«عدم الكيان»، و«الوجود» و«عدم الوجود»، في حد ذاتها جزء من توجه خاطئ تجاه العالم التجريبي للحقيقة الاصطلاحية؛ ولذلك فليس الإيجابي ولا السلبي حقيقيا. وليس من الممكن أن يكون لأي شيء هويتان في الوقت نفسه تحت أي ظرف، فكونه شيئا يتعارض مع كونه شيئا آخر. وكون الشيء «ليس الشيء الأول وليس الآخر» يكون له معنى فقط إذا كانت الفرضيات الأولية صحيحة، وهي ليست كذلك في هذه الحالة. وليس صحيحا تحت أي مستوى من مستويات الصحة التفكير في الأشياء باعتبار أنها موجودة أو غير موجودة، أو موجودة وغير موجودة، أو ليست موجودة وليست غير موجودة؛ فمثل هذه القناعات خاطئة على المستوى الاصطلاحي وغير ممكنة التطبيق على المستوى المطلق. ونظرا لأن كل الدارمات خاوية، فماذا يمكن أن يوجد ويتسم بأنه نهائي أو غير نهائي أو كلاهما، أو ليس أيا منهما؟ ماذا يمكن أن يوجد ويتسم بالأبدية أو الوقتية، أو كلتيهما أو لا شيء منهما؟ إن البصيرة المحررة تأتي مع إيقاف مثل هذه التفريقات اللفظية، فبوذا لم يدرس مطلقا أي شخص عن هذه «الأشياء»، بل درس التفريق اللفظي فقط. «مادياماكا كاريكا»، المجلد 11 (فقرة معادة صياغتها)
إن تطبيق «وسيلة المعرفة» الخاصة بناجارجونا يعد محفوفا بالمخاطر إذا حاول المرء أن يكون متسقا مع مستويي الحقيقة؛ فكل الأنشطة الحسية والفكرية تحدث فقط على المستوى الاصطلاحي؛ ولذلك فلا شيء يأتي لنا من خلال هذا الإطار يمكن الاعتماد عليه. لكن ناجارجونا مصر على أن مستوى الحقيقة الاصطلاحي هو النطاق الذي فيه أو من خلاله نكتسب البصيرة، وأن واقعية ذلك المستوى هي ذات معنى وفقا للمعايير الخاصة لهذا المستوى. وفي هذا السياق، يمكن للمرء أن يرى أهمية المنطق بالنسبة له، إلا أن ناجارجونا، على النقيض من المنهجية المنطقية لمدرسة نيايا، يستخدم المنطق للتقليل من شأن الفرضية الأساسية التي تستند إليها كل وسائل المعرفة الخارجية الأخرى؛ أي الحقيقة الخارجية للعالم التجريبي. وسواء أكان ناجارجونا يحاول فقط التقليل من وجهات نظر غيره ويجعلها سخيفة على هذا النحو، أم أنه استخدم المنطق أيضا لإثبات فرضيته القائلة بالخواء؛ فقد كان هذا إشكالا قسم أتباعه. وعلى هذا الأساس تأسست مدرستان فكريتان من مدرسة مادياماكا، وتناول هذين الموضوعين النقاد المتأخرون، من داخل التقليد البوذي وخارجه.
الرؤى التنويرية لبوذا (تذكير) (1) رؤية استمرارية حيواته السابقة التي قادت إلى حياته الحالية. (2) رؤية ميلاد وتكرار ميلاد الكائنات الأخرى في ظروف تحددها أفعالهم. (3) رؤية كيفية التخلص من أعمق الميول الاستمرارية المقيدة، وهذه الميول هي التالية: (أ) كل الرغبات الحسية. (ب) الرغبة في استمرار البقاء. (ج) الجهل. (د) «التمسك بالآراء». (بتصرف من المؤلف.)
العقل فقط
بعد قرنين من حياة ناجارجونا، ظهرت مدرسة مهمة لا تنتمي لفكر مدرسة المادياماكا، وكانت هذه المدرسة هي شيتا ماترا («العقل فقط») أو يوجا كارا («ممارسة اليوجا»). ارتبطت في مراحلها الأولى بأخوين اسماهما أسانجا وفاسوباندو، عاشا في القرن الرابع الميلادي، وسعى منهج هذه المدرسة إلى تصحيح تجسيد الدارمات التي قالت بها الأبهيدارما، لكنها اختلفت عن المادياماكا في أمرين واضحين: تمثل الأول في تركيزها على وجه التحديد على تحليل العمليات العقلية، وتمثل الأمر الثاني في اهتمامها بتقديم البوذية بطريقة رأت أنها أقل سلبية؛ فقد اعتقد البعض أن مبدأ الخواء الذي قدمته سوترات كمال الحكمة ومفكرو مادياماكا كان غير جذاب، ومن المحتمل أن يحمل دلالات عدمية خادعة ، وأنه يصرف الانتباه عن الممارسة الفعلية المتمثلة في فهم حالات التأمل بغية اكتساب البصيرة المحررة.
وعمد منهج يوجا كارا، كما هو واضح في أطروحتي «فيمشاتيكا» و«تريمشيكا» لصاحبهما فاسوباندو، إلى تحليل الأنواع المختلفة من «الحالة الذهنية»، أو «مجريات الوعي»، التي تمثل العالم التجريبي السابق لتنوير الفرد. وأجاب المنهج عن عدة أسئلة من بينها: ما الذي يحقق الاستمرارية في تلك الحالات الذهنية؟ كيف تعمل العملية الكارمية المتعلقة بتحمل عواقب أفعال الفرد؟ ما الذي يجعلنا جهلاء؟ ماذا يجب أن يحدث «كي يرى المرء الأشياء على حقيقتها»؟
وقالوا لنا إن المشكلة الأساسية تتمثل في أن العالم الذي يتشارك البشر في العيش فيه متمثلا في ثنائية الذات والآخر، والذاتية والواقع المادي، و«المدرك» و«المدرك»؛ هو تكوين ذهني، كونته «تحولات الوعي»، وهذا التكوين مفروض على واقع حقيقته ليست كما تبدو عليه. وتسري الاستمرارية؛ لأن تحولات الوعي تبدو كما لو كانت تزرع «بذورا» في «مخزن الوعي»، وتلك البذور تثمر في وقت لاحق في المستقبل، عندما تنتج التكوين الذهني الذي يكون في ذلك الوقت مشروطا على نحو مترابط. وعندما يكون المرء غير متنور يكون لتجربة هذه العملية تركيبة الذاتية والواقع المادي المألوفة بالنسبة لنا، ويسري هذا التصور لأن مخزن الوعي «ملوث» بالجهل؛ الجهل بالطبيعة الحقيقية للواقع. وتشكل هذه الملوثات، ذات الأنواع الكثيرة، السمات المختلفة لتجربتنا المشتركة، بالإضافة إلى السمات الخاصة بالفرد؛ نظرا لإثمار «بذور» الكارما الخاصة به.
ومن أجل التغلب على الاستمرارية، واستنفاد وقود مخزن الوعي، إن جاز التعبير، يجب أن يخترق المرء التركيبة المعتادة للعمليات الذهنية المتمثلة في ثنائية الذاتية والواقع المادي، ويتم ذلك من خلال المبادئ التأملية («يوجا كارا»)، ومن خلال فهم أن التجربة لها «ثلاثة جوانب»: الجانب الأول المألوف للغاية بالنسبة لنا هو الجانب «المكون»؛ عالم الذاتية والواقع المادي المكون ذهنيا، وفي هذا المستوى تكون السمة الأساسية هي سمة التجسيد، فهو عالم «واقعي على نحو مكون». وجانب «التبعية» هو النشاط الذهني الأساسي الذي يمكن القول إن «البيانات الخام» للتجربة تخضع فيه للتحول، وهذا الجانب لا يمكن إنكاره؛ فالتجربة هي الأرضية المشتركة أو الحقيقة الأساسية المقبولة لدى كل البشر التي لا يمكن لأي قدر من الحجج الفلسفية أن يدحضها. والجانب «المحسن» هو الغياب التام لأي تكوينات ذهنية تعمل في ظل «تدفق» التجربة.
جوانب التجربة الثلاثة لفاسوباندو (1) «الجانب المكون»: عالم الذاتية والواقع المادي اليومي، الذي يضفيه نشاطنا الذهني على الواقع، ذلك الواقع الذي ليست حقيقته كما تبدو عليه؛ لأن عملياتنا الذهنية الخاصة هي ما تفسر هذا التكوين على أنه الحقيقة نفسها. (2) «الجانب التابع»: «البيانات الخام» الأساسية لتجربة الذاتية والواقع المادي التي تخضع للتحولات الذهنية وتصبح الجانب المكون. (3) «الجانب المحسن»: تدفق البيانات التجريبية غير المتأثرة بالتحولات الذهنية. وهذا يجعل استبصار الواقع يظهر على حقيقته دون أي تكوين من الذاتية والواقع المادي.
ومن المهم ملاحظة عدة سمات في هذا التفسير؛ أولا: عن طريق شرح كيفية نشأة عالم الموضوعية من خلال تحولات الوعي، ينكر التفسير ادعاءات مفكري نيايا فايشيشيكا وغيرهم ممن يقولون بأن إدراك الشيء هو ما يصنع الوجود المتسامي لهذا الشيء. ثانيا: أنه يشرح حقيقة الاستمرارية التجريبية بطريقة «إيجابية» ومقبولة نفسيا؛ وذلك من خلال التأكيد على أن نقطة بداية حقيقة التجربة مألوفة بالنسبة لنا وليست مجردة. وكان هذا الأمر مهما في هذا السياق المحير نفسيا (وغير المقبول بالنسبة للبعض)؛ سياق مبدأ «الخواء» كما قدمته مدرسة مادياماكا على نحو أساسي. ثالثا: من وجهة النظر الوجودية، يمكن فهم هذا الأمر إما على نحو مجرد أو على نحو واقعي، وهذا يعني أن «بذور» الكارما و«مخزن الوعي» من الممكن اعتبارهما إما استعارات أو كيانات فعلية، والأمر نفسه ينطبق على فكرة «العقل فقط» ككل. ويمكن أن تتضمن البصيرة المحررة مجرد إيقاف الأنشطة الذهنية التي، نظرا لاستمرارها وقتا طويلا، توضح مجازيا بهذا التعبير «مخزن الوعي»؛ كما لو كانت عملية قيد الإنجاز؛ أو ربما تعني أن الكيان الفعلي «لمخزن الوعي» قد أصبح مطهرا، وأصبح لديه وجود مطهر مستمر. وبالمثل، فإن «تحولات الوعي» قد تعني آليات عمل الأنشطة الذهنية التي يشهدها كل شخص، تلك الأنشطة التي تنتمي لنوع غير محسوس تماما، أو ربما تشير إلى الوعي بوصفه، إلى حد ما، «مادة ذهنية» تتحول إلى عالم التجربة على نحو أكثر واقعية، لتصبح أساسا واقعيا. ومصطلح «العقل فقط» مناسب لكلا المنهجين المتمثلين في الحاجة إلى فهم الأنشطة الذهنية للفرد من أجل اكتساب البصيرة المحررة؛ وكذلك الزعم القائل إن العالم التجريبي يتكون من مادة ذهنية.
التصورية
يقضي المذهب التصوري، كنوع من الوجودية، بأن «كل ما هو موجود هو العقل». وهذا يعني أن نوعا من «المادة العقلية» يشكل الطبقة الأساسية للواقع، وأن هذا الواقع «يتحول» بطريقة ما عن طريق الأنشطة العقلية؛ ولذلك فإن كل ما نراه ليس هو الحقيقة؛ لأن ما نراه يتجسد في هيئة أشياء متفاوتة في درجات الكثافة؛ فنحن غير مدركين «للمادة العقلية» فحسب. ونظرا للوجود الفعلي «للمادة العقلية»، فإن المدرسة التصورية لا تقول: «لا يوجد أي شيء.» ولهذا السبب قد يكون من التضليل وصفها بأنها «وهم». إن التصورية هي النقيض التام لكل أشكال الواقعية التعددية؛ فالواقعية التعددية تؤكد أن تعددية ما نراه هي حقيقة متسامية، بينما تنفي التصورية أن تكون هذه هي حقيقة الأمر.
وانقسم بوذيو يوجا كارا أنفسهم، وكذلك الأكاديميون المتخصصون في البوذية، حول هذا الموضوع الأخير. وفي إطار التقليد أدى اختلاف المناهج إلى تأسيس مدارس مختلفة من بوذية يوجا كارا. واختلف الأكاديميون حول ما إذا كان التقليد تصوريا دائما في نظرته الوجودية (يوجد مادة ذهنية فحسب)، أم أنه بدأ كاستقصاء للأنشطة الذهنية منحيا الموضوعات الوجودية جانبا، وتطور إلى مدرسة تصورية لاحقا. والنصوص الأولية غامضة، وقابلة للتأويل على أي من الوجهين وعلى نحو مقنع منطقيا. ورغم ذلك، فجدير بالملاحظة أنه لو كان فاسوباندو يشير إلى استقصاء غير وجودي لعمليات معرفية ذاتية، لأصبح مشتركا في أمور كثيرة مع تعاليم البوذية القديمة ومع زعم ناجارجونا القائل بالتفريق اللفظي، رغم تقديم فاسوباندو له بطريقة مختلفة. وعلى النقيض من ذلك، فلو كان فاسوباندو يسعى إلى تأسيس وجودية تصورية، فسوف يمثل هذا تغييرا كبيرا في الاتجاه .
تطورات في الفكر البوذي
من تعاليم «بوذا»: «كل الدارمات «ليست ذوات»، توجد طبيعة معتادة للأشياء، فكل الأشياء تعتمد في نشأتها بعضها على بعض.»
حاول مفكرو «الأبهيدارما» فهم مزيد من الأمور المتعلقة بطبيعة الواقع فيما يتعلق بالدارمات.
صنف مفكرو «أبهيدارما تيرافادا» الدارمات إلى 28 نوعا «ماديا» و52 نوعا «ذهنيا»، بالإضافة إلى الوعي. وكانوا يهدفون إلى أن يساعد هذا التصنيف في تحليل الدارمات أثناء التأمل.
قال «مفكرو مدرسة سارفاستيفادا» إن كل الدارمات موجودة في حالات الماضي والحاضر والمستقبل. وعلى هذا النحو، فإن للدارمات نوعا من الوجود اللحظي، أو نوعا من «الكيان الذاتي».
مع مرور الوقت أصبحت دارمات مفكري «الأبهيدارما» مجسدة؛ إذ اكتسبت كيانا واقعيا ومستمرا بوصفها «أشياء».
قال «ناجارجونا» إن كل الأشياء ليست «خاوية» فحسب، بل إنه من غير الممكن أن ينشأ أو يحدث أي كيان مستقل بأي طريقة على الإطلاق؛ ولذلك فإن «الخواء» طريقة أخرى للإشارة إلى النشأة المعتمدة. علاوة على ذلك، فالعالم كما نعرفه تدعمه فقط النشأة المعتمدة؛ وإنكار ذلك يعد إنكارا للعالم.
سعى فكر «يوجا كارا» إلى تقديم ماورائيات الخواء المتعلقة بالعمليات الذهنية «التكوينية» للعالم كما نعرفه.
قدم فاسوباندو وأتباعه في تقليد يوجا كارا إسهاما عظيما للفترة التي ازدهر فيها الخطاب البوذي، فبداية من ناجارجونا وعلى مدار عدة قرون، قدم المفكرون البوذيون بعض الأفكار والآراء النقدية المبدعة والمعقدة للغاية في المجتمع الهندي. وبصفة خاصة، فقد قدموا تحديا جادا لأولئك الذين ينسبون الواقعية إلى العالم كما يبدو لنا من خلال تصوراتنا الحسية، وكما يبدو للوجود المستقل لذواتنا كمدركين. وبدلا من ذلك، كان البوذيون مستعدين لاتباع النتائج المنطقية للبدء بالتشكيك في مصداقية العملية المعرفية كوسيلة للمعرفة المؤكدة مهما كانت تلك النتائج غريبة. وبعيدا عن الأسلوب بالغ التعقيد والكتابة المبتكرة عن الخواء، عند الدفاع عن المبدأ الذي رأى أنه المبدأ الصحيح لبوذا، فما أسسه ناجارجونا للبوذية هو قوة الحجة المنطقية في دعم موقفها وآرائها الناقدة للآخرين. وأدى هذا إلى ازدهار تقليد ما يطلق عليه «المنطق البوذي»، وفيه تناقش البوذيون مع الآخرين وساقوا الحجج المنطقية والتفنيدات حول أمور متعلقة بالدارمات وطبيعة الوجود على مستوى تقني وبالغ التخصص في الناحية الفكرية. وكان من أبرز علماء المنطق البوذيين ديناجا، ودارماكيرتي، النابغة الذي وضع قواعد الجدل المنطقي في النقاش مع مفكري نيايا المتأخرين وغيرهم. وعلى الرغم من أن «المسلمات» والأهداف قد تكون متناقضة تناقضا جذريا بين البوذيين وأتباع المدرسة الواقعية، فإن المناظرات الخاصة بكل منهما كانت ذات معنى واهتمام متبادلين؛ لأن كلا منهما اتبع القواعد الموضوعة بينهما.
الفصل السابع
الشاهد والمشهود: يوجا وسانكيا
اليوجا: التناغم والسيطرة
منذ مرحلة مبكرة للغاية في التقليد الهندي والناس يمارسون أنواعا مختلفة من التمارين الذهنية أو التدريبات التأملية، كثيرا ما يشار إليها بمصطلح عام هو «اليوجا». وتوجد أقدم الإشارات البرهمية الدالة على اليوجا في كتابات الأوبانيشاد، ولكن حتى في ذلك الوقت كانت هذه الكتابات تشير إلى ممارسة مرت في الغالب بمراحل تطور على مدار فترة كبيرة. ومع مرور الوقت، تعلم الأشخاص أنواعا مختلفة من اليوجا، لكن هذه الأنواع تشترك في المبدأ نفسه. وكلمة «يوجا» مشتقة من الجذر الفعلي السنسكريتي «يوجي» ويعني «الربط»؛ أي ربط شيء بآخر. والفكرة بالنسبة لكثير من الأشخاص تكمن في «دمج» أو «توحيد» إما الذات/الروح (أتمان) مع الجوهر الشامل (براهمان)، أو الروح مع الرب في الأنظمة الإيمانية. ويمكن أن تكمن الفكرة أيضا على نحو أكبر في المفاهيم المرتبطة المتمثلة في «السيطرة» أو «التناغم»، أو «النظام» على الصعيد الداخلي، أو ما يمكن أن نطلق عليه «وحدة البصيرة»؛ فالوجودية العامة يمكن أن تختلف من نظام إلى آخر، لكن المبدأ الأساسي المشترك هو أن الحياة العادية تتسم بأنها «مضللة» بسبب حواسنا، وبسبب النشاط المعرفي اليومي الصاخب المخادع؛ ولذلك فإن ممارسة اليوجا تكون بهدف اكتساب السيطرة والهدوء، وفي بعض الأنظمة تكون بهدف اكتساب البصيرة المعرفية.
تأريخ زمني
عام 2000 قبل الميلاد تقريبا:
التقليد القرباني الفيدي.
800-500 قبل الميلاد تقريبا:
كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام 500 قبل الميلاد:
وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي من التقليد البرهمي جنبا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد:
معتنقو التقليد البرهمي والمارقون منه.
485-405 قبل الميلاد تقريبا:
تمثل هذه الفترة حياة بوذا.
من القرن الرابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
النحويون والمؤولون الأوائل يضعون معايير لما يجب «النظر إليه».
من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
فايشيشيكا ونيايا يجمعان بين نظرة وجودية تتصف بأنها واقعية تعددية وبين طريقة رسمية للتوصل للمعرفة المؤكدة من خلالها.
من القرن الرابع إلى القرن الأول قبل الميلاد:
ظهور مدارس بوذية مختلفة.
من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي:
تطور أبهيدارما البوذية.
من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي:
ظهور بوذية الماهايانا والسوترات القديمة «براجنياباراميتا» («كمال الحكمة»).
القرن الثاني الميلادي تقريبا:
تركيز مدرسة مادياماكا كاريكا لصاحبها ناجارجونا على «خواء» (شونياتا) كل الظواهر.
القرن الرابع الميلادي تقريبا:
المدرسة البوذية شيتاماترا/يوجا كارا تركز على العمليات الذهنية.
القرن الثالث الميلادي:
سوترات اليوجا تمثل ما يعرف باسم «اليوجا الكلاسيكية». وعلى الرغم من أنه يقال إن هذه السوترات كتبت على يد أحد الأشخاص الذين يحملون اسم باتانياجالي، فإنه لا يعرف مؤلفها على نحو مؤكد في واقع الأمر. وتمثل «سوترات اليوجا» منهج تدريب ذهني مفصلا يهدف لاكتساب البصيرة المحررة، فهو منهج متطابق مع وجودية سانكيا.
من القرن الرابع الميلادي إلى القرن الخامس الميلادي:
إيشفاراكريشنا يدون سانكيا الكلاسيكية في كتاباته «سانكيا كاريكا». والبشر محكوم عليهم بالميلاد المتكرر؛ لأنهم لا يدركون أن ما يعتبرونه وعيا هو لاوعي، وأن الوعي يكمن فقط في «الذوات» (بوروشا) المنفصلة وجوديا وغير النشطة. والهدف هو اكتساب البصيرة في هذه الثنائية.
تمثل دارشانا اليوجا الكلاسيكية في نص يعرف باسم «سوترات اليوجا». وتنسب هذه السوترات عادة إلى رجل باسم باتانياجالي، وفي واقع الأمر، فإن مؤلف «سوترات اليوجا» غير معروف. وعلى أية حال يوجد العديد من الأشخاص الذين كانوا يحملون اسم باتانياجالي (من بينهم عالم النحو المذكور في الفصل الرابع)، ويضم النص منهج يوجا شاملا. وفي واقع الأمر، يبدو أن المنهج كان الهدف الأساسي للنص، وقد تضمن إشارات إلى الوجودية التي تعتنقها هذه الفلسفة فقط من أجل تبرير أو تفسير غرض ونظام المنهج. وعلى الرغم من أن اهتمام اليوجا الكلاسيكية بموضوعات مشابهة وتفاصيل مماثلة، فتقريبا لم ترد في النص أية إشارة لأنظمة الفكر الأخرى، ولو كان أنصار اليوجا الكلاسيكية قد دخلوا في جدل مع الآخرين، فالنص لا يسجل تلك المواجهات. إن النص في المقام الأول هو كتيب إرشادات عن ممارسة اليوجا، وبلا شك فقد توصل إلى المعايير والصيغ المختلفة للممارسة من داخل تقليد ممارسة طويل على النقيض من الجدل. فالأفكار الفلسفية المجردة تعد أقل إثارة لاهتمام ممارسي اليوجا مقارنة بالرؤى التأملية، وتعد الكفاءة في الممارسة أهم بالنسبة لهم من إقناع الآخرين. وربما تعد هذه الدارشانا أكثر من غيرها مثالا على أن «الفلسفة» الهندية جزء من تقليد كان هدفه وغرضه الأساسي الحصول على الخلاص.
هدف اليوجا الكلاسيكية
تستهل سوترات اليوجا بذكر هدفها فتقول:
والآن مع تفسير اليوجا: اليوجا هي إيقاف كل أنشطة العقل («شيتا فريتي نيرودا»: إيقاف نشاط العقل). «يوجا سوترا»، المجلد 1
أنشطة العقل («شيتا فريتي») لها أنواع كثيرة مختلفة تندرج تحت فئات عامة؛ هي: المعارف الصحيحة، والمفاهيم الخاطئة، والتصورات، والنوم والذاكرة. ووسيلة معرفة المعارف الصحيحة هي الإدراك الحسي، والاستنباط، وشهادة التقليد. والمفاهيم الخاطئة هي معارف غير صحيحة، غير مبنية على أي حقيقة واقعية. والتصورات هي معارف مبنية فقط على أنشطة ذهنية مجردة، ويمكن القول إنها الميل إلى تصور الحقيقة فقط من خلال «تجسيد الألفاظ». وهذا الأمر يتداخل بشدة مع رؤية الحقيقة كما هي في واقع الأمر. والنوم أيضا له نشاطه الذهني الخاص به، والذاكرة هي أن نحمل معنا كل ما شهدناه، وتتضمن قدرا أكبر من النشاط الذهني. ويتحقق إيقاف كل هذه الأنشطة من خلال ممارسة اليوجا والانفصال (أي السيطرة)؛ فالتجارب والحالات الذهنية من قبيل المرض والشك واللامبالاة والكسل والزيف والفشل وعدم الاستقرار كلها تشتت الوعي وتشكل عوائق أمام تحقيق إيقاف أنشطة العقل، ويصاحب الألم والاكتئاب وارتعاش الأطراف وسوء التنفس تلك العقبات. والطريق للتخلص من هذه العقبات يكمن في تركيز الذهن على شيء واحد، وممارسة النظر للخارج (أي عدم التركيز على الذات بالمعنى الأناني) واللطف تجاه الآخرين، والتنفس السليم، والرزانة العقلية. (هذا التفسير معادة صياغته من «يوجا سوترا»، المجلد 1.)
من هنا يمكن أن نرى أن مؤلف النص ينفي أن الحقيقة المطلقة مرتبة بالطريقة التي ندركها بها تبعا لتجربة العالم الظاهر. والأنشطة الذهنية في العموم تخلق مشتتات تشوه على نحو بالغ الإدراك الواضح للحقيقة وتصرفنا بعيدا عنه. ويدعم منهجية اليوجا ذلك الهدف المتمثل في التفريق بين أن «الناظر» الحقيقي أو «الذات» الحقيقية، المعروفة في هذا النظام باسم «بوروشا»، منفصل تماما عن العالم «المرئي» أو «الظاهر» الذي يعرف باسم «براكريتي». وإلى حين تحقق ذلك التفريق يعتقد كل شخص على نحو خاطئ أن «الناظر»، حيث يكمن الوعي، يعد جزءا من الظاهر. إننا نخلط بين «ذاتنا» الظاهرة غير الواعية وبين «ذاتنا العليا»، في حين أن الذات العليا مختلفة تماما؛ فالعالم الظاهر هو عالم نشاط غير واع، والوعي ينتمي إلى ذوات «بوروشا»، وهي أيضا ذوات خاملة. إن «الربط» بين بوروشا وبراكريتي هو ما يسبب الوهم؛ والتفريق الذي يحدث عند إيقاف أنشطة الذهن المشتتة، يؤدي إلى انفصالها. وبهذه الطريقة تتحرر الذات الحقيقية من أسر الميلاد المتكرر، الذي يستمر ما استمر ذلك الربط قائما. إن الذات الحقيقية (بوروشا) هي تلك الحقيقة العليا و«الأصدق»، وإدراك هذه الحقيقة هو «الصالح الأعلى» الذي يمكن لكل البشر أن يطمحوا إلى تحقيقه. ومعرفة الطبيعة الحقيقية للذات وحقيقة البوروشا الجوهرية للمرء هي الاهتمام المحوري «لسوترات اليوجا». وعلى الرغم من جهلنا بالمكان الذي يكمن فيه الوعي، فإن اليوجا الكلاسيكية ترى أن العالم الظاهر ليس حقيقيا. إن براكريتي - العالم الظاهر - موجود على نحو مستقل من الناحية الوجودية، كما هو الحال مع الذوات. إلا أن براكريتي هو عالم التشتت عن الحالة الحقيقية و«الأعلى» للأشياء، وعالم عبودية الميلاد المتكرر؛ ولذلك فالهدف هو التفريق بين الذاتية وبين براكريتي. وممارسة الشخص المضلل لليوجا ضرورية لسببين؛ أولا: يحدث الجهل فقط على المستوى الظاهري. ثانيا: في المستوى الظاهري يحدث التفريق. ونظرا لأن بوروشا خاملة فإنها لا تفعل شيئا ولا تستطيع فعل شيء؛ لأن دورها هو دور الشاهد فحسب.
إيشفارا - الإله - في اليوجا الكلاسيكية
تخبرنا اليوجا سوترا الموجودة في المجلد الأول بأن هدف التفريق يمكن أيضا تحقيقه من خلال «عبادة الإله (إيشفارا)». ويقال عن هذا الإله إنه «بوروشا مميزة»، لا يتأثر بأنشطة الكارما، عليم بكل شيء، ومعلم الحكماء القدماء. أما ما تعنيه هذه الآيات بالضبط فهو أمر غير واضح، ولطالما ثار الخلاف بين الأكاديميين حول مكانة هذا الإله؛ فهل هو كيان متسام على نحو يمنح اليوجا الكلاسيكية جانبا إيمانيا؟ هل تشير الآيات إلى حقيقة أن منهج اليوجا الكلاسيكية سار على خطاه أتباع من طوائف دينية؟ هل إيشفارا نموذج مجرد؟ هل توضح الآيات على نحو ميتافيزيقي ما سيجده كل فرد إذا «نظر داخل نفسه»؛ لأن بوروشا كل شخص هي «إلهه»؟ في التقاليد الدينية الهندية يمكن أن يعني التعبد في بعض الأحيان «الإصرار على تحقيق الهدف» وليس «العبادة»؛ ولذلك ليس بالضرورة أن يكون معنى التعبير في هذا الصدد هو عبادة إله فعلي معين.
تتضمن معظم «سوترات اليوجا» معلومات وصفية عن الحالات الذهنية المختلفة، والطرق المختلفة للسيطرة على الأنشطة الذهنية، والمستويات المختلفة لاكتساب تلك الحالات الذهنية، والأمور التي تسهم في إيقاف هذه الأنشطة والأمور التي لا تسهم في إيقافها، وهكذا. وتتحدث بعض هذه المعلومات عن طريقة إدراك الذات، باعتبارها «الذات» المزيفة في مستوى براكريتي الظاهري، وكذلك باعتبارها بوروشا العليا المميزة عن الذات الظاهرية. وكثير من هذه المعلومات معلومات تقنية في سياقها، ولا تعني الكثير للأشخاص الذين ليس لديهم خبرة في الحالات التأملية. وقد وصف أحد الأكاديميين الغربيين المتخصصين في اليوجا الكلاسيكية هذه السوترات بأنها: «في المقام الأول خرائط مفيدة لعملية الرحلة الداخلية»، فهي توضح على نحو تفصيلي أن النص لا يمثل في الأساس موقفا فلسفيا أو وجوديا واضحا، بل هو سرد لممارسات تأملية من خلالها يمكن السيطرة على كافة الأنشطة الذهنية التي تعيق التمييز بين الذات الظاهرية والذات العليا الحقيقية.
سانكيا: الأدلة التي تشير إلى الثنائية
على النقيض من اليوجا الكلاسيكية ، يتضمن النص الأساسي لسانكيا الكلاسيكية على نحو أكثر وضوحا تفسيرا مفصلا لموقفها الوجودي ومناقشة واضحة لوسائلها في اكتساب المعرفة. ويقال إن هذا النص المعروف باسم «سانكيا كاريكا» كتبه إيشفاراكريشنا بين عام 350 وعام 450 ميلاديا. ويتضح من الأدلة المأخوذة من مصادر متنوعة أن فكر سانكيا له تاريخ قديم طويل يعود إلى وقت كتابات الأوبانيشاد، وأن هذا النص ربما اختلف في التفاصيل اختلافا كبيرا من وقت لآخر مقارنة بما يعتبر حاليا النص الرئيسي للتقليد. ورغم ذلك، فلم تبق أية نصوص قديمة لفكر سانكيا.
وللمصطلح السنسكريتي «سانكيا» عدة معان، لكنه في سياق هذا التقليد يعني شيئا من قبيل «العد»؛ فهو يشير إلى فكرة أن الحقيقة التي تزعم المدرسة أنها تعلمها تعرف من خلال عد؛ بمعنى تحليل وتمييز الفئات التي تكون العالم الظاهر. وتستهل سانكيا كاريكا بقول ما يلي: «بسبب ألم المعاناة تنشأ الرغبة في معرفة كيفية التغلب عليها.» وبعد الإفصاح على نحو واضح عن هذا الهدف الخلاصي، تستطرد لتوضح أن المطلوب هو نوع خاص من المعرفة التمييزية، التي يمكنها إدراك «الظاهر وغير الظاهر والعارف». وتبين الآيات التالية الفرق الوجودي بين البوروشات (العارفين، وهم متعددون من الناحية العددية، ومنفصلون من الناحية الفردية، لكنهم متطابقون بعضهم مع بعض من الناحية الوجودية) وبين براكريتي (كل من العالم الظاهر والعالم غير الظاهر، لكنهما من الناحية العددية واحد). وعلى غرار اليوجا الكلاسيكية، فإن سانكيا ذات وجودية ثنائية على هذا النحو؛ فالواقع يتكون من بوروشات (ذوات) وبراكريتي (عالم). ويعد براكريتي في حالته غير الظاهرة «مسلمة» وجودية غير مخلوقة، ويصبح ظاهرا (نسخته «المخلوقة») عند ارتباطه ببوروشا (ولا تشرح السوترات كيفية حدوث ذلك). ومن النقاط المهمة التي تدعم ثنائية سانكيا قولها إن الشيء الذي يصبح ظاهرا كان موجودا في السابق في عالم براكريتي على نحو غير ظاهر؛ وهذا يعني عدم خلق أي شيء جديد. ويشار إلى وجهة النظر تلك، التي سنراها مرة أخرى في هذا الفصل، بمصطلح «ساتكاريافادا»، وهي نظرة تقول إن النتيجة توجد مسبقا في المسبب. وفي سانكيا كاريكا تقول هذه النقطة إن العالم الظاهر موجود فعليا من الناحية الوجودية وإنه عالم واحد فقط من الناحية الوجودية. والأسباب المبررة لمبدأ ساتكاريا موجودة في الآية التاسعة على النحو التالي:
لأن عدم الوجود يعني عدم الإنتاج؛
لأن المسبب المادي ضروري؛
لأن الأشياء لا يمكن أن تنشأ عبثا من أشياء مختلفة؛
لأن الأشياء يمكن فقط إنتاجها من الأشياء القادرة على إنتاجها؛
لأن هذه هي طبيعة السببية.
تضرب الآية مثالا على أهمية الاستنباط كوسيلة للمعرفة لدى مدرسة سانكيا. والمثال الآخر هو استنباط ضرورة وجود تعددية للبوروشات؛ «نظرا لوجود تنوع في الولادات والوفيات والأنشطة؛ نظرا لحدوث أشياء مختلفة في أوقات مختلفة؛ نظرا لأن الناس لديهم سمات بنسب مختلفة» (سانكيا كاريكا، المجلد 5).
تركيبة الحقيقة لدى سانكيا «براكريتي» «بوروشا»
غير ظاهر/ «بودي» «أهانكارا»
العقل
ظاهر (المميز) (الصانع الذاتي)
5 أعضاء حسية («ساتفا»/
5 أعضاء للفعل «راجاس»/
5 عناصر دقيقة «تاماس»)
5 عناصر ضخمة
ذوات بوروشا:
متطابقة من الناحية الوجودية لكنها متعددة من الناحية العددية؛ إنها أبدية، غير متغيرة، خاملة، وهي شهود واعية.
براكريتي:
يختلف من الناحية الوجودية عن ذوات بوروشا؛ فهو أبدي ومتغير ونشط وغير واع.
براكريتي:
يتسم بثلاث صفات هي: الخير، والطاقة أو الشغف، والجمود. وتجتمع هذه الصفات بنسب مختلفة في كل أشكال العالم الظاهر.
أما وسائل المعرفة الأخرى التي تقبلها فهي الإدراك والشهادة الموثوقة. وتعرف الإدراك بأنه «التيقن الانتقائي من أشياء حسية معينة» (سانكيا كاريكا، المجلد 5)؛ وهذا يعني أن أوجه الإدراك «العادية» ليست كلها صحيحة. وترتبط الشهادة الموثوقة بالتراث المتخصص للتقليد الذي يعود إلى كتابات الأوبانيشاد باعتبارها المصدر الأساسي. ورغم ذلك، فإن الاستنباط والإدراك لهما الأسبقية على الشهادة الموثوقة، وعندما تبدو الشهادة الموثوقة غير منطقية تكون الغلبة للاستنباط والإدراك. ومثال ذلك يمكن رؤيته في استخدام الاستنباط لإثبات تعددية ذوات بوروشا، بدلا من قبول زعم كتابات الأوبانيشاد القائل بأن الذات (أتمان) متوحدة مع الجوهر الشامل المسمى «براهمان»، كحقيقة مسلم بها.
الصفات والفئات والتمييز
عالم «براكريتي» كله «يخضع لتأثير» ثلاث صفات أساسية؛ «سمات» سانكيا كاريكا المذكورة في المجلد الخامس، وهي مترجمة ترجمة غير دقيقة عن السنسكريتية ، فأصبح معنى هذه الصفات هو: الخير، والطاقة أو الشغف، والجمود. وهذه الصفات الممزوجة بنسب متفاوتة والموجودة في كل كائن أو شيء، تؤدي إلى «الإظهار»، و«التنشيط»، و«التقييد»؛ من أجل السيطرة، والدعم، والتفاعل، على التوالي، بعضها مع بعض. وعلى هذا النحو فإنها توضح كيف توجد فئات أو أنواع مختلفة، وكيف توجد اختلافات بين الناس وبين الأشياء المنتمية للنوع نفسه. ومن أجل حدوث التمييز المؤدي للتحرر، لا بد ألا يوجد عدم توازن في هذه الصفات.
بالإضافة إلى هذه الطبيعة الثلاثية لعالم براكريتي، فإن تجليه منظم وفقا للفئات المختلفة التي تتطلب تمييزا تحليليا من أجل التغلب على المعاناة. وأولى هذه الفئات هي «بودي»، وتؤدي كلا من دور «إرادة» الفرد، ودور ملكة التمييز؛ فهي التي سوف «تتيقن على نحو انتقائي من أشياء حسية معينة» في أثناء السعي للتحرر، وتميز البوروشا في نهاية الأمر. والفئة التالية هي «أهانكارا»، ومعناها الحرفي «الصانع الذاتي». إنها الذات، تلك الذات التي عندما تكون جاهلة ببوروشا تعتقد على نحو خاطئ أنها الذات الواعية للفرد. وبعد هاتين الفئتين الكبيرتين يأتي العقل، كفئة في حد ذاته، متبوعا بسلسلة من «المجموعات»: الأعضاء الحسية (العين، الأذن، الأنف، اللسان، الجلد)، وأعضاء الفعل (الصوت، اليدين، القدمين، أعضاء الإخراج، أعضاء التناسل)، و«العناصر الدقيقة» (الصوت، الملمس، الشكل، الطعم، الرائحة)، و«العناصر الضخمة» (الفضاء، الرياح، النار، الماء، الأرض).
إن «عد» («سانكيا») هذه الفئات يوضح كيف أن البشر المكونين من براكريتي (عالم ظاهر) غير واع يعتقدون أنهم واعون، ويوضح أيضا كيف يحدث التمييز داخل تلك الحالة غير الواعية. والصانع الذاتي هو المكون الذي يجعلنا نعتقد أننا واعون؛ فمن الناحية الظواهرية نشعر بهذا الصانع الذاتي كما لو كان هو مفكر الأفكار، وفاعل الأفعال، والفاعل المستقل في هذا العالم التجريبي. ورغم ذلك، فإن هذا الصانع الذاتي مغلف في براكريتي، وهذا الصانع الذاتي يعمل كما لو كان غمامة على العين تحجب عنا رؤية الحالة الحقيقية. وينجذب بودي، الذي يمثل إرادة الفرد وملكة التمييز لديه، نحو الصانع الذاتي القوي بصفته محل تركيز الحياة التجريبية للفرد، ذلك الصانع الذاتي البعيد تماما عن ذات البوروشا الموجودة دائما لكنها خاملة. وسيتطلب الأمر تضافر جهود ملكات الفرد (ويعتقد أن هذا سيكون على مدار الكثير من الحيوات) لإعادة توجيه اتجاه الأنشطة التمييزية للبودي. وينص «سانكيا كاريكا» في مرات عديدة على أن الهدف المتأصل للنظام بأكمله هو السعي إلى تمييز بوروشا. إلا أن هذا الأمر يتطلب التغلب على التأثير والمشتتات الناجمين عن الصفات غير المتوازنة، لا سيما سيطرة الشغف أو الجمود. وهذه الأمور تسبب كل أنواع الجهل والنقصان والتعلق والخنوع. ورغم ذلك، ففي نهاية المطاف من الممكن أن يحرر بودي الفرد نفسه من التعلق بتقلبات الحياة المتكررة على نحو كاف لأن يدرك أن ما يخلقه الصانع الذاتي هو مجرد ذات مزيفة أو ذات أقل شأنا، وأن الذات الحقيقية هي بوروشا، تلك الذات المنفصلة التي تنتظر في صمت أن تسنح الفرصة. وهذا الإدراك يحقق انفصال بوروشا عن براكريتي ويحرر الفرد من الميلاد المتكرر.
ونظرا لأن براكريتي يتصف بأنه أدنى شأنا من بوروشا، وحيث إن مفهوم الصانع الذاتي عن الذات يتسم بالضلال؛ فإنه مكتوب في «سانكيا كاريكا» حقيقة تتمثل في أن: «لا شيء مقيد؛ ولا أحد يولد مرة أخرى، ولا أحد يتحرر» (سانكيا كاريكا، المجلد 5). والسبب في ذلك هو أن براكريتي فقط هو من يخضع للتجربة المتكررة، وأن «ذوات» براكريتي الواعية إنما هي متوهمة، وفي واقع الأمر فميلاد مثل هؤلاء «الأفراد» لا يمثل ميلادا متكررا لذوات حقيقية؛ فذوات بوروشا تشهد فحسب.
ولا يقدم «سانكيا كاريكا» أية منهجية مفصلة لتحقيق ذلك التمييز. وثمة ذكر للحاجة إلى ممارسة التفكير السليم والدراسة السليمة، والحصول على التعليمات المناسبة، بالإضافة إلى الصفات الأخلاقية المثالية (سانكيا كاريكا، المجلد 5). وبدلا من ذلك المنهج، يقدم ذلك النظام الفكري هيكلا متوافقا مع ممارسة التمارين التأملية الخاصة باليوجا الكلاسيكية؛ فالمصطلحات المختلفة التي تستخدمها سانكيا للإشارة إلى الأوهام المشتتة عن إدراك الذات الحقيقية يمكن أن نراها بلا صعوبة في الجزء الذي يتحدث عن «أنشطة العقل» في «سوترات اليوجا».
تعقيب على براكريتي
ما يدعو للتساؤل هو ما إذا كان تجلي براكريتي الموصوف في «سانكيا كاريكا» يمكن أن يفهم على نحو مشروع باعتباره تجليا لعالم حقيقي ومتعدد، كما نراه في أغلب الأحيان. وقد اخترت ألا أترجم كلمة براكريتي في هذا الكتاب، لكن الترجمات الشائعة لهذه الكلمة تشمل كلا من: «الطبيعة» و«المادة» (بافتراض أنها تقف على النقيض من بوروشا التي تمثل «الروح» أو «الوعي»). وتشمل فئات التجلي كل العناصر الكلية التي ترتبط عادة بالمادة، ولا تستثني أي شيء يمكن أن يربطه المرء بالعالم التجريبي المحيط بنا. إلا أن الترتيب الذي يحدث به هذا التجلي يعد مناقضا لما يمكن للمرء توقعه إذا كان ذلك التجلي هو العالم التجريبي المأهول بأفراد بالمعنى الواقعي والتعددي، كما هو موصوف. وفي نص «سانكيا كاريكا» تأتي الملكات المعرفية أولا، ومن الصانع الذاتي تنبع تباعا سمات العالم الطبيعي. علاوة على ذلك، فإن الصفات الثلاث التي يتكون منها كل شيء - الخير، والطاقة أو الشغف، والجمود - هي صفات يمكن أن تعتبر إلى حد كبير صفات نفسية أكثر منها صفات مادية؛ ولذلك يتساءل المرء إذا ما كان ما تصفه السوترات هو عالما يعتمد على الإدراك - «عالم التجربة» الشخصية لكل فرد - كما هو موصوف في سياق التعاليم البوذية القديمة المذكورة في الفصل الثالث. إن تفسير سوترات «سانكيا كاريكا» على هذا النحو قد يسبب إشكالا في سياق الثنائية الوجودية التي تقول بها سانكيا - بالتأكيد لأن الثنائية مفهومة على نحو تقليدي تماما مثل وجهة النظر المعروفة في سوترات سانكيا كاريكا باسم ساتكاريا (التي تقول إن النتيجة موجودة مسبقا في المسبب) - ذلك لأن الثنائية الوجودية في هذا الصدد تفهم عادة على أنها تحول براكريتي بصفته مادة. بيد أن هذا التفسير قد يكون ملائما على نحو جيد للمشكلة الوجودية البشرية الموضحة، ومع الهدف الخلاصي المذكور في النص، كما أن توافق هذا التفسير مع طريقة اليوجا الكلاسيكية لن يتأثر. ومن الممكن أن يكون أصل غموض النص فيما يتعلق بهذا الموضوع يكمن في تقليد سانكيا الطويل القديم الذي لا نعلم عنه سوى القليل.
الفصل الثامن
الكلمة والكتاب
بهارتريهاري، وميمانسا، وفيدانتا
من القرن الرابع قبل الميلاد فصاعدا، أكمل المفكرون البرهميون التقليديون تراث أعمال القواعد اللغوية والتأويلية لمجموعة نصوص الفيدا التي وضعها شخصيات مثل بانيني وباتانياجالي، وجايميني، وبادارايانا. ومع تطور فروع مختلفة من الفكر الهندي، سعى كثير من هذه الفروع إلى الحفاظ على هيمنة الممارسات والنظرات العالمية شديدة التقليدية - سواء كان هدفها الأساسي هو طقوس وواقعية الكارما كاندا (القسم الفعلي) من الفيدا، أو كان هدفها هو المعرفة والجوهرية الكونية التي تقول بها كتابات الأوبانيشاد، التي مثلت كلا من نهاية الفيدا (فيدانتا) وجنيانا كاندا (القسم المعرفي منها). ورغم ذلك، لم يقدم أسلوب نحوي جديد ومختلف على نحو مميز إلا في القرن الخامس الميلادي، وأيضا تأسست في وقت لاحق أهم فروع الدارشانات الفلسفية وهما ميمانسا وفيدانتا. ومع مرور الوقت، ضمت كل من دارشانا ميمانسا ودارشانا فيدانتا تحت مظلتهما بعض التطورات المميزة التي قدمها مختلف المفكرين المهمين في تراثيهما، بالإضافة إلى أفكار تلك الشخصيات الرئيسية المذكورة فيما يلي.
بهارتريهاري، النحو مرة أخرى
خلال القرن الخامس الميلادي، قدم النحوي بهارتريهاري وجهة نظر تمثلت في أن فهم العلاقة بين اللغة السنسكريتية الكلاسيكية وبين الواقع ليس فقط طريقة للدفاع عن المبادئ الأساسية - يقصد في حالته هذه صحة الفيدا والعالم الذي تمثله - لكنه أيضا طريقة لاكتساب البصيرة المحررة. ورأى بهارتريهاري في الجمع بين هذين العاملين أن النحو ودراسة اللغة هما أسمى الأنشطة الدينية الفلسفية كلها، وزعم أنه من خلال فهم طريقة ارتباط اللغة السنسكريتية بالعالم الظاهر، من خلال الألفاظ الفيدية، يمكن للمرء التوصل إلى معرفة المطلق الشامل (براهمان)؛ فاللغة نفسها، بالمعنى الواقعي للغاية، هي صوت الحقيقة.
تأريخ زمني
عام 2000 قبل الميلاد تقريبا:
التقليد القرباني الفيدي.
800-500 قبل الميلاد تقريبا:
كتابات الأوبانيشاد القديمة.
بحلول عام 500 قبل الميلاد:
وجود الفرع الشعائري والفرع المعرفي من التقليد البرهمي جنبا إلى جنب.
مجتمع القرن الخامس قبل الميلاد:
معتنقو التقليد البرهمي والمارقون منه.
485-405 قبل الميلاد تقريبا:
فترة حياة بوذا.
من القرن الرابع إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
النحويون والمؤولون الأوائل.
من القرن الثالث إلى القرن الثاني قبل الميلاد:
فايشيشيكا ونيايا.
من القرن الرابع إلى القرن الأول قبل الميلاد:
ظهور مدارس بوذية مختلفة.
من القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن الثاني الميلادي:
تطور في الأبهيدارما البوذية.
من القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي:
بوذية الماهايانا وسوترات «كمال الحكمة».
القرن الثاني الميلادي تقريبا:
فلسفة «مادياماكا كاريكا» لصاحبها ناجارجونا.
القرن الرابع الميلادي تقريبا:
المدرسة البوذية شيتاماترا/يوجاكارا.
القرن الثالث الميلادي: «سوترات اليوجا» الخاصة باليوجا الكلاسيكية.
من القرن الرابع إلى القرن الخامس الميلادي:
إيشفاراكريشنا يدون الوجودية الثنائية لفلسفة سانكيا الكلاسيكية.
القرن الخامس الميلادي:
النحوي بارتريهاري يطور دارشانا تقليدية إلى جانب نشاطه الفلسفي المتمثل في التحليل اللغوي. وصرح بارتريهاري أن فهم دور اللغة يؤدي إلى معرفة البراهمان المحررة، وهذا هو جوهر الكون الموحد.
القرن السابع الميلادي:
ازدهار تقليد ميمانسا الذي يتكون من تأويلات الكارما كاندا (الجزء الفعلي) من نصوص الفيدا. والمكونات الرئيسية للتقليد تضم كوماريلا وبرابهاكارا.
القرن الثامن الميلادي:
مدرسة أدفايتا فيدانتا لصاحبها شانكارا، وتقوم هذه المدرسة على التأويلات «غير الثنائية» (أدفايتا) لكتابات الأوبانيشاد، «نهاية الفيدا» (والقسم المعرفي منها) المعروف باسم جنيانا كاندا.
القرن الحادي عشر الميلادي:
مدرسة فيشيشتادفايتا فيدانتا، «عدم ثنائية محدودة»، تقوم أيضا على تأويلات لكتابات الأوبانيشاد.
كان بهارتريهاري يعمل في وقت كان فيه الشاغل الأساسي للنحويين هو تحليل طبيعة مكونات الجملة بوصفها وسيلة تكتسب من خلالها المعرفة. ووفقا لبهارتريهاري، فإن الجملة الكاملة تتضمن وحدة معنى؛ فنطق الجملة ينقل على الفور معرفة صحيحة على نحو لا تستطيع فعله الكلمات والعبارات المستقلة؛ فتلك الكلمات والعبارات تنقل فحسب أجزاء جزئية وغير كاملة من المعرفة، وتلك الأجزاء سهلة التحريف ومخادعة. علاوة على ذلك، فنظرا لأن المعنى والكلمات موحدان في الطريقة التي نفهمهما بها من خلال الجمل؛ فلا يمكن أن توجد معرفة إلا من خلال اللغة؛ فمعرفة أحد الأمور تعني معرفته بالطريقة التي تعبر بها اللغة عنه؛ ومن ثم يمكن رؤية أن الحقيقة نفسها قابلة للمعرفة من خلال فهم طريقة التعبير عنها في الجمل، بل طريقة التعبير عنها في جملة واحدة. وقال بهارتريهاري إنه على الرغم من أن المرء يستطيع تقسيم اللغة إلى وحدات تتكون من جمل ومن الأجزاء المكونة لتلك الجمل، بغرض تحليلها نحويا، فإن اللغة في واقع الأمر، بصفتها صوت الكون، هي في حد ذاتها مستمرة وغير قابلة للتقسيم. وفي هذا الصدد فإنه يستنتج ما يرى أنه نتيجة منطقية للنظرة الفيدية التي ترى أن الكون يستمر على نحو فعال من خلال الأصوات المنطوقة في الطقوس المرتبطة بالقربان. ويقول إن التبصر في هذا «الصوت الواحدي» («شابدا براهمان») هو الهدف الذي يجب أن يسعى المرء لتحقيقه.
ذلك الواحد، المقسم بطرق مختلفة بسبب اختلافات البناء؛ إنه البراهمان، الواحد الأعلى، الذي يعرف عندما يكتسب المرء فهم النحو.
أطروحة «فاكياباديا» لبهارتريهاري، المجلد 1
ونظرا لأن تعاليم بهارتريهاري سعت لفهم طريقة توافق اللغة مع الواقع، فقد كانت محط اهتمام جاد من قبل علماء المنطق البوذيين، لا سيما ديناجا. واختلفت النظرة الكونية التي يتعامل بها كل منهما مع جدل اللغة والواقع؛ وكانت وجهة نظر بهارتريهاري تتضمن فكرة أن الكون يستمد بقاءه من الطقوس الفيدية، بينما كان يعتقد البوذيون أن البناء اللفظي يخلد عالم الجهل والاستمرارية المتكررة. وعلى الرغم من اختلاف رؤية التعامل، فإن موضوع الجدل نفسه ظل واحدا بالنسبة لكلا الجانبين، وما يمكن أن نطلق عليه توحيد بهارتريهاري للنشاط الصوتي للطقوس الفيدية مع الواحدية الظاهرية لكتابات الأوبانيشاد جعله شخصية مهمة في التقليد البرهمي، ذلك التقليد الذي مال إلى الفصل بين المدرستين الفكريتين وبين الممارسة نفسها. وعلى الرغم من أنه لا أحد من مفكري ميمانسا أو مفكري فيدانتا تبنى آراءه على نحو كامل، فإن كلتا المدرستين تشتركان معه في عدة نقاط، وبعض مفكري ميمانسا المتأخرين على وجه الخصوص تأثروا بما قاله بهارتريهاري عن النتائج الوجودية للطريقة التي تعمل بها اللغة.
ميمانسا: فلسفة الطقوس
بالنسبة لمفكري ميمانسا أمثال كوماريلا وبرابهاكارا، وهما مؤولان لنصوص الطقوس الفيدية أكثر من كونهما نحويين، كان الهدف الأساسي من عملهم هو الفهم الصحيح لطبيعة الطقوس ، لا سيما أوامر القربان. وفي الواقع، كان من الضروري بالنسبة للأتباع المتعصبين أن يفهموا طبيعة الطقوس؛ حيث كان هذا جانبا أساسيا في «سفا دارما» خاصتهم («واجبهم»)؛ لأن دراسة الفيدا هي جزء أساسي من النظام لضمان توريثه عبر الأجيال. وقبل مفكرو ميمانسا، كحقيقة مسلم بها، فكرة التعددية الواقعية للعالم من حولنا الذي فيه يؤدى القربان، واعتبروا القربان وسيلة للحفاظ على استمرارية ذلك العالم. وعلى نحو أكثر تحديدا، كان القربان وسيلة للحفاظ على استمرارية الدارما؛ أي الطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الأشياء؛ فهذا كان الهدف الأساسي لأوامر طقوس القربان. ونظرا لأن الأوامر نفسها كانت موجودة في النصوص التي تمثل حقيقة أبدية، فقد اعتبرت صحيحة لذاتها، واعتبرت جزءا جوهريا من الدارما بكل متعلقاتها، إن جاز التعبير.
وفي محاولة لفهم طبيعة الطقوس على نحو أكثر فلسفية، وجد مفكرو ميمانسا المتأخرون (الذين جاءوا بعد جايميني) أن أعمال النحويين التقليديين وثيقة الصلة على نحو قاطع بالطريقة التي ترتبط بها اللغة بطبيعة العالم، ورأوا أن نطق إحدى الكلمات يدل على وجود الشيء الذي تشير إليه، وساعدهم هذا الاعتقاد؛ لأنهم سعوا إلى إظهار حقيقة وطبيعة العالم المتعدد، ذلك العالم الذي ضم تعددية «ذوات» مستقلة وذاتية متمثلة في الأشخاص الذين يؤدون القربان. وأنكروا مزاعم الواحدية التي قدمها مؤولو كتابات الأوبانيشاد القدماء، متعللين بأن تلك المزاعم فشلت في مراعاة خصائص الأفراد وعاداتهم الغريبة فضلا عن الجهل والشر والفضيلة لديهم، كما قالوا إن أوامر كتابات الأوبانيشاد التي تحض على معرفة المرء لذاته لم يكن هدفها التحرر، بل كان تحسين أداء الطقوس الفيدية. وبالمثل، فقد أنكروا موقف فلسفة سانكيا القائل بالذوات الخاملة التي «تضيع» هويتها عند اتحادها ببراكريتي، وبدلا من ذلك قال مفكرو ميمانسا إن طبيعة الذات تتمثل في أنها فاعلة واعية (ولذلك فإنها مؤدية طقوس نشطة). وكما قال كوماريلا في تفسيره المعروف باسم «شلوكافارتيكا»: «إن الأمر الذي ينص على أن من واجب المرء فهم ذاته لا يهدف إلى تحرير المرء؛ فمعرفة المرء لذاته هدفها الواضح هو تحفيز أداء الطقوس.»
التعددية والواقعية: نظرة أخرى على الفئات
دافع مفكرو ميمانسا أيضا عن تعددية وواقعية العالم من خلال تأكيد طبيعة سماتهما، وفعلوا ذلك بطريقة مماثلة للتحليلات التي قام بها مفكرو فايشيشيكا والتصنيف الفئوي الذي أجروه، كما وصفنا في الفصل الخامس. وقبل مفكرو ميمانسا الفئات الخمس التي تمثلت في: المادة، والصفة، والفعل، والخصائص العامة، والغياب. وأضافوا إلى الأنواع التسعة للمادة التي حددها مفكرو فايشيشيكا (الأرض، الماء، النار، الهواء، الأثير، المكان، الزمان، الذات، العقل) كلا من الظلام والصوت. وخضعت العلاقة بين المادة والصفات والفئات الأخرى إلى تحليل أسفر عما يسمى مبدأ «الهوية في الاختلاف»؛ فعند اجتماع فئتين معا، مثل اجتماع فئة اللون ممثلة في الأحمر وفئة المادة ممثلة في هيئة الزهرة، فإنهما تختلفان فقط في قدر إسهام كل منهما في الهوية المتمثلة في الزهرة، فلا يمكن أن توجد الفئتان على نحو منفصل. وفي الواقع، لا شيء من الأمور القابلة للإدراك يمكن وصفه بأنه مختلف تماما أو متطابق تماما، بل إن كل الأشياء إما أنها مختلفة من حيث علاقتها بعضها ببعض، أو أنها متطابقة بعضها مع بعض رغم انتمائها لفئات مختلفة. وكل الأشياء التي ندركها تتضمن مبدأ «الهوية في الاختلاف» المتعلق بالجوانب المتعددة للفئات المندمجة في هذا الشيء.
النظرية المعرفية (الإبستيمولوجية) لمفكري ميمانسا
بالنسبة لمفكري ميمانسا، مثل الإدراك وسيلة معرفة صحيحة وموثوقة في حد ذاتها للعالم المحيط بنا و«لذواتنا» كأفراد عارفين. وفعل المعرفة «يكشف» الوجود الخارجي «الواقعي على نحو متسام» لكل من المعروف والعارف؛ وهذا يعني أنه لا أحد منهما يعتمد بأية طريقة على عمل العملية الإدراكية. وبدلا من ذلك، فإن المعرفة تحقق حالة «معلومية» للشيء المعلوم، وتؤكد وجود العارف المستقل؛ ولذلك فإن عملية المعرفة تكشف «الحقيقة»، وفي هذه الحالة تؤكد رؤية العالم الخاصة بالفيدا الأبدية.
وتبنى مفكرو ميمانسا أيضا نظرية أخرى تقضي بأن كل المواد يمكن اختزالها إلى جزيئات ذرية. لكن على النقيض من الذرات المجهرية التي قال بها مفكرو فايشيشيكا، تلك الذرات التي كان من غير الممكن إدراكها على حدة ويعرف وجودها فقط من خلال الاستنباط، فقد أولى مفكرو ميمانسا أولوية كبرى للاعتماد على الإدراك، واعتقدوا أن الذرات ليست أصغر مما يمكن رؤيته بالعين المجردة، مثل ذرة الغبار في شعاع الشمس. وعلى هذا النحو، فقد تمسكوا بنظرة للواقع تعتمد بقوة على الحس العام، وهذه السمة يؤكدها قبولهم للإدراك في حد ذاته كوسيلة مشروعة وموثوقة في حد ذاتها لاكتساب المعرفة المتعلقة بالعالم، ذلك العالم الخارجي والمستقل عن ذلك الإدراك، فالمعروف موجود، والمدركات يجب أن تفهم باعتبارها أفعالا تنتج صفة المعلومية في أشيائها، وبذلك تكشف أفعال المعرفة حقيقة العالم التعددي فقط بموجب حدوثها.
الفيدا حقيقية
لم تكن هذه النظرية المعرفية تتطلب ضرورة إثبات صحة الإدراك - على غرار المنهج المتبع من قبل الآخرين، الذين كان أبرزهم البوذيون - بل كانت تقضي بضرورة إثبات زيف ذلك الإدراك عند خضوعه للتشكيك من قبل أحد الخصوم. وهذه النظرية وضعت مفكري ميمانسا في موقف قوي فيما يتعلق بصحة كتابات الفيدا وتعاليم الطقوس التي سعوا للدفاع عنها. وبالمثل فقد ثبتت صحة موقف المؤدين للقربان؛ حيث قيل إن فعل المعرفة يوضح وجود الذات الأبدية بصفتها عارفة بالعالم التجريبي، وهذا يعني أنه ليس فقط إدراك أداة القربان هو ما يكشف الوجود المستقل لهذه الأداة، بل إن ذلك الإدراك أيضا يكشف وجود الشخص المدرك؛ حيث إن الإدراك المتمثل في جملة «أنا أعرف س» هو الوسيلة التي من خلالها يعرف أن كلا من س والذات لديهما وجود مستقل.
وكانت هاتان النقطتان الأخريان المرتبطتان إحداهما بالأخرى - إثبات الذات وإثبات العالم من خلال الإدراك - تحتلان أهمية كبرى لدى مفكري ميمانسا؛ نظرا لاعتقادهم أن الفيدا كانت حقيقة أبدية مجسدة في اللغة. وتمسكوا بالرؤية التقليدية القائلة إن الفيدا ليس لها مؤلف، وبدلا من الاعتقاد بوجود مؤلف، اعتقدوا أن الفيدا حقيقة ذاتية الوجود، وأن معرفتها هي عملية كشف لصحتها؛ لأن الإدراك في حد ذاته موثوق على الإطلاق. وعلى غرار طبيعة الفيدا بصفتها مجموعة من التعاليم متعلقة بالأفعال الواجب تنفيذها، فإن المعرفة في حد ذاتها نشاط كاشف - والذات ، بصفتها عارفة، ترتبط بالعالم الخارجي، بصفته معروفا، من خلال مثل هذه الأفعال الإدراكية. وبالإضافة إلى إثبات صحة الفيدا، فقد سعى هذا الموقف إلى تمييز عارف الفيدا بصفته وسيلة الحفاظ على ديمومة الواقع؛ ذلك الزعم الذي طالما كان ذا أهمية حاسمة بالنسبة لهذا التقليد الأصيل.
عدم الثنائية في فكر شانكارا
أما المفكرون الأصوليون الآخرون، الذين اتبعوا منهج بادارايانا واستعانوا بتلخيصه لكتابات الأوبانيشاد في «براهما سوترا»؛ فقد رأوا تعاليم الفيدا في سياق ضرورة اكتساب المعرفة المتعلقة بجوهر الكون، براهمان، بدلا من أداء طقوس القرابين. ويوجد دليل على سلالة طويلة من هؤلاء المفكرين الذين يطلق عليهم المفكرون «الفيدانتيون» (كتابات الأوبانيشاد هي فيدانتا، أو «نهاية الفيدا»). إلا أن أكثرهم تأثيرا كان شانكارا، الذي عاش في القرن الثامن الميلادي، وجمع فكر فيدانتا على نحو منظم بقدر يكفي للاشتراك في الجدل الهجومي الجاد ضد الآخرين. وكان أبرز أعمال شانكارا تعليقه على «براهما سوترا» لصاحبها بادارايانا، مفسرا ما رأى أنه تأويل قاطع لرسالة الأوبانيشاد. أما أهم أعماله التي لا تنتمي لفئة التعليقات فهو «أوباديشا ساهاسري»؛ أي «التعاليم الألف». واستخدم شانكارا «براهما سوترا» وكتابات الأوبانيشاد نفسها و«بهاجافاد جيتا» كثلاثة نصوص رئيسية، وسعى هذا العمل التأويلي إلى تقديم تعاليم هذه المصادر الثلاثة في هيئة موحدة، يطلق عليها «الأساس الثلاثي» للحقيقة المكشوفة.
ولفهم موقف شانكارا من أدفايتا فيدانتا، ذلك التفسير «غير المثنوي» للوجودية المعبر عنها على نحو أساسي في كتابات الأوبانيشاد، يمكن أن تكون نقطة انطلاقنا هي هذه الفقرة من «تشاندوجيا أوبانيشاد»، التي تقول:
في البداية، كان هذا الكون مجرد وجود [أي براهمان] - واحد فقط، دون ثان - وقال لنفسه: «لأصبح متعددا؛ لأضاعف نفسي.» «تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد 6
بالإضافة إلى:
من خلال قطعة صلصال واحدة فحسب، يمكن معرفة كل شيء مصنوع من الصلصال؛ فأية تعديلات هي مجرد فروق لفظية، أسماء؛ فالحقيقة هي فقط الصلصال. «تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد 6
هاتان الفقرتان تثبتان نقطتين أساسيتين بالنسبة لشانكارا؛ أولاهما: وجود كون غير مثنوي، كون واحدي، جوهره البراهمان، وثانيتهما: حقيقة أن كل أشكال التغيير ظاهرية فقط ؛ فالبراهمان لا يتغير في واقع الأمر. وهذا النوع من الواحدية هو شكل من أشكال «النتيجة الموجودة مسبقا في المسبب» («ساتكاريافادا») يختلف عما رأيناه في سياق سانكيا في الفصل السابع. وفي هذا الصدد، لا تتضمن النتيجة أية تحولات فعليه في المسبب المادي، لكنه مجرد تجل ظاهر للتعددية. ويطلق على هذا «فيفارتا فادا»: «التجلي» عن طريق المظهر.
ورغم ذلك، بذل شانكارا قصارى جهده لإثبات أن مظهر التعددية لديه حقيقة اصطلاحية حتى وإن لم تكن حقيقية على نحو مطلق. وقدم «نوعين من الحقيقة» - حقيقة اصطلاحية وحقيقة مطلقة - وأثناء فعل ذلك جعل نفسه عرضة لاتهام الآخرين له بأنه «بوذي مستتر». وأنكر شانكارا هذه الاتهامات إنكارا قاطعا، واستنكر مبدأ الخواء ومبدأ عدم الجوهرية اللذين تقول بهما البوذية، وأعلن أن الحقيقة الأساسية للبراهمان، جوهر «تشاندوجيا أوبانيشاد»، هي المادة المكونة للكون. وقال شانكارا إن معرفة البراهمان الموجود هي الهدف التجريبي المطلق للإنسان وليس (فقط) معرفة عدم واقعية العالم التجريبي المؤسس بناء على الإدراك.
عدم ثنائية شانكارا
إن تأويلات «أدفايتا» المتعلقة بمدرسة أدفايتا فيدانتا لصاحبها شانكارا تمثل تفسيرا لكتابات الأوبانيشاد، ذلك التفسير الذي يقدم وجودية «غير ثنائية» أو وجودية واحدية؛ فكل شيء براهمان، ومن هذا المنطلق فإن ذات المرء، أتمان، هي أيضا براهمان. ومن هنا جاء التعبير الشهير: «أتمان هي براهمان.» وبالنسبة لشانكارا، فإن براهمان هو جوهر مطلق غير متغير. وكل أشكال التعددية هي ظاهرية فحسب، وليست فعلية. ورغم ذلك، فهذا لا يعني أنه من الصحيح قول إن تعددية العالم التجريبي هي تعددية غير واقعية أو غير موجودة على الإطلاق، بل هي واقعية «تقليدية» فحسب. ومن التشبيهات شائعة الاقتباس ذلك التشبيه المتعلق برؤية ثعبان في حين أنه حبل ملفوف في واقع الأمر. إن الرؤية المزيفة «حقيقية» بالنسبة لنا عند حدوثها، ولها آثار «حقيقية» علينا، إلا أن الحبل الملفوف ظل كما هو لم يتغير، ويمكن إدراكه على النحو «الأكثر واقعية» عند إدراك طبيعة الإدراك الزائف. ويوجد تشبيه آخر مرتبط على نحو أكثر تحديدا بالذات باعتبارها جزءا من البراهمان غير المتغير، وهذا التشبيه على النحو التالي: ... إن فكرة أن الذات تتعرض للميلاد المتكرر والتغيير تشابه التجربة «الزائفة» التي يشهدها المرء عند الانتقال عبر النهر في قارب ويعتقد أن الأشجار الموجودة على الضفة تتحرك. ومثلما تبدو الأشجار متحركة على الجانب المقابل للشخص الموجود في القارب، يبدو أن الذات أيضا تولد مرات متكررة. «أوباديشا ساهاسري»، المجلد 5
وانتقد شانكارا بشدة ثنائية سانكيا، واصفا إياها بالزائفة، واستطرد قائلا إن الواقعية التعددية التي قال بها مفكرو نيايا وميمانسا نشأت عن اعتقادهم على نحو خاطئ أن التعددية التقليدية هي الحقيقة المطلقة. علاوة على ذلك، فإن كل هذه المواقف الخاطئة تتعارض مع التفسير الصحيح للأوبانيشاد (أي تفسير شانكارا)؛ وأيا كانت الحجج التي قد يسوقها الآخرون دعما لموقفهم، سواء كانت منطقية أو غير منطقية، فكلها تصبح غير صحيحة في مواجهة تفسير شانكارا لكتابات الأوبانيشاد.
دعما لعدم ثنائية شانكارا
الذات (أتمان)، هي حقا هذا العالم كله. «تشاندوجيا أوبانيشاد»، المجلد 7
براهمان حقا هو هذا العالم كله، هذا المدى الأوسع. «مونداكا أوبانيشاد»، المجلد 2
يجب ألا يشكك المرء اعتمادا على قوة المنطق فحسب في أحد الأمور اللازم تأكيدها من كتابات الفيدا. «بهاشيا براهما سوترا لصاحبها شانكارا»، المجلد 2
ويرى شانكارا أن تجربة الحقيقة التقليدية تنشأ بسبب الجهل بالطبيعة الحقيقية للحقيقة المطلقة؛ فليس براهمان غير المتغير هو مصدر وسبب التعددية التجريبية بل الجهل. والتغلب على الجهل واكتساب معرفة هوية الذات الجوهرية للمرء (أتمان) والجوهر الشامل (براهمان) يؤديان إلى التحرر من دائرة الميلاد المتكرر الناشئة عن الجهل. وعن سؤال: «من أين يأتي الجهل إذا كان كل شيء براهمان؟» يقول شانكارا إنه من ناحية المعرفة لا يوجد شيء اسمه جهل كي نسأل عن مصدره؛ فالمعرفة في حد ذاتها «تلغي» كل الأفكار المتعلقة بالجهل، ومن ناحية الجهل، فلا يمكن الإجابة عن السؤال؛ لأن فكرة بداية الجهل تصبح مطروحة وذات معنى فقط من خلال الجهل نفسه.
شكل : جزء مقتطف من «أوباديشا ساهاسري» لشانكارا، يعود تاريخه لعام 1636 ميلاديا.
ويحظى العالم التقليدي بأهمية بالغة لدى شانكارا لسببين؛ أولا: في هذا المستوى تكشف الفيدا الحقيقة الأبدية، وثانيا: في هذا المستوى يمكن للمرء أن يسعى لاكتساب البصيرة المحررة. وعلى نحو مشابه، وإن كان أكثر توضيحا من الناحية العملية، لتشبيهات الحبل والثعبان وضفة النهر التي قدمها شانكارا (انظر المربع التالي)، فإن مفكري أدفايتا فيدانتا المعاصرين يفسرون ذلك العالم التقليدي على النحو التالي: افترض أنك تحلم بأنك مطارد من قبل نمر آكل للبشر، وأنك في خوف شديد وتجري لتنجو بحياتك. وأثناء شعورك بما يبدو خوفا حقيقيا للغاية سوف يخضع جسمك لكل أنواع التغيرات الفسيولوجية بما فيها زيادة نبضات القلب والتعرق، وبعد ذلك، في أثناء حلمك سيأتي أحد أصدقائك غير المطاردين ويطلق النار على النمر ويقتله، وسوف يوقظك صوت الطلقة في الحلم، وعند هذه النقطة سوف تدرك أن مستوى الواقعية في الحلم ليس على مستوى واقعية حالة اليقظة. ورغم ذلك، فإن التجربة على صعيد المطاردة وعلى صعيد التحرر من المطاردة نابعة في الحالتين من مستوى «أقل واقعية».
مايا - الوهم - ومستويا الحقيقة لدى شانكارا
يستخدم مصطلح «مايا» في بعض الأحيان في سياق أدفايتا فيدانتا على نحو يشير إلى أن الحقيقة الاصطلاحية «غير حقيقية» أو «وهمية». وعلى الرغم من أن بعض مفكري أدفايتا استخدموا هذا المصطلح، فإن شانكارا لم يستخدمه، وبدلا من استخدام هذا المصطلح، افترض شانكارا وجود «مستويين من الحقيقة»؛ أحدهما مطلق والآخر اصطلاحي. والحقيقة الاصطلاحية هي نتيجة الجهل، «أفيديا». وهذا يعني أن العالم الذي نعيش فيه ونحن جهلاء هو عالم «حقيقي» عند هذا المستوى، لكن عندما تحل المعرفة محل الجهل، فإننا نرى أن الحقيقة تختلف عن العالم الاصطلاحي.
وبلغة كتابات الأوبانيشاد - إذ ينبغي أن نتذكر دائما أن شانكارا كان مؤولا في المقام الأول - فإن الحقيقة الاصطلاحية هي «براهمان ذو صفات» («ساجونا براهمان») والحقيقة المطلقة هي «براهمان بلا صفات» («نيرجونا براهمان»). ويوجد هذان التعبيران في كتابات «شفيتاشفاتارا أوبانيشاد». ووفقا لهذه الأوبانيشاد فإنه بالإضافة إلى «البراهمان ذي الصفات»، وكذلك العالم الاصطلاحي، فإنه يوجد إله شخصي. وكثيرا ما تغفل حقيقة أن شانكارا كان مؤمنا بالواحدية؛ فقد كان يعبد إلها شخصيا وفي الوقت نفسه يعتقد بوحدة الوجود في نهاية المطاف. إن افتراض وجود إله شخصي لا يمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لشخص يؤمن بالواحدية أكثر مما تمثله له التعددية الموجودة حولنا؛ ففي نهاية المطاف، الإله الشخصي والناس والأشياء كلها براهمان.
إن فلسفة أدفايتا فيدانتا لصاحبها شانكارا هي على الأرجح أشهر «الفلسفات» الهندية؛ فلقد كانت أولى الفلسفات التي صدرت وقدمت إلى الغرب؛ حيث قدمها الممارس الفيدانتي فيفيكاناندا في المجلس العالمي للأديان في شيكاجو في عام 1893 تحت مسمى «الهندوسية»، وأصبحت فيما بعد رائجة في مراكز مختلفة، مثل «بعثات راماكريشنا» في العديد من البلدان الغربية. ومنذ ذلك الحين، اكتسبت شهرة كبيرة في أنحاء العالم، لدرجة أنه ليس الغرباء وحدهم هم الذين لا يدركون في الغالب أنها مجرد واحدة من بين العديد من مدارس الفكر الهندي، بل في بعض الأحيان تروج داخل شبه القارة الهندية نفسها على أنها «التراث الديني الفلسفي التقليدي للهند».
رامانوجا: المؤمن والفيلسوف
في واقع الأمر، يعد فكر رامانوجا، الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي، أكبر تجسيد للمعتقدات المعاصرة لكثير من الهندوس. وكان رامانوجا عضوا متحمسا في إحدى الطوائف شديدة التعبد تعرف باسم طائفة شري فايشنافا، وكان معبودهم هو الإله الشخصي الممثل في النص المقدس الخاص بالطائفة، ذلك النص الذي يسمى «بهاجافاتا بورانا». إلا أن رامانوجا أراد أيضا تأسيس مكانة أرثوذكسية لطائفته، بموجبها تكتسب الهيمنة على الطوائف الأخرى و«يوثق» بها معتقداته وممارساته الدينية، وسعى لفعل ذلك من خلال مطابقة العقيدة الدينية للنص المقدس «بهاجافاتا بورانا» مع النظرة الوجودية والتعاليم الفلسفية «للأساس الثلاثي» للنصوص المرجعية التي استخدمها شانكارا وهي: «براهما سوترا» لصاحبها بادارايانا، وكتابات الأوبانيشاد، وكتابات «بهاجافاد جيتا».
كان رامانوجا في هذا الصدد ليس مؤولا فحسب، بل كان أيضا مدافعا عن موقف ديني محدد؛ ولذلك كانت تعاليمه في حاجة إلى التوفيق بين هذين الجانبين لهذا المنهج المتبع. ويعرف نظامه الفكري، الذي يعتبر فرعا من فروع دارشانا فيدانتا في مجملها بسبب الموقف المحوري الذي خصه لكتابات الأوبانيشاد، باسم فيشيشتادفايتا فيدانتا؛ أي فيدانتا غير ثنائية (أدفايتا ) لكنها محدودة («فيشيشتا»). وعلى النقيض من الواحدية المطلقة التي قال بها شانكارا، فإن وحدة براهمان لدى رامانوجا هي وحدة محدودة؛ حيث توجد ضمن هذه الوحدة علاقة بين براهمان بصفته إلها (الواحدية ذات طبيعة إيمانية قوية في أدبيات فيشيشتادفايتا فيدانتا) وبين الذات الفردية بصفتها متعبدا. واعتمادا على مثال الزهرة واللون الأحمر المستخدم من قبل الأسلاف، قال رامانوجا إن من طبيعة البراهمان أن يوجد «محدودا» على النحو التالي: إن مثل الزهرة لحمرتها كمثل البراهمان للذوات الفردية، وكما أن الزهرة لا يمكن أن توجد دون حمرتها (أو دون أي لون آخر)، فإن البراهمان لا يمكن أن يوجد دون الذوات. إن كلا منهما متأصل في الآخر تماما مثل طبيعة البراهمان. علاوة على ذلك، فهذان الجانبان، على الرغم من أنهما ليسا الأمر نفسه على وجه التحديد، لا يختلفان أحدهما عن الآخر، ولم يفصل رامانوجا بينهما فصلا فئويا كما فعل مفكرو فايشيشيكا وميمانسا. وبدلا من ذلك، قال رامانوجا إنهما متلازمان على نحو متأصل وأبدي، على الرغم من أنهما مختلفان أيضا. وهذا هو معنى فيشيشتادفايتا؛ أي «عدم الثنائية المحدودة».
ساتكاريافادا، «النتيجة موجودة مسبقا في المسبب» «ساتكاريافادا» هي نظرية تقول إنه لا شيء يأتي من العدم؛ أي إن «الخلق من العدم» مستحيل. علاوة على ذلك، أي شيء موجود لا بد أن يكون موجودا مسبقا في مسببه المادي؛ لأن المسببات المادية لا تستطيع أن تخلق أي شيء خلافا لما كان موجودا في المقام الأول. ويمكن تفسير هذه النظرية بطرق مختلفة؛ فعلى سبيل المثال، تقول سانكيا إن براكريتي الظاهر موجود مسبقا في براكريتي غير الظاهر، لكنها تقول أيضا إن تعددية البوروشات موجودة أيضا على نحو منفصل عنه. هذه هي ساتكاريافادا مرتبطة بالثنائية الوجودية. أما بالنسبة لشانكارا، المؤمن بالواحدية المطلقة، فلا شيء ليس براهمان غير متغير، وكل أشكال التجلي والتعددية ما هي إلا مظهر من مظاهر المادة وليس تغيرا في المادة. ويعرف هذا الرأي بنظرية «فيفارتا فادا»؛ أي نظرية التجلي عن طريق «المظهر». وعلى النقيض من النظريتين السابقتين، فإن نظرية ساتكاريافادا لصاحبها رامانوجا على الرغم من أنها تقر بالواحدية مثل نظرية شانكارا، فإنها تقول إن براهمان يحول نفسه في واقع الأمر إلى العالم المتعدد. ويعرف هذا الرأي باسم «باريناما فادا»؛ أي نظرية التجلي عن طريق «التحول».
ومرة أخرى، على النقيض من شانكارا، يرى رامانوجا أن براهمان ليس لديه جانب خال من الصفات، بل إنه كله صفات. والسبب في هذا الموقف يعود جزئيا بلا شك إلى أن ضروريات الطائفة تستلزم التأكيد على صفات مثل الشفقة واللطف وغيرهما، كجوانب في البراهمان. وذكر مثل هذه الصفات وارد في بعض كتابات الأوبانيشاد، وقد ضمها شانكارا في مستوى الإيمان «التقليدي» في إطار واحدية مطلقة للغاية. إلا أن رامانوجا رأى أنها صفات حقيقية ونشطة من النوع المكون منه الكون؛ فالعالم التجريبي هو تحول حقيقي للبراهمان، والصفات والظواهر المتعددة الظاهرة وغيرها كلها من المادة نفسها من الناحية الوجودية. وانتقد رامانوجا بشدة نظرية فيفارتا فادا لصاحبها شانكارا (نظرية التجلي عن طريق المظهر)، وقال إن براهمان في واقع الأمر هو المسبب المادي للعالم التجريبي، وإنه الموصوف في إحدى الفقرات في كتابات «تشاندوجيا أوبانيشاد» على هذا النحو: «لقد فكر في نفسه وقال: لأجعل نفسي متعددا»، وهو التجلي عن طريق التحول المعروف باسم «باريناما فادا». إن براهمان يتغير في واقع الأمر، وهو نشط، ولديه علاقة بالأفراد.
وفقا لرامانوجا، فإن براهمان يمتلك صفات:
إن أولئك الذين يتبنون معتقدا يقوم على أساس عدم التفريق (يشير رامانوجا هنا إلى شانكارا) لا يمكنهم تقديم أي دليل صحيح حول ذلك الاعتقاد؛ لأن كل الأشياء الممكنة معرفتها بوسائل صحيحة يختلف بعضها عن بعض ... ولذلك فالواقع مختلف ولديه صفات ... (وبالمثل) فإن وجهة النظر القائلة إن كل أشكال الاختلاف غير واقعية هي وجهة نظر خاطئة تماما ... والتعبيرات على شاكلة «تات تفام أسي» (أنت كل ذلك) الواردة في النصوص ليس الهدف منها أن تعني وحدة مادة غير متمايزة، بل الأمر نقيض ذلك؛ فكلمة «أنت» وكلمة «ذلك» توضحان أن براهمان يتسم بالاختلاف. «بهاشيا براهما سوترا» لرامانوجا، المجلد 1
إن براهمان الأعلى - ذلك النبع الزاخر بصفات واضحة على نحو فائق لا تعد ولا تحصى، ذلك الذي لا تشوبه نقيصة، ويمتلك عالما هائلا لا حدود له يظهر فيه مجده، ذلك الفيض من التعطف فائق الكرم، والجمال والحب المتسامح - هو الكيان الأساسي، والذات هي الكيان التابع.
كتابات «فيدارتهاسانجراها» لرامانوجا، مقتبسة من كتاب «العقيدة الدينية لدى رامانوجا» للمؤلف جون كارمان
منطق المؤولين
كل مؤولي النصوص الفيدية، سواء أكانوا مهتمين في المقام الأول بطبيعة وأفضلية الطقوس أو كانوا مهتمين بتعاليم كتابات الأوبانيشاد، واجهوا مشكلة عدم الاتساق في هذه المجموعة الهائلة من النصوص التي كانوا يعملون على تأويلها. وعلى الرغم من أن المؤولين اعتقدوا أن تلك النصوص سجلات لحقيقة أبدية، فإن مخطوطات الطقوس وأطروحات الأوبانيشاد قد تكونت على مدار فترة كبيرة من الزمن، من الممكن أن تزيد عن الألف سنة؛ ولذلك سيبدو من الغريب ألا تحتوي تلك النصوص على اختلافات كبيرة، بل إن مجرد دراسة خاطفة لهذه النصوص ستؤكد أن الحالة تبدو كذلك بالتأكيد. وهذه الحقيقة سمحت بقبول مناهج تأويل مختلفة، ومنحت تفسيرات مختلفة القدرة على إقناع الآخرين في مناطق مختلفة. كما أن نسب مكانة اليقين المعرفي (من خلال الشهادة) لتلك النصوص على يد كل أمثال هؤلاء المؤولين أدى إلى إظهار جانب مهم يتمثل في أن معظم أفكار الفكر الفلسفي الهندي لا يمكن أن ينفصل عما يمكن تسميته في الغرب الرؤية الدينية للعالم. وفي أغلب الأوقات قدم الآخرون انتقاداتهم من ناحية منطقية، لكن تلك الانتقادات كانت في الغالب تقوم على منطق خاص بنظام فكر معين، وكانت الحجج متوجهة للدفاع عن وجهة نظر تجاه العالم (تعرف باسم دارشانا) ذات أهداف خلاصية في نهاية المطاف. وعلى الرغم من أن الحجج المنطقية المختلفة من الممكن استنباطها وحذفها من سياق التقليد ككل من أجل المصلحة الفكرية ولأهداف المقارنة بأنماط المنطق الغربي؛ فإن السياق الهندي الكلاسيكي كان واحدا من السياقات التي لم يكن بها مثل هذا النوع من الفصل الرسمي.
تعقيب من الفكر الكلاسيكي إلى الوقت الحاضر
مثلما حدث مع الأيام الذهبية للفلسفة الإغريقية في فترة ما قبل المسيحية بكل ما تميزت به تلك الفترة من تقليد ثري بالجدل عندما أفل نجمها على مدار القرون التالية؛ وصلت الفترة «الكلاسيكية» للفكر الهندي إلى نهاية تدريجية. وإذا ضممنا المراحل الأولى للتقليد، مثلما فعلت في هذا الكتاب، وجدنا أن هذه الفترة الكلاسيكية ازدهرت على مدار فترة مدهشة تقدر بنحو 1500 عام، شهدت فيها القرون الخمسة الأولى الميلادية أكبر قدر من النشاط والتنوع. إن النصوص والسجلات التي بقيت حتى يومنا الحاضر تشهد على وجود العديد والعديد من النصوص والسجلات الأخرى التي فقدت أو ما زالت غير مكتشفة أو غير مفحوصة؛ مما يدل على تراث من الفكر والجدل الأصلي غني ومتنوع على نحو استثنائي. إن فقدان كثير من هذه النصوص هو بلا شك يعود إلى حد كبير إلى افتقار الهند، جزئيا أو كليا، إلى تقليد تدوين تفاصيل عن الشخصيات أو الحقائق أو الأحداث التاريخية أو حفظ المعلومات كسجل تاريخي في حد ذاته. وقدر كبير من المعلومات التي بحوزتنا ظل باقيا دون وجود أية معلومات تقريبا حول مؤلفه أو مصدره ما عدا وجود اسم المؤلف؛ مما جعل الأكاديميين أمام مهمة كبيرة، بالإضافة إلى مهمتي التحرير والترجمة، وهذه المهمة هي محاولة وضع هذه الأعمال في السياق الدقيق لهذا التقليد. وعلى الرغم من بذل الكثير من الجهود الأكاديمية في محاولة لتجميع الحقائق المتعلقة بالسير الذاتية وتواريخ الأحداث الزمنية، فإنه ما زال من الصعب للغاية التأكد من الموقع الجغرافي الذي نشأت فيه تلك المدارس الفكرية وحفظ فيه علمها ودرس للآخرين، أو في تحديد كيفية انتشارها وأماكن انتشارها، أو معرفة التواريخ إلا على نحو تقريبي، أو معرفة مؤلفي الأعمال على نحو دقيق. وفي بعض الأحيان يكون الاسم المدون على النص لا يعدو كونه مجرد اسم؛ ولذلك فثمة أمور كثيرة لا نعلمها ببساطة عن الأسئلة المتعلقة باستمرارية التقليد الهندي، أو عما حدث «بين» الأجزاء التي نعرفها، أو «قبل» أو «بعد» مراحل أو أحداث رئيسية معينة نعلمها بقدر أكبر من التأكد.
جزء كبير من عملية تجميع مخطط التأريخ الزمني الذي اتبعته في هذا الكتاب قامت به مجموعة من الرواد الأكاديميين المتخصصين في علم الهنديات. وقد بدأ هذا الفرع المعرفي في القرن التاسع عشر عندما تعلم أفراد الإرساليات الغربية والأكاديميون المسافرون اللغة السنسكريتية، وبدءوا يحررون ويترجمون النصوص الهندية. وقد اقترفوا الكثير من الأخطاء - لا سيما أخطاء من نوعية «النظر إلى النصوص الهندية من منظور العين الغربية/المسيحية» - ورغم ذلك فإن هذا العمل الأولي قد قدم إسهاما كبيرا في جعل الفكر الهندي سهل الفهم بالنسبة للغرب. وعلى الرغم من أن هذا العمل الأولي ما زال موجودا في أنحاء العالم، فإنه يظل فرعا معرفيا صغيرا نسبيا، وما زال أمامنا قدر هائل من المعلومات اللازمة دراستها على نحو صحيح.
وفي الهند نفسها، وإلى أن تعلم الغرباء اللغة السنسكريتية، كانت قلة فقط من الصفوة هم الذين يتمتعون بمعرفة النصوص الدينية الفلسفية؛ فاللغة السنسكريتية كانت أولا لغة كهنة البرهمية، وأصبحت فيما بعد لغة «المفكرين» المتعلمين، وهذا يجعلها شبيهة باللغة اللاتينية في أوروبا في العصور الوسطى. وبعد تراجع الفترة الكلاسيكية، كانت توجد بعض المناطق التي ظلت فيها تقاليد فلسفية معينة، ولو على أساس تفاعلي أقل نطاقا. ومن تلك التقاليد التي نعرفها كانت تلك المدرسة الفكرية الجديدة المسماة «نيايا»؛ حيث تطورت النيايا الكلاسيكية، وخضعت للنقد وإعادة التفسير، وكتب عنها الكثير من النصوص الإضافية. واستمر حفظة التقليد البرهمي في دراسة القواعد اللغوية التي وضعها بانيني وحفظها. أما ما ازدهر على نحو أكبر وكان له تأثير أكبر فكان معاقل التقاليد التعبدية؛ مثل ذلك التقليد الذي كان رامانوجا عضوا فيه. وبعض هذه المجموعات (لا سيما مجموعات عبدة شيفا) قدموا معتقداتهم الإيمانية بصفتها أنظمة ميتافيزيقية شديدة التعقيد، ورغم ذلك فقد تمثل الأمر في أن راقت الاهتمامات العقلانية لأقلية صغيرة جدا فحسب. وعلى الرغم من أن شانكارا ترك تراثا من المراكز التي يمكن للناس تطبيق فلسفته فيها، فقد كان هذا لغرض الممارسة الدينية بدلا من كونها منتديات للجدل أو للتأويل. وبقيت البوذية في خارج الهند فقط ، في دول مثل الصين والتبت واليابان وسريلانكا وميانمار (بورما) وتايلاند. واستمر البوذيون الأكاديميون، لا سيما من في التبت، في الانخراط في مناقشات ذات مستوى فلسفي رفيع داخل المدارس البوذية الخاصة بهم، لكن التقليد استمر إلى حد كبير بصفته ديانة.
ومن عدة نواح، كان اهتمام الغرباء هو ما أثار الهنود لإحياء التقاليد الهندية الأقل «رواجا» من منطلق الوعي بالذات، فرؤية الآخرين الذين يتعلمون اللغة السنسكريتية ويبحثون في النصوص ويحررونها، ويرغبون في معرفة تاريخ أفكار الهند؛ حفزت الهنود على استئناف اهتمامها الحثيث على نحو أكبر بتقاليدهم الكلاسيكية، وبعضهم فعل ذلك بهدف ترويج تقليدهم المميز الخاص بهم مثلما كان يحدث في الماضي. وكان هذا هو الحال، وخصوصا مع فلسفة أدفايتا فيدانتا لشانكارا، تلك الفلسفة التي نجحت كثيرا في تقديم نفسها على هيئة نموذج مبسط للاستهلاك الغربي. وهذا النموذج يلقى اهتماما في الأساس لدى الغربيين المهتمين بالناحية الخلاصية لهذه الفلسفة. وفي الهند أيضا ظلت نقطة تركيز شانكارا متمحورة في الأساس حول الجانب العملي إلى حد كبير.
لقد كانت المؤسسات التعليمية في الهند (التي أسس البريطانيون عددا كبيرا منها في القرن التاسع عشر) هي التي وفرت المناخ الذي ازدهرت فيه الفلسفة الهندية مرة أخرى خلال القرن العشرين. وانضم الباحثون الهنود المحترفون إلى الأكاديميين الغربيين في دراسة النصوص الكلاسيكية، في أقسام الجامعات في الهند والغرب على حد سواء، واستأنفوا الجدل حول المزايا النسبية لأنظمة الفكر المختلفة، وترابطها الداخلي، وصحة حججها، ونقاط القوة أو نقاط الضعف في منهجياتها. وفي العموم، فقد درسوا هذه الأمور من خلال مجموعة متنوعة من فروع المعارف، حيث تناول الباحثون النصوص من زوايا مختلفة. وأثار اللغويون والمؤرخون وطلاب الدين والفلاسفة أنواعا مختلفة من الأسئلة وأسهموا في الجدل المعاصر بطرق مختلفة.
وبسبب التأثر بالأسلوب الغربي في التعامل مع الأمور، أصبح هناك ميل لفصل الفلسفة بمعناها الجدلي العقلاني عن أي سياق يتضمن موضوعات مصطبغة بصبغة دينية إلى حد كبير؛ ولذلك ففي الهند، وكذلك في الغرب، أصبحت الفلسفة الهندية على نحو أكثر تحديدا فرعا معرفيا أكاديميا يهتم في المقام الأول بالمنطق والتحليل اللغوي. ومن أجل أن تحظى الفلسفة الهندية بتعامل جدي على الصعيد الدولي للفلسفة الغربية المعاصرة، كان لزاما أن تنافس فقط من خلال هذين المجالين المتمثلين في المنطق والتحليل اللغوي، فهما ما يشغلان اهتمام فلاسفة الغرب المعاصرين. واعتمادا في المقام الأول على أعمال مفكري فلسفة نيايا وكذلك أعمال المفكرين البوذيين، كرس بعض الباحثين حياتهم المهنية للترويج للفلسفة الهندية على أساس الجدل المنطقي فحسب؛ من أجل التغلب على التصورات المسبقة لدى الغرب التي ترى الفكر الهندي «صوفيا» و«سحريا» ولا يمت للمنطق بصلة. وكان كثيرون يعتقدون (وكثيرون ما زالوا يعتقدون) أن العقلانية حكر على الغرب فحسب. وعلى الرغم من ضرورة الاحتفاء بأي نجاح في التغلب على تلك التصورات الخاطئة، فإنه يرجى أيضا ألا يمر وقت طويل حتى يصبح الفلاسفة المحترفون أقل ترددا في بذل الاهتمام الواجب تجاه السياق الأوسع نطاقا الذي تطور فيه المنطق الهندي، وأن يلتفتوا إلى الأسباب المبررة لتطور ذلك المنطق؛ حيث إن تجريد المنطق الهندي تجريدا كاملا من سياق تطوره هو ظاهرة ثقافية غربية فحسب انتهجوها عند التعامل معه. لقد كانت رؤية العالم في الهند الكلاسيكية أعمق كثيرا من ذلك التصور الموجود لدى الغرب؛ إذ كانت تركز في الأساس على طبيعة الحقيقة نفسها.
قراءات إضافية
الفصل الأول
Simon Blackburn,
Think,
Oxford: OUP, 1999.
Sarandranath Dasgupta,
A History of Indian Philosophy,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1975.
The Jains,
London: Routledge, 1992.
Eric Frauwallner,
History of Indian Philosophy,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1993.
John Hospers,
Introduction to
(3rd edn), London: Routledge, 1990.
The chapter on Śaivism in S. Sutherland et al. (eds)
The World’s Religions , London: Routledge, 1988.
الفصل الثاني
J. L. Brockington,
The Sacred Thread,
Edinburgh: Edinburgh University Press, 1981.
Thomas J. Hopkins,
The Hindu Religious Tradition,
Belmont, CA: Wadsworth
R. E. Hume, Introductory essay in
The Thirteen Principal Upanishads (2nd edn), Delhi: Oxford University Press, 1931.
Wendy Doniger O’Flaherty, (ed. and trans.)
The Rig Veda: An Anthology , Harmondsworth: Penguin, 1981.
Upanisads , Oxford: Oxford University Press, 1996.
B. K. Smith,
Classifying the Universe: The Ancient Indian Varna System and the Origins of Caste,
Oxford: Oxford University Press, 1994.
الفصل الثالث
Rupert Gethin,
The Foundations of Buddhism,
Oxford: Oxford University Press, 1998.
Richard Gombrich,
Theravāda Buddhism: A Social History from Benares to Colombo,
London: Routledge and Kegan Paul, 1988.
Sue Hamilton, Early Buddhism-A New Approach:
The I of the Beholder,
Richmond: Curzon
Damien Keown,
Buddhism: A Very Short Introduction,
Oxford: Oxford University Press, 1996.
Walpola Rahula,
What the Buddha Taught (2nd edn), London: Gordon Fraser, 1967.
Andrew Skilton,
A Concise History of Buddhism,
Birmingham: Windhorse Publications, 1994.
Complete translations of the texts of early Buddhism are published by the Pali Text Society. Alternatives for some sections are:
Bhikkhu Ňāņamoli and Bhikkhu Bodhi, (translation of the
Majjhima Nikāya )
The Middle Length Discourses of the Buddha,
Boston: Wisdom Publications in association with the Barre Centre for Buddhist Studies, 1995.
Maurice Walshe, (translation of the
Dīgha Nikāya )
Thus Have I Heard,
London: Wisdom Publications, 1987.
الفصل الرابع
There is almost no non-specialist reading material on this period. Some general references are made in:
Harold G. Coward and K. Kunjunni Raja,
Encyclopedia of Indian Philosophies,
Vol. V:
The Philosophy of the Grammarians,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1990.
W. Halbfass,
India and Europe: An Essay in Understanding,
Albany, NY: State University of New York Press, 1988.
Richard King,
Indian Philosophy: An Introduction to Hindu and Buddhist Thought,
Edinburgh: Edinburgh University Press, 1999.
J. N. Mohanty,
Classical Indian
New York: Rowman and Littlefield, 2000.
More specialized:
George Cardona, 'Indian Linguistics’, in Giulio Lepschy (ed.)
History of Linguistics , Vol. I:
The Eastern Traditions of Linguistics,
London Longman, 1994.
B. K. Matilal,
Logic, Language and Reality,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1985.
الفصل الخامس
E. Frauwallner,
History of Indian
Vol. II, Delhi: Motilal Banarsidass, 1973.
M. Hiriyanna,
The Essentials of Indian Philosophy,
London: George Allen & Unwin, 1985.
Richard King,
Indian Philosophy: An Introduction to Hindu and Buddhist Thought,
Edinburgh: Edinburgh University Press, 1999.
J. N. Mohanty,
Classical Indian
New York: Rowman and Littlefield, 2000.
More specialized:
Wilhelm Halbfass,
On Being and What There Is: Classical Vaiśeşika and the History of Indian Ontology,
Albany, NY: State University of New York
B. K. Matilal,
Essay on Classical Indian Theories of Knowledge,
Oxford: Clarendon Press, 1986.
الفصل السادس
Stefan Anacker,
Seven Works of Vasubandhu: The Buddhist Psychological Doctor,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1984.
Ian Harris,
The Continuity of Madhyamaka and Yogācāra in Indian Mahāyāna Buddhism,
Leiden: E. J. Brill, 1991.
C. W. Huntingdon,
The Emptiness of Emptiness. An Introduction to Early Indian Mādhyamika,
Honolulu: University of Hawaii Press, 1989.
Richard King,
Indian Philosophy: An Introduction to Hindu and Buddhist Thought,
Edinburgh: Edinburgh University Press, 1999.
Thomas A. Kochumuttom,
A Buddhist Doctrine of Experience,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1982.
F. Th. Stcherbatsky,
Buddhist Logic,
New York: Dover Publications, 1962.
Frederick Streng,
Emptiness. A Study in Religious Meaning,
Nashville, TN: Abingdon
Mahāyāna Buddhism: The Doctrinal Foundations,
London: Routledge, 1989.
More specialized:
Shoryu Katsura, (ed.),
Dharmakīrti’s Thought and its Impact on Indian and Tibetan
Dharmakīrti Conference, Hiroshima, November 4-6, 1997. Vienna: Österreichische Akademie der Wissenschaften, 1999.
الفصل السابع
Georg Feuerstein,
The Yoga-Sūtra of Patañjali: A New Translation and Commentary,
Folkestone: Dawson, 1979.
Georg Feuerstein,
The Philosophy of Classical Yoga,
Manchester: Manchester University
Richard King,
Indian Philosophy: An Introduction to Hindu and Buddhist Thought,
Edinburgh: Edinburgh University Press, 1999.
Gerald Larson,
Classical Sāmkhya (2nd edn), Delhi: Motilal Banarsidass, 1979.
Ian Whicher,
The Integrity of the Yoga Darśana: A Reconsideration of Classical Yoga,
Albany, NY: State University of New York Press, 1998.
J. H. Woods,
The Yoga System of
Cambridge, MA: Harvard University Press, 1983.
الفصل الثامن
A. J. Alston, (trans.)
The Thousand Teachings of śańkara , London: Shanti Sadan, 1990.
Ashok Aklujkar, 'Summary of Bhartŗharі’s Vākyapadīya’ in Karl H. Potter (ed.)
Encyclopedia of Indian
, Delhi: Motilal Banarsidass, 1991.
John Carman,
Theology of Rāmānuja,
New Haven, CT: Yale University Press, 1974.
Eliot Deutsch,
Advaita Vedānta: A
Reconstruction,
Honolulu: University of Hawaii Press, 1968.
M. Hiriyanna,
Essentials of Indian Philosophy,
London: George, Allen & Unwin, 1985.
Richard King,
Indian Philosophy: An Introduction to Hindu and Buddhist Thought,
Edinburgh: Edinburgh University Press, 1999.
J. N. Mohanty,
Classical Indian
New York: Rowman and Littlefield, 2000.
George Thibaut, (trans.)
The Vedānta-Sūtras with the Commentary of Śańkarācārya,
ed. Max Mϋller,
Sacred Books of the East Series,
Vols. XXXIV and XXXVIII, Oxford: Clarendon Press, 1890 and 1896.
George Thibaut, (trans.)
The Vedānta-Sūtras with the Commentary of Rāmānuja , ed. Max Mϋller, Sacred Books of the East Series, Vol. XLVIII, Oxford: Clarendon Press, 1904.
كتب مقترحة أخرى
A. L. Basham,
The Wonder that was India: A Survey of the Indian Subcontinent before the Coming of the Muslims,
London: Sidgwick and Jackson, 1954.
Franklin Edgerton,
The Beginnings of Indian Philosophy: Selections from the Ŗg Veda, Atharva Veda, Upanişads, and Mahābhārata,
London: Allen and Unwin, 1965.
Jonardon Ganeri, (ed.)
Indian Logic: A Reader,
Richmond: Curzon Press, 2000.
J. N. Mohanty,
Reason and Tradition in Indian Thought,
Oxford: Clarendon Press, 1992.
Wilhelm Halbfass,
Tradition and Reflection: Explorations in Indian Thought,
Albany, NY: SUNY Press, 1991.
Karl Potter,
India’s Philosophies,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1991.
Karl Potter, (ed.)
Encyclopedia of Indian Philosophies,
Delhi: Motilal Banarsidass, 1970-93.
S. Radhakrishnan and C. A. Moore,
A Sourcebook in Indian Philosophy,
1957.
Ninian Smart,
Doctrine and Argument in Indian Philosophy,
London: George Allen & Unwin, 1964.
مصادر الصور
(2-1) Photo courtesty of C. Minkowski. (2-2) Photo courtesty of C. Minkowski. (2-3) Bodleian Library, University of Oxford, MS Max Mueller Memorial d.8. (3-2) © MacQuitty International Collection. (3-4) © Chris Lisle/Corbis. (3-5) © Ann & Bury Peerless. (8-1) © Bodleian Library, University of Oxford, MS Sansk.d.152.
Unknown page