Fahm Fahm
فهم الفهم: مدخل إلى الهرمنيوطيقا: نظرية التأويل من أفلاطون إلى جادامر
Genres
الكلمة، ستيفان جئورجه
تتحدث هذه القصيدة عن قوة الشاعر وقدرته، فهو يملك موهبة الرؤية والبصر بشكل مدهش وعجيب، وربة القدر في الأساطير الجرمانية هي التي تهب رؤيته «الاسم»، نعمة منها وهدية، فهي تبحث في أعماق نبعها عن اسم لكل شيء ولكل خبرة، والكلمة هي التي تظهر الموجود أمام الشاعر أو أمام غيره من الناس، والأسماء هي التي تمكنه من الاحتفاظ برؤاه، كما تساعد هذه الرؤى على التفتح والازدهار (وهي الآن تزدهر وتسطع نافذة في العظام)، ومهما يكن ثراء الخبرة وعرامها فلا ضمان لفهمها ودوامها وتوصيلها للآخرين إذا لم يقيض لها الكلمات التي تترجمها وتفضي به وتنميها، وحين لا يجد المرء كلمة تترجم خبرته (لا تجد ربة القدر اسما لجوهرة الشاعر) فلا جدوى للخبرة ولا قيمة، وربما لا وجود لها على الإطلاق! الأسماء إذن هي التي تحضر الأشياء وتمدها بالوجود والثبات، وهي التي تسبغ المعنى على الخبرة وتجعل الخبرة «تصبح ذاتها» على حد تعبير بول ريكور.
الوجود لغة، أو هو لغوي في بنيته وصميمه، و«ليست الكلمات واللغة قواقع تختزن فيها الأشياء ببساطة من أجل تجارة الحديث والكتابة، في الكلمة وحدها، في اللغة وحدها، تصبح الأشياء وتكون.»
11
اللغة هي تلفظ الوجود ونطقه، إن الوجود نفسه يفكر بنا، أو هو يتعقل ذاته من خلال لغتنا نفسها؛ فليس التفكير مجرد تعبير يستدرج الفكرة إلى شبكة اللغة، بل هو نطق بلسان حال الوجود، أو هو على الأصح تعبير عن كلمة الوجود غير المنطوق! وهذا هو السبب في أن «هيدجر» يختم رسالته عن النزعة الإنسانية بقوله «إنما اللغة لغة الوجود، كما أن السحب سحب السماء!»
12
في كتابه «الوجود والزمان» وضع «هيدجر» اللغة في سياق جديد، وذلك حين قام بتحليل الوجود في العالم بوصفه فهما وتأويلا، واللغة هي تلفظ الفهم الوجودي، وهي وثيقة الصلة بالفهم بحيث يصبح التفكير المنطقي والتلاعب التصوري بموضوعات العالم أمرا ثانويا واشتقاقيا بالمقارنة باللغة في السياق الحي للتلفظ الأولي للفهم، ومنذ «الوجود والزمان» أدرج «هيدجر» المنطق والقضايا تحت تصنيف الفكر الحضوري بينما جعل اللغة، في جوهرها الحقيقي كتلفظ بدئي للفهم التاريخي الموقفي، شيئا ينتمي إلى ماهية الإنسان وطريقة وجوده، ومن هذه الزاوية أمكن ل «هيدجر» أن يهاجم النظريات التي ترى اللغة مجرد أداة للاتصال والتواصل.
يحتل موضوع اللغة موقعا حاسما في كتاب «مدخل إلى الميتافيزيقا» الذي يكرسه «هيدجر» لبحث السؤال «ما هو الوجود؟» ويعود فيه إلى شذرة من بارمينيدس وجد فيها الإقرار بأن الوجود لا ينفصل عن فهم الوجود، فالوجود والفهم شيء واحد، مثلما أن الوعي وموضوعه شيء واحد عند بارمينيدس، يعني ذلك أنه «ثمة وجود فقط عندما يكون هناك ظهور، لا تحجب، انكشاف»، ومثلما أنه لا يمكن أن يكون هناك وجود بدون فهم، ولا فهم بدون وجود، كذلك لا يمكن أن يكون هناك وجود بدون لغة، ولا لغة بدون وجود.
يتساءل «هيدجر»: هب الإنسان لم تكن لديه معرفة مسبقة بالوجود، لم يكن لديه معنى غامض للوجود، فهل كان ذلك سيؤدي إلى نقصان لغتنا لاسم وفعل (فعل الكينونة) ليس إلا؟ ويجيب «هيدجر»: كلا، بل لن تكون هناك لغة على الإطلاق، ولن يتسنى لأي وجود، بما هو كذلك، أن يكشف عن نفسه في كلمات، ولن يعود بالإمكان استحضاره أو الحديث عنه في كلمات، ذلك أن الحديث عن الوجود، بوصفه وجودا، لا بد أن يتضمن فهمه مقدما كوجود، أي فهم وجوده.
ومن الجهة الأخرى، لو لم تكن ماهيتنا تتضمن القدرة على اللغة، لكان كل وجود منغلقا أمامنا، بما فيه وجودنا نفسه، فبدون اللغة لما أمكن للإنسان أن يكون، وما أمكن أن يوجد بأي أسلوب يمكن أن نتخيله، و«هيدجر» يقول في ذلك بصريح العبارة: «أن تكون إنسانا هو أن تتكلم.» يقول «هيدجر» إنه لوهم عظيم إذن أن نظن أن الإنسان قد اخترع اللغة! فالإنسان لم يخترع اللغة، تماما مثلما أنه لم يخترع الفهم ولا الزمان ولا الوجود نفسه، «هل يعقل أن يكون الإنسان قد اخترع تلك القوة التي تغمره والتي بفضلها وحدها يمكنه أن يوجد كإنسان؟» وحتى الفعل الإنشائي للتسمية، تسمية الأشياء، هو استجابة من جانب الإنسان لوجود الموجودات.
Unknown page