ولم أكن أقل من صاحب البيت كلفا بالانسلال إلى غرفة الكتب والنظر إليها والقراءة فيها، بل كنت كما قدمت أتجاوز حظ صاحب البيت من هذا كله فأختلس الكتب اختلاسا وأخفيها بيني وبين ثوبي، وأخلو إليها في حيث لا أرى ساعات تقصر أو تطول، ولكنها كانت تمتلئ دائما باللذة والمتاع، وكنت قد لاحظت كتابا دميم المنظر قبيح الشكل، رديء الطبع والورق، يعكف عليه هؤلاء الشبان عكوفا متصلا، يستبقون إليه استباقا ويتنافسون فيه تنافسا ويشتد اختصامهم فيه، ثم ينتهون إلى أن يتفقوا على أن يتداولوه فيما بينهم لكل واحد منهم وقت معلوم، فدفعت إلى أن أعرف هذا الكتاب وأتبين ما يخفيه شكله الدميم وطبعه الرديء وورقه الحقير وجلده المبتذل البالي، من هذا السحر الذي خلب هؤلاء الشباب ودفعهم دفعا إلى التهالك عليه والتنافس فيه. وكثيرا ما التمست هذا الكتاب فلم أجده قريب المنال بين هذه الكتب المرصوصة المعروضة، فتبينت أن هؤلاء الشبان لا يكادون يفرغون من النظر فيه حتى يخفوه إخفاء، فلم يزدني ذلك إلا كلفا به وتتبعا له وإلحاحا في البحث عنه، وأعلم ذات يوم أن هؤلاء الشبان مدعوون إلى الغداء، وأن الغرفة ستخلو لي ساعات من نهار، وأني سأستطيع أن أبحث عن هذا الكتاب، وقد أقسمت لأجدنه ولأنظرن فيه ولأقضين معه أطول ما أستطيع أن أقضي معه من الوقت.
وقد انصرف الشبان إلى وليمتهم، وتخففت من أثقال ما كان علي من عمل، فانسللت مسرعة رشيقة سريعة النشاط إلى الغرفة، ومضيت في البحث غير قليل، وإذا أنا أظفر بما كنت أبتغي، فياللبهجة وياللغبطة، وياللسعادة وياللرضا! هذا الكتاب بين يدي، دميم الصورة، قبيح الشكل، حقير الورق، رديء الطبع، ولكن اسمه «ألف ليلة وليلة». وأنا أقرأ فيه وأنا أمضي في القراءة، وأنا أنسى نفسي وأنسى مكاني، ولكن ماذا أسمع وماذا أرى؟ هذا باب الغرفة يفتح في غير احتياط، وهذا رب الدار يدخل! فقد كان مثلي ينتظر أن تخلو له الغرفة ليقف من هذه الكتب موقف الإكبار، ولينظر إليها نظرة التقديس، وليمد إليها يده ملاطفا ملاعبا، ثم ليقرأ من أسمائها وسطورها ما يبهر به أصحابه إذا خرج إليهم آخر النهار، ولكنه يراني أنظر في الكتاب، وفي كتاب لم يتعود أن يراه! فهو يسألني ماذا أصنع، وما أنا وهذه الكتب؟ وأحاول أنا أن أخفي الكتاب الذي كنت أنظر فيه، ولكنه قد أسرع فأخذه من يدي، ثم زجرني زجرا عنيفا وطردني من الغرفة طردا.
على أنه لم يطل المقام في هذه الغرفة وإنما خرج منها بعد قليل ثائرا ساخطا، وأقبل على زوجه وفي يده هذا الكتاب فألقاه في وجهها إلقاء، واندفع في غضب لا حد له وفي شتم لا ينتهي ساخطا على زوجه المسكينة وعلى أبنائه البائسين، صابا عليها نذرا متصلة بالكوارث والأحداث، معلنا إليها في غيظ عنيف مرة وفي حزن أليم مرة أخرى، خيبة أمله في هؤلاء الأبناء الذين كان يظنهم محبين للعلم مؤثرين له متهالكين عليه، فإذا هم أصحاب عبث ولهو ومجون، وإذا هم ينفقون وقتهم في قراءة هذا الهذيان. ومن يدري! لعلهم ينفقون وقتهم في هذا أثناء إقامتهم في القاهرة على حين يظن هو أنهم يجدون ويعملون ويحصلون العلم، وهو إذن إنما يجد ويكد وينفق حياته وماله ليمضي أبناؤه في هذا السخف وفي هذا اللهو الآثم القبيح، وهم لا يضيعون وقتهم وجهدهم وجد أبيهم وكده وماله وأمله فحسب، ولكنهم يخربون بيت أبيهم بأيديهم كأنهم يجهلون أن هذا الكتاب لم يدخل بيتا إلا خربه تخريبا.
ثم يعود الرجل إلى غرفة الكتب فيقلب كل ما فيها تقليبا، وما يزال يبحث حتى يظفر بأجزاء الكتاب كلها، ثم يعود بها منتصرا ساخطا معا، ثم يمزقها تمزيقا، ولا يطمئن حتى يشعل فيها النار! وقد نغص يوم الأسرة فلم يذق الرجل ولا أهل الدار فيه طعاما.
وعاد الفتيان آخر النهار، فلا تسل عما سمعوا ولا عما رأوا، ولا عن صمتهم حين صمتوا ولا عن قولهم حين قالوا. ولكن النتيجة الأولى والأخيرة فيما أظن لهذا كله هي أني طردت من الدار طردا، ورجعت إلى بيت زنوبة وإلى غرفتها، فقضيت فيها أسابيع أنتظر ما يجري به القضاء، وما تنتهي إليه حيلة البستاني الذي ضوعف له الأجر.
الفصل الحادي والعشرون
«ستعملين إذا كان الغد يا آمنة، وستعملين عملا يرضيك كما لم يرضك عمل من قبله قط، لا تذكري بيت المأمور، ولا تذكري بيت فلان هذا الذي دفعتك الحماقة فيه إلى هذا الذنب العظيم، ستعملين عملا مريحا فيه مال كثير، ونعيم كثير، ومتاع كثير، ستعملين ... ستعملين وستسعدين، ليتني كنت مكانك، ليت سني تعود إلى حيث أنت من العمر، ستعملين وستسعدين ...!»
قالت ذلك وهي مضطربة أشد الاضطراب، مبتهجة أشد الابتهاج، يدفعها الفرح والمرح إلى أن تأتي حركات مختلطة فيها الرقص والقفز، وفيها الجد والهزل، وفيها الدعابة التي ليس بعدها دعابة، والمجون الذي ليس بعده مجون، حركات على الوجه، وحركات باليدين، وحركات في الجسم كله مجتمعا وفي أعضائه متفرقة، حركات هي إلى الجنون والاختلاط أدنى منها إلى الفرح المعتدل الذي يصدر عن نفس مرحة وعقل متزن، ولم تكتف زنوبة باضطرابها هي، وإنما انقضت علي انقضاضا، فقبلتني وأنهضتني وراقصتني ودارت بي حول الغرفة دورانا متصلا سريعا حتى انتهت بي وبنفسها إلى السقوط، كل ذلك وهي مندفعة في حركاتها وأحاديثها، لا تمكنني من أن أقول كلمة أو أنطق بحرف أو آتي من الحركات غير ما تريد، قد استحالت إلى جنية وأصبحت الغرفة ميدانا لاضطرابها المختلط الذي لم يقف ولم يهدأ إلا حين أسقطها الدوار وأسقطني معها على الأرض وحين أفاقت منه بعد قليل ...
هنالك استطاعت أن تتكلم كلام العاقلة، واستطعت أن أسمع لها وأن أفهم عنها، فعلمت أن المهندس في حاجة إلى خادم، وأنه قد أرسل يتقدم إليها في أن تلتمس له هذه الخادم، وأنه يمنحها على ذلك أجرا يختلف باختلاف الخادم التي تقودها إليه مع الصباح إذا كان الغد، وهي مبتهجة لي وهي مبتهجة لنفسها؛ فما أكثر ما قدمت لهذا الشاب من خدم! وما أكثر ما تقاضت منه أجر ما قدمت! ولكنها لم تقدم إليه يوما من الأيام فتاة مثلي، لها مثل ما لي من جمال الوجه، واعتدال القد، ورجاحة العقل، ومهارة اليد، والعلم بحاجات الشبان المترفين، سيكون أجرها مضاعفا، أما أنا فسأسعد السعادة كلها في هذا البيت الأنيق الجميل، وفي خدمة هذا الشاب المترف الغني الوحيد. لن تأمرني سيدة الدار، ولن ينازعني خدم الدار. سأكون وحدي صاحبة السلطان المطلق على بيت هذا الشاب وعلى قلبه إن أحببت! فقلبه مباح لمن يحسن الوصول إليه والاستيلاء عليه.
قالت ذلك وأرسلت شهيقها المرتفع، وشخيرها المنكر، وضحكها العالي، ثم انقضت علي وضمتني إليها ضما عنيفا وهي تقول: «إني لأغبطك وأحسدك معا؛ أغبطك لأني أحبك، وأحسدك لأني أود لو أكون مكانك وأظفر بالسلطان على ما يحتوي هذا البيت من نعيم.»
Unknown page