Din Insan
دين الإنسان: بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني
Genres
14
أما كيف تنشأ الأسطورة عن الطقس في رأي هذه المدرسة، فراجع إلى أن الطقوس التي تمارسها الجماعة منذ أقدم الأزمنة وتتناقلها الأجيال بحرفيتها، تفقد بمرور الوقت معناها وبواعثها الأولى، فتأتي الأسطورة لكي تقدم تبريرا لتلك الطقوس وتنسج حكاية من شأنها تزويد الطقس بمعنى وغاية؛ فأسطورة الإله آتيس، مثلا، الذي خصى نفسه تحت شجرة الصنوبر ونزف حتى الموت، ليست في تفسير هؤلاء إلا تسويغا لطقوس الخصاء التي كان كهان آتيس يمارسونها. وأسطورة قيام التيتان في التقاليد الديونيسية بتمزيق الإله ديونيسيوس حيا في هيئة الثور التي تحول إليها وهو يهرب من وجههم، ليست إلا تسويغا للطقس الذي كان يتم بموجبه في أعياد ديويسيوس تمزيق ثور حي والتهامه نيئا في ذروة الانفعال الطقسي. ولقد غدت أفكار هذه المدرسة الطقسية في تفسير الأسطورة مرفوضة اليوم، وعلى نطاق واسع.
يعتمد تطور النظام الميثولوجي لثقافة ما على تطور ونضج اللغة وأساليب التعبير اللغوية؛ ذلك أن الأسطورة في صيغتها الشكلية، كما ألمحنا منذ قليل، هي نوع من أنواع الأدب، بل ربما كانت أول أدب أبدعه الإنسان، والأدب لا تنضج أدواته ولا يشب عن الطوق إلا بتأصيل تقاليده. من هنا فإن الثقافات التي وصلت لغاتها إلى مراحل متقدمة كفيلة بالتعبير عن أدق المجردات، واغتنت وتنوعت لديها أساليب الصياغة الأدبية، تتكاثر عندها الأساطير وتتضخم إلى درجة تفوق حاجات معتقداتها الدينية، وهذا ما يؤدي في النهاية إلى تحول نوع من الأساطير إلى مجرد أدب دنيوي يعيش على هامش الدين ولا يتصل به إلا أوهى اتصال. ومثالنا الأوضح على ما نذهب إليه هنا هو الميثولوجيا الإغريقية؛ ففي ذلك الحشد الكبير من الأساطير التي تركها لنا الإغريق نستطيع تمييز ثلاثة أنواع من الأساطير؛ فهنالك نوع يتصل بالديانة الإغريقية اتصالا صميميا ويشكل جزءا من بنية المعتقد الديني، وهنالك نوع ثان قد ضاعت صلاته الدينية حتى لا نكاد أن نتبينها، هنالك نوع ثالث استقل عن الدين واستمر كأدب دنيوي لا علاقة له من قريب أو بعيد بالحياة الدينية، رغم امتلاء قصصه بالشخصيات الإلهية والشيطانية من كل نوع. ولا أدل على ابتعاد الأساطير الإغريقية عن منبتها الديني من عناية الأدباء والشعراء بإعادة تحريرها وصياغتها، خصوصا في العصر الروماني، بطريقة قضت على آخر لمسات القداسة التي تمتعت بها قديما. من هؤلاء نذكر الشاعر فيرجيل صاحب الإنيادة، والشاعر أوفيد في كتابه «التحولات»، وكلاهما عاش في القرن الأول قبل الميلاد. يقول أوفيد في مطلع تحولاته: «إن هدفي في هذا الكتاب أن أقص عن الكائنات التي تحولت عن أشكالها إلى أشكال أخرى مختلفة.»
15
وهو يفي بوعده حتى آخر صفحة في الكتاب الذي بقي حيا مدة ألفين من السنين وملهما للأدب القصصي في الغرب، حيث يقدم لنا حشدا من الأقاصيص التي تدور حول التحولات، أبطالها من الآلهة أو الجن أو البشر.
إن عدم التمييز بين هذه الأنواع الثلاثة من الأساطير في الثقافات، التي تطور فيها الأدب حتى بغى على الأسطورة، قد قاد بعض الباحثين إلى موقف متطرف، حيث فضلوا استبعاد الأسطورة برمتها من دائرة الدين على القبول بذلك الركام من القصص الأسطوري الذي يعزو إلى الآلهة كل نقيصة في طباع البشر. من هؤلاء ماكس مولر الذي يرى في كتابه «محاضرات في علم اللغة» ضرورة التفريق بين الميثولوجيا والدين، فيضع الأساطير خارج دائرة الحياة الدينية. فالدين عنده هو المعتقدات التي تقود حياة أخلاقية سوية وتنبع عن لاهوت عقلاني، أما الأساطير فإنها نمو عشوائي على هامش الدين يجري تحت تأثير اللغة، ومن شيمتها إلصاق نفسها دوما بالمعتقدات الدينية الأساسية وإفسادها. وعليه، فإن الاعتقاد بالإله زيوس مثلا، هو اعتقاد ديني بمقدار ما يعمل هذا الاعتقاد على رفعه كإله أعلى وأب للبشرية وحام للشريعة والعدالة، أما ما عدا ذلك، وخصوصا فيما يتعلق بمغامرات زيوس العاطفية وزيجاته المتعددة واختطافه لبنات وبني الناس إلى قمة الأوليمب، فهي مجرد أقاصيص ينبغي ألا تؤخذ على محمل الجد.
16
وفي الحقيقة، فإننا لا نستطيع قبول هذا الرأي المتطرف على علاته، كما أننا لا نستطيع في الوقت ذاته أن نقبل كل الأساطير الإغريقية باعتبارها الوجه الآخر للمعتقد الديني الإغريقي. كل ما في الأمر أنه يتوجب علينا عندما نتحدث عن الأسطورة أن نقول أي نوع من الأساطير نعني. ففي الوضع المشوش الحالي لعلم الأسطورة (كما أرى هذا الوضع)، حيث يتم جمع كل الأقاصيص التي تروى عن الآلهة تحت عنوان الأساطير، علينا أن نعترف بأن النظام الميثولوجي لأية ثقافة ليس شأنا دينيا بحتا، وأن هناك زمرة من الأساطير غير الدينية تقوم إلى جانب الأساطير الدينية وتخدم غايات معرفية ومجتمعية شتى؛ بعضها قد يخرج عن النظام الميثولوجي ويشق لنفسه طريقا مستقلا، وهذه هي بدايات تشكل الحكايات الخرافية والقصص الشعبي، وما إلى ذلك من أجناس أدبية ورثت الأسطورة ونهلت من منابعها.
أخيرا، سوف أعمد فيما يأتي إلى تقديم مثال حي، يرينا بجلاء كيف يعرض المعتقد الديني نفسه من خلال الأسطورة. والنص الذي اخترته هو أسطورة من الديانة المانوية التي بشر بها «ماني»، الذي ولد في منطقة بابل لأسرة إيرانية عام 216 ميلادية. ورغم أن الأساطير المانوية تحمل الطابع الشخصي لماني وفكره، إلا أنها تقوم على تقاليد دينية فارسية قديمة ومتجذرة. تهدف هذه الأسطورة إلى شرح المعتقد الثنوي المانوي، الذي يرى في الوجود تنازع قوتين كونيتين هما قوة الخير وقوة الشر، وأن الشر قد دخل في نسيج العالم منذ البداية، ولكنه سوف يزول تدريجيا مع تقدم الزمن. وقد اعتمدت هنا النص العربي للأسطورة، كما قدمه ابن النديم في «الفهرست».
17
Unknown page