ولما كانت سنة 1696 توفي الأمير أحمد المعني بدير القمر، فانقطعت به سلالة بني معن، وانتقلت الولاية على لبنان إلى الأمراء الشهابيين؛ وذلك أن كبار القوم في لبنان اتفقوا على تولية الأمير بشير ابن الأمير حسين الشهابي أمير راشيا من زوجه أخت الأمير أحمد المعني المتوفى في السنة التي ذكرت، والأمير بشير هذا هو أول بشير من آل شهاب ممن تولوا لبنان، وقد تولى الجبل من بعده بشير الثاني الذي فاق جميع الأمراء شهرة، ثم بشير الثالث، كما سيأتي بيان ذلك فيما بعد، قلنا إن كبار القوم اتفقوا على بشير حسين فتولى الجبل، وكان الوالي على صيدا يومئذ مصطفى باشا فدفع إلى يد الأمير بشير بناء على التماس كبراء لبنان زمام جميع الأنحاء التي كانت في يد الأمراء المعنيين، على أن يقوم الأمير بشير بأداء الضريبة المعينة مع الباقي مما سلف منها، ثم رفع أمر ذلك بعريضة إلى السلطان واتفق حينئذ أن عزل والي صيدا مصطفى باشا، وجعل مكانه أرسلان باشا المطرجي، فورد أمر السلطان قاضيا بالولاية للأمير حيدر الشهابي بعد الأمراء المعنيين؛ لأنه أحق بذلك من غيره لكونه ابن بنت الأمير أحمد المعني، وكان ذلك بسعي الأمير حسين ابن الأمير فخر الدين المعني الباقي من سلالة المعنيين محجورا عليه في إسلامبول، فأبلغ أرسلان باشا أمر السلطان إلى الأمير بشير، فسأل الأمير من الباشا أن يلتمس له من السلطان أن يكون واليا بالنيابة عن الأمير حيدر؛ لأن عمر حيدر لا يتجاوز الاثنتي عشرة سنة، فأجيب ملتمسه على أن يكون ذلك حتى يبلغ حيدر أشده فيتولى الجبل، وإذ ذاك فر الأمراء اليمنيون إلى دمشق؛ لأنهم تظاهروا بعدم قبول ولاية الأمير بشير، ولما كانت سنة 1700 خرج صاحب بلاد بشارة من شيوخ المتاولة عن طاعة أرسلان باشا، فأثار الباشا الأمير بشيرا عليه وأباح له الاستيلاء على صفد وأنحاء جبل عامل وبلاد بشارة وإقليمي الشحار والتفاح وبلاد الشقيف؛ فزحف الأمير على الشيخ بثمانية آلاف مقاتل من القيسيين، وأمسكه وأمسك أخا له ومدبرا لهما بعد أن فتك برجالهم فتكا ذريعا، ثم أرسل الثلاثة إلى الباشا، فقتل الباشا المدبر وسجن الأخوين، وجعل ولاية الأمير من صفد إلى جسر المعاملتين، وفي سنة 1706 توفي الأمير بشير، وقيل: توفي مسموما بسم دسه له الأمير حيدر في بعض الحلوى، فاجتمع كبراء اللبنانيين وساروا إلى حاصبيا ليولوا الأمير حيدر ابن الأمير موسى عليهم، وكان عمر هذا الأمير حينئذ إحدى وعشرين سنة، وكان له ولدان: الأمير ملحم، والأمير أحمد . فأتى الأمير دير القمر ونهج في الولاية على طريقة أسلافه، ولما تولى صيدا بشير باشا بدلا من أخيه أرسلان باشا فصل عن ولاية الجبل الأنحاء التي كان أخوه قد ضمها إليها على عهد الأمير بشير، ثم التمس الأمير حيدر من بشير باشا الولاية على بلاد بشارة، فمنحه إياها.
وفي سنة 1707 حدثت بين الأمير والمتاولة عند قرية النبطية، وهو سائر إلى بلاد بشارة للاستيلاء عليها، موقعة أبلى الأمير ورجاله فيها بلاء حسنا، وقتل كثيرا من قومهم، وجعل الأمير على بلاد بشارة محمودا أبا هرموش الدرزي نائبا عنه، ورجع إلى دير القمر غير أن محمودا هذا تغيظ عليه الأمير، وفر إلى صيدا ملتجئا إلى واليها بشير باشا، فحماه واستحصل له على لقب باشا، وجعل الأمير يوسف أرسلان بدلا من الأمير حيدر على الولاية ووجهه مع محمود باشا أبي هرموش لطرد الأمير حيدر، ففر الأمير حيدر بجماعته إلى الهرمل، واختبأ في مغار فاطمة هناك عند سفح الجبل، ولبث هنالك نحوا من سنة، وكان ذلك سنة 1710. وفي السنة التالية قدم من الهرم إلى المتن، ونزل عند المقدم حسين اللمعي، فاجتمع إليه الأعيان من القيسية في الشوف وغيرها من اللمعيين والعماديين والخازنيين، وأما محمود باشا فاستعان بوالي دمشق ووالي صيدا، فأمداه بالعساكر، فاضطرمت نيران الحرب بين محمود باشا والأمير في عين دارة، ففتك رجال الأمير في أعدائهم فتكا ذريعا، وسدوا عليهم جميع المسالك، وسار الأمير إلى الباروك ومعه أربعة من أمراء آل علم الدين اليمنية مأسورين: الأمير يوسف، والأمير علي، والأمير منصور، والأمير أحمد. فقطع أعناقهم بعد أن كان قد قتل الباقون من الأمراء ذوي قرباهم في الموقعة، فانقطعت بهم سلالة آل علم الدين، ثم أمر ببتر لسان محمود باشا وإبهاميه، وتجاوز عن الإجهاز عليه احتراما للدولة وصيانة لعادة البلاد، ثم سار إلى دير القمر، وتربع في دست الولاية، وأباح الزواج بينه وبين اللمعيين فتزوج بنت الأمير حسين اللمعي، وأزوج بنته من الأمير عساف ابن الأمير حسين وأقطعه قاطع بيت شباب وبكفيا، ثم تزوج من أم الأمير مراد وأقطعه نصف المتن وبسكنتا، فولد له منها الأمير عمر جد الأمير بشير الكبير المشهور، وأزوج أخته من الأمير عبد الله، وأحبه بما رأى منه من شدة البأس في وقعة عين دارة، ونزع بعض الإقطاعات من أيدي أصحابها، وسلمها إلى أهل أحلافه من القيسيين.
وفي سنة 1723 استقدم الأمير حيدر إليه الأمير أحمد منصور من حاصبيا، وأمر بقتله اغتيالا فقتل وهو نائم في دار الأمير حيدر من ولدي حيدر نفسه ملحم وأحمد، وسعى في قتل الأمير أحمد ابن عم الأمير نجم أمير حاصبيا على يد الأمير نجم نفسه، فنجا الأمير سيد أحمد من المكيدة فارا إلى دمشق. وفي سنة 1729 دفع الأمير حيدر زمام الولاية إلى يد ولده الأمير ملحم، وكان كفؤا لها، ولما كانت سنة 1732 توفي الأمير حيدر بدير القمر، وله من الولد تسعة: الأمير ملحم، والأمير أحمد، والأمير منصور، والأمير يونس، والأمير علي، والأمير حسين، والأمير معن، والأمير بشير، والأمير عمر. وهم من أزواج عدة، ففي أيام حيدر ارتفع شأن القيسية واندرس ذكر اليمنية، ولما تولى الأمير ملحم التمس من أسعد باشا العظم أن يتجاوز له عن ولاية بلاد بشارة؛ وذلك لغرض في نفسه وهو الانتقام من أصحاب هذه البلاد بني علي الصغير، فولاه إياها؛ فبطش بهم وأهلك من جماعتهم عددا كبيرا واعتقل مقدمهم نصارا ورجع به إلى لبنان، ثم افتداه إخوته بمال دفعوه إلى الأمير؛ فرضي عنه وعنهم وأعادهم عمالا على البلاد من لدنه، وقد عظمت شوكة الأمير وطفق جماعته يعتدون في البقاع؛ فحنق والي دمشق سليمان باشا العظم على الأمير ونوى الوقيعة في جماعته، فاعتذر الأمير لديه عنهم واسترضاه بوعد أن يدفع إليه خمسين ألف غرش، وجعل أخاه الأمير حسينا رهنا عند الباشا حتى يؤدي المبلغ، فقبل الباشا ورجع بعسكره إلى دمشق، ولما توفي أخو الأمير ملحم الأمير عمر وله قاسم ضم الأمير قاسما إلى عياله، وتولى تربيته بنفسه حتى نما وشب فجعله مدبرا لشئون عظيمة.
وفي سنة 1743 شاق أصحاب جبل عامل - المتاولة - والي صيدا سعد الدين باشا العظم، واعتدوا على جزء من ولاية الأمير - إقليم التفاح - فنهض الأمير إليهم، وقد أوعز إليه من الباشا أن قاتلهم، فقاتلهم وهزمهم شر هزيمة، وأسر أربعة من شيوخهم، ولم يخل سبيلهم إلا بفدية ستة آلاف غرش تدفع إليه، وفرسين من جياد الخيل في كل سنة. وفي سنة 1748 حدثت موقعة بين الأمير وبين أسعد باشا العظم عند بر إلياس، فانهزم الباشا وظل الأمير في أثره حتى الجديدة، فقتل من العسكر الدمشقي خلقا كثيرا، ثم رجع إلى البقاع فأحرق قراها بعد أن نهب وسلب كثيرا، ثم عاد إلى مقره منصورا، ثم أرسل إلى بلاد بعلبك عسكرا لنهبها، وخلع عاملها الأمير حيدر الحرفوش؛ لأنه تظاهر للباشا في تلك الموقعة، وجعل مكانه أخا حيدر هذا الأمير حسين الحرفوش؛ لأنه تظاهر له، وحدث ذلك كله وأسعد باشا متغيب بالحج، فلما رجع استشاط غيظا وهم بحشد المقاتلين للوقيعة في الأمير غير أنه لم يلبث أن ضرب عنقه بأمر من السلطان، وتولى مكانه أخوه سعد الدين باشا.
ولما كان الأمير قد رزح تحت أعباء نفقات كبيرة بسبب تلك الحوادث عجز عن أداء المال المضروب على بلاده إلى والي صيدا عثمان باشا الذي خلف سعد الدين باشا، فهم الباشا بمقاتلته؛ إذ أرسل فأحرق إقليم التفاح، وقطع شجر الزيتون عند نهر صيدا، وحضر الأمير بعسكره إلى مزبود من إقليم الخروب، ووافى الباشا من دمشق واليها ليتعاونا على مقاتله الأمير، إلا أنه عاد عثمان فكفل المال المطلوب من الأمير وافترقا متصالحين. وفي سنة 1749 ضمت بيروت إلى ولاية الأمير، فتوطنها الأمراء الشهابيون وبقيت الولاية عليها في يدهم إلى عهد الجزار، ثم حدث في السنة التالية أن المتاولة سطوا على إقليم جزين، وقتلوا اثنين من جماعة الشيخ علي جنبلاط، فكبر ذلك على الأمير وزحف إليهم برجاله، فالتقى ببني منكر منهم بجباع الحلاوة، فقتل ثلاثمائة رجل منهم واتبع بعسكره الفارين منهم فأهلكهم، وتناول بالوقيعة بقية تلك الديار، ثم عاد ووقعت فتنة بين جماعة الأمير وجماعة سليمان باشا والي دمشق أدت إلى النفرة بين الأمير والباشا، فاشتد غيظ الباشا وحنقه وشرع في حشد الجنود لمقاتلة الأمير، فتوسط للصلح بينهما مصطفى باشا القواس والي صيدا على أن الأمير يدفع إلى سليمان باشا خمسة وسبعين ألف غرش.
وحدث في سنة 1751 أن سخط الأمير ملحم على بني نكد، فألقى الفتنة بين كبيرين منهم - الشيخ خطار والشيخ كليب - فتعاديا بأشد ما كانا عليه من ذي قبل، فأخرجهما الأمير من البلاد فسارا إلى حاصبيا، فأحرق الأمير منازلهما بدير القمر، ثم عاد فرضي عنهما بشفاعة شفيع لديه. وفي سنة 1754 بلي الأمير بضعف في جسمه، فطمع فيه الطامعون من أهل البلاد، فاتفقوا مع أخويه الأمير أحمد والأمير منصور على خلعه، فاضطر الأمير ملحم أخيرا أن يتخلى لأخويه عن الإمارة لاستظهارهما عليه فتوليا، أما هو فنزل بعياله إلى بيروت وتوطنها، وعكف على درس الفقه وعاشر العلماء. وفي تلك السنة تنصر الأمير علي حيدر، ومن أبناء الأمير ملحم: الأمير قاسم، والأمير سيد أحمد، والأمير حيدر. ثم تنصر غالب الأمراء الشهابيين، ثم الأمراء اللمعيون.
وفي سنة 1755 تشاق الأميران أحمد ومنصور مع ابن أخيهما الأمير قاسم، وإذ كان الأمير ملحم واجدا على أخويه وفي صدره منهما حزازات أغرى ابن أخيه الأمير قاسما على الذهاب إلى إسلامبول واستحصال الولاية على جبل الشوف والولاية على بلاد جبيل، على أن تكون الأولى للأمير ملحم والثانية للأمير قاسم إقطاعين لهما ولأبنائهما من بعدهما، فسار الأمير قاسم إلى إسلامبول، ونزل الأمير على مصطفى باشا القواس الذي كان قد استقدم من صيدا وجعل وزيرا للدفترية، فأكرمه الوزير وسعى إلى قضاء حاجته؛ عملا بكتاب شفاعة رفعه إليه الأمير من عمه الأمير ملحم الذي كان الباشا يوده.
ولكن لم يلبث الباشا أن عزل عن منصبه بسبب تغيير في المناصب على أثر وفاة السلطان عثمان، وتبوأ السلطان مصطفى مكانه في الخلافة، ومع ذلك فقد ذهب مصطفى باشا بالأمير إلى علي باشا الحكيم قيم الدفترية، فترحب به علي باشا وأبقاه عنده مدة، ثم وجهه بكتاب منه إلى والي دمشق عبد الله الشيخي ليبقي الأمير عنده حتى تقضى له حاجته؛ فكان ذلك وأقام الأمير بدمشق تجري عليه الوظائف من يد الباشا واليها، وحدث في سنة 1759 أن توفي علي باشا، ثم عزل عبد الله الشيخي كل ذلك، والأمير قاسم لم تكن تقضى حاجته؛ فضاق صدره واشتد يأسه وقنوطه، فخرج من الشام وأتى فالوغا، ونزل ضيفا على الأمير شديد مراد اللمعي ولبث عنده حولا.
وفي سنة 1761 توفي الأمير ملحم في بيروت ودفن في جامع الأمير منذر التنوخي، وكان له ستة من الولد: محمد، ويوسف، وقاسم، وسيد أحمد، وأفندي، وحيدر. وفي أيامه حدثت الفتنة المشهورة بذات الحزبين اليزبكي والجانبلاطي، فأصحاب الحزب اليزبكي بنو عماد وجماعتهم وأصحاب الحزب الجانبلاطي بنو جانبلاط وأحلافهم، وكتب الأميران أحمد ومنصور إلى ابن أخيهما الأمير قاسم يريدان مصالحته، فعاهدهما على المصافاة والمسالمة وأقبل عليهما من فالوغا إلى دير القمر، ثم نزل إلى حدث بيروت وتوطنها، فورد عليه من إسلامبول براءة في الإمارة، وذلك بسعي مصطفى باشا إذ أعيد إلى العاصمة وتولى الصدارة، فكتب الأمير في ذلك إلى عميه وأرسل إليهما البراءة متجاوزا لهما عن الإمارة على أن يدفعا إليه نفقة الرسول الآتي بالبراءة من العاصمة سبعة آلاف غرش، فامتنعا وكتبا إليه بما يشف عن امتناعهما؛ فعزم إذ ذلك على إقرار نفسه في الولاية، واستعان بوالي صيدا نعمان باشا بعد أن أطلعه على البراءة، فأعانه وعززه بعسكر من عنده، فزحف الأمير قاسم بالعسكر إلى بيروت واستولى عليها؛ ففر عماه منها هاربين إلى الجبل، حيث جمعا الوجوه والأعيان، فكتب هؤلاء كتابا إلى الوالي يلتمسون منه عزل الأمير قاسم وإعادة الأمير أحمد وأخيه الأمير منصور إلى الولاية بمبلغ قدره خمسون ألف غرش يدفع إليه في جانب التماسهم؛ فأرسل وعزل الأمير قاسما وأعاد الولاية إلى الأميرين، فمضى الأمير قاسم عندما بلغه أمر العزل إلى البقاع، ولكن توسط في الصلح بينه وبين عميه أحمد ومنصور عمه الأمير علي والشيخ عبد السلام العماد، وأتى الأمير قاسم عين دارة التي كانت من إقطاعه وعقد الصلح هناك فأقام بها حولا.
وفي سنة 1762 أزوجه عمه الأمير منصور من ابنته، فولد له منها الأمير حسن والأمير بشير الملقب بالكبير وهو تاج فخر الأمراء الشهابيين بلبنان، ثم انتقل الأمير قاسم من عين دارة إلى بشامون حيث مكث أربع سنين، ثم مضى إلى بيروت فلبث بها أياما وانتقل منها إلى غزير فمكث سنتين، ثم توفي هنالك.
Unknown page