Descartes Muqaddima Qasira
ديكارت: مقدمة قصيرة جدا
Genres
علام كان الكتاب الجديد يحتوي؟ شأنه شأن «مقال عن المنهج» كان الكتاب الجديد يتمتع بأسلوب أدبي استثنائي؛ فكان من ناحية مناسبا لدعايته الرسمية كإثبات لبعض حقائق المسيحية، لكنه موافق أيضا، ولو ضمنا، للبرنامج السري لدحض مبادئ أرسطو؛ أي المبادئ التي يرتكز عليها التعليم المدرسي في مجال الفيزياء. كان كتاب ديكارت مذكرات عن فترة اعتزال فكري خيالي استمرت ستة أيام على غرار اعتزال القديس إغناطيوس في «تمارين روحانية» التي اقترحها لعمليات الاعتزال الدينية العادية.
ولكل يوم من الأيام الستة تأمله الخاص وصولا إلى ذروة التأملات في اليوم الثالث. وفي التأمل الثالث، يقنع ديكارت نفسه بأن فكرته عن الرب تتمثل في أنه كيان حقيقي وموجود. وهذه نقطة تحول ترتبت على تأمليه في اليومين المنصرمين. وفي التأمل الأول، يجعل ديكارت نفسه تتشكك في وجود «أي» شيء موجود بحق، ويرفض كل معتقداته عن الأشياء المادية باعتبارها زائفة، وحتى إيمانه بحقيقة الطبائع المادية البسيطة. هنا يعول ديكارت على فرضية الشك للمخادع الشيطاني. وفي التأمل الثاني، لاحظ ديكارت أنه لكي ينجح الشيطان في خداعه يجب أن يكون هناك وسط للخداع، ألا وهو الفكر؛ وإذا كان الوسط هو الفكر، فلا بد أنه هو نفسه مفكر حقيقي. ويقلص ذلك بقدر ضئيل مجال الشك الذي استحدثه في اليوم الأول من اعتزاله، لكن ديكارت لم يعمد إلى البحث عن أساس للإيمان بحقيقة الأشياء التي تتجاوزه وأفكاره أو خواطره إلا بعد أن أثبت وجود الرب.
ويدرك ديكارت أن الرب كامل، ومن ثم فهو خير إلى أقصى حد ممكن، ويستحيل أن يتصور المرء أنه يسمح للزيف بأن يبدو ظاهرا للعقل البشري الواعي المصر على إيجاد الحقيقة. والخطأ جائز عندما يشت انتباه العقل، أو عندما يتسرع في التوصل إلى النتائج، أو عندما تهيمن عليه العادات السيئة كعادة الخلط بين السمات الظاهرة للأجسام وخصائصها الجوهرية المتأصلة فيها. لكن لا يمكن أن يخطئ العقل، شريطة التحوط من أي خطأ، عندما يؤمن بوجود الأرقام أو الأجسام، أو يكتشف أن العلاقة بين كون الشيء ماديا وشغله أبعادا ثلاثة علاقة لا مراء فيها. وطالما أن الرب لم يخلقنا بحيث ننخدع بما لا يسعنا سوى تصديقه، فحقيقة أن الأشياء والعلاقات تخطر على العقل باعتبارها واقعا تدخل في تفسير كونها حقيقة في واقع الأمر. بحلول اليوم السادس من اعتزاله، يقرر ديكارت أنه من الحمق الشك في وجود الأشياء المادية وحقيقة الطبائع البسيطة. ويخلص ديكارت إلى أنه بينما قد لا تكون الأشياء المادية في الحقيقة كما تبدو للحواس، فإن خصائصها الرياضية واضحة ولا شك فيها، واللازمة المترتبة على ذلك أن الفيزياء الرياضية ممكنة.
توقع ديكارت أن يستغرق قراؤه في التأملات التي سجلها، وعقد الآمال على أن يعيدوا تصور الاستدلال الذي من خلاله استطاع استدعاء شكوكه وتبديدها ببطء. كانت التأملات مضنية، وقليلون ممن تصفحوا الكتاب، إن وجدوا، هم الذين يرجح أنهم انغمسوا في تفاصيله بالقدر الذي طالب به ديكارت؛ فقد نصح قراء التأمل الأول الذي قدم فيه أسبابا للشك في معظم الأشياء المسلم بصحتها دون تفكير بأن «يكرسوا شهورا، أو على الأقل أسابيع؛ لبحث الموضوعات الواردة فيه قبل المضي قدما» (7 : 130). ولقد قدر أن الأمر سيستغرق «على الأقل أياما قلائل»، ربما إضافة إلى الأشهر أو الأسابيع العديدة التي سيمضيها المرء في الاطلاع على التأمل الأولى، كي يعتاد القارئ على التمييز بين الأشياء العقلية والمادية بالسبل التي يستدعيها التأمل الثاني (7 : 131). كان ديكارت يعتقد أن هذه الأوقات الطويلة التي سيستغرقها القارئ في تدبره يبررها الأثر العلاجي للتأملات؛ فإذا استوعبت بشكل سليم فإنها على أقل تقدير ستكسر عادة أبدية؛ ألا وهي التسليم بالمعتقدات المتعلقة بطبيعة العالم المادي وطبيعة الإنسان المستخلصة من خبرته الحسية.
شكل 11-1: صورة لديكارت في صدر الطبعة التي صدرت عام 1701 لأعماله، ونشرت في أمستردام.
لكن المنوط بقراء «تأملات في الفلسفة الأولى» كان يتجاوز بذلهم الوقت والتركيز. كان الأمر يستدعي إجادة ضرب جديد من القراءة؛ فقد كان من الضروري في الأجزاء الأولى من الكتاب أخذ المزاعم على محمل الجد، والتي سيجري صرف النظر عنها لاحقا على اعتبار أنها غير معقولة. علق ديكارت على هذه الخصيصة في رد له على مجموعة من الاعتراضات على كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى» قائلا: «يسمح لنا الأسلوب التحليلي للكتابة الذي تبنيته في هذا الكتاب من آن لآخر بعمل فرضيات لم تحظ بالتمحيص الكامل؛ ويتجلى ذلك في التأمل الأول حيث طرحت العديد من الفرضيات التي أقدمت على دحضها في تأملات تالية» (7 : 249). استدعى الأسلوب التحليلي عادة ترتيبا محددا للطرح أو الجدل؛ فأي اعتبارات تعرض إما ستشرح نفسها، أو سيبررها ما تقدم عليها، على أن يكون التطور من الأشياء الظاهرة والسطحية إلى النقاط الأكثر عمقا وجوهرية. في «تأملات في الفلسفة الأولى»، أدخل ديكارت على الأسلوب «التحليلي» تعديلا جديدا؛ فالاعتبارات العميقة والجوهرية تجعل القارئ في واقع الأمر يعيد النظر، أو حتى يرفض ما تقدم.
الفصل الثاني عشر
الشك عند ديكارت
غالى ديكارت في تقدير إمكانات أغلب قرائه المؤيدين له؛ إذ توقع منهم أن يستطيعوا تتبع أسلوبه العجيب في كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى»، فقد أساء أتباعه تفسير الفرضيات الأساسية الواردة في الكتاب. وجمهوره الذي كان معاديا لأفكاره بالفعل انقض على أفكاره التي طرحها بغية تفنيدها وحسب وكأنها مؤكدة بشكل قاطع. لدينا معلومات وافية على ردة الفعل الأولى للكتاب؛ حيث التمس ديكارت تعليقات القراء على النسخ الأولى - ونشرت لاحقا تلك التعليقات مع الكتاب. ولقد بادر ديكارت نفسه بطلب «تصحيحات» من عالمي لاهوت في هولندا وفي السوربون، وأقنع ميرسين بجمع تعليقات من رجال الكنيسة وفلاسفة وعلماء آخرين. وفي نهاية المطاف، جمعت سبع مجموعات من «الاعتراضات»، وشكلت تلك الاعتراضات و«ردود» ديكارت عليها ملحقا كبيرا لكتاب «تأملات في الفلسفة الأولى » نفسه عندما ظهر الكتاب عام 1641.
وأصيب ديكارت بخيبة أمل بسبب طبيعة الاعتراضات، وأحيانا ما كان يرد عليها بنفاد صبر، وغالبا ما كان يشكو من أنه أسيئ فهمه. ولعل أكثر ردوده حسما تلك التي وجهها للمجموعة السابعة من الاعتراضات من اليسوعي بيير بوردين. كان بوردين مسئولا عن النقد الموجه إلى مؤلف ديكارت «مبحث انكسار الضوء» بالكلية اليسوعية في باريس. والآن فهو يعارض، من بين أشياء أخرى، اشتمال التأمل الأول على قائمة بالأشياء التي يمكن التشكك فيها. ألم يثبت التأمل الأول أن ديكارت فيلسوف متشكك مستعد لأن يذهب بالشك إلى أبعد مدى؟ وردا على ذلك، قال ديكارت في نهاية التأمل الأول:
Unknown page