77

Darajat Sitt

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

Genres

الرابع . فكلما زاد عدد أجهزة الكمبيوتر المزودة بنظام تشغيل محدد، زاد الطلب على تطبيقات البرامج التي تعمل عليه، وكلما زاد عدد البرامج المتاحة لنظام تشغيل معين، زاد الطلب على أجهزة الكمبيوتر التي تعمل بهذا النظام، ويعبر ذلك، في الواقع، إلى حد ما عن كيفية ارتباط سوق أجهزة الكمبيوتر الشخصية على نحو وثيق بنظام ويندوز الذي تقدمه شركة مايكروسوفت. ونظرا لريادة مايكروسوفت المبكرة في سوق نظم التشغيل (باعتبارها الخيار المفضل لدى شركة آي بي إم)، ولأنها تتمتع طبيعيا بميزة معينة مقارنة بأي جهة أخرى في إنتاج البرامج المتوافقة مع نظام التشغيل الذي تنتجه، فقد تمكنت من أن تستأثر بحصص ضخمة في كل من سوق نظم التشغيل وسوق التطبيقات، وعلى العكس، كان لزاما دائما على شركة آبل شق طريقها بجهد في ظل حقيقة أنها تتحكم في حصة صغيرة نسبيا من سوق نظم التشغيل، ومن ثم لم تتح أبدا أمام مستخدمي نظام التشغيل ماكنتوش نفس خيارات تطبيقات البرامج التي يتمتع بها نظراؤهم من مستخدمي نظام التشغيل ويندوز. (8) مؤثرات التنسيق الخارجية

بناء على ما سبق، فإن المؤثرات الخارجية على القرارات يمكن أن تنشأ لأن الشكوك التي تكتنف العالم الواقعي تدفعنا لالتماس المعلومات أو النصائح من نظرائنا (مؤثرات المعلومات الخارجية)، أو الاستسلام مباشرة للضغط الذي يمارسونه علينا (المؤثرات الخارجية القسرية)، ويمكن أن تظهر كذلك في ظل غياب الشك، ويرجع ذلك ببساطة إلى أن موضوع القرار نفسه عرضة للعوائد المتزايدة (مؤثرات السوق الخارجية)، لكن ثمة فئة متميزة أخرى من المؤثرات الخارجية على القرارات تنبع من بنية ألعاب المنافع العامة، مثل معضلة العشاء ومأساة المشاع.

تذكر هنا أن نجاح هذه الألعاب يكمن في أن «فعل الصواب» - سواء أكان ذلك إعادة تدوير المخلفات البلاستيكية أو الزجاجية، أم عدم الانتظار صفا ثانيا في شارع مزدحم (ولو لبرهة قصيرة فحسب)، أو ملء وعاء القهوة بعد الحصول على آخر كوب به - يكون مكلفا على المستوى الفردي، لكنه مفيد على المستوى الجمعي؛ فمن وجهة النظر الجمعية، إذا فعل عدد كاف من الناس الصواب، فسيصبح الجميع أفضل حالا؛ فلن تنفد الموارد الطبيعية في العالم، ولن تعاني الشوارع الازدحام المروري، ولن يصبح وعاء القهوة فارغا أبدا، أما من وجهة نظر الأفراد، إذا كان الآخرون يفعلون الصواب، فثمة إغراء دائم في الانتفاع مما يبذله هؤلاء الآخرون من جهود؛ أي جني ثمار مورد عام ما دون المساهمة فيه، بل الأسوأ من ذلك أنه إذا لم يكن هناك من يفعل الصواب، فما مغزى المحاولة إذن؟ سيظل الأمر يكلفك القدر نفسه من الجهد، لكن دون أن ينتفع به أي شخص.

يكمن جوهر المعضلة هنا في أن الأفراد هم من يتخذون القرارات، وليس الجماعات؛ لذا فإن معظم الاستراتيجيات التي تهدف للتغلب على المعضلات الاجتماعية تحاول تنظيم الأمور بحيث يكون لدى الأفراد حوافز أنانية لفعل ما هو مرغوب فيه على المستوى الجمعي. تطبق الحكومة ذلك بإصدار مرسوم ما؛ فتضع قوانين تهتم بالمواطنين، ثم تجبر هؤلاء المواطنين على الطاعة بقوة القانون. والأسواق، من جانبها، تحل هذه المعضلة أيضا، لكن على نحو مختلف تماما؛ فمن خلال وضع كل شيء رهن الملكية الخاصة، والسماح للمالكين بالمتاجرة في ممتلكاتهم بحرية، تتمكن الأسواق (كما أشار آدم سميث لأول مرة) من كبح جماح الأنانية الفردية لحساب المصلحة العامة.

لكن لا يمكن لكل شيء أن تنظمه الحكومة أو أن يقدم جاهزا على نحو يسهل المتاجرة فيه، وليس بالضرورة أن نرغب في أن تسير الأمور على هذا النحو؛ ففي ظل غياب حكومة عالمية تملك القوة لإخضاع جميع الدول، ودون اللجوء إلى أي حروب، لا وجود في الحقيقة لما يسمى معاهدة دولية نافذة (فلا يمكن الزج بدولة بأكملها في السجن ببساطة لامتناعها عن التعاون). ونظرا لأن الكثير من الاتفاقيات الدولية تعنى بكيانات غير قابلة للتجزئة بطبيعتها، كالمناخ والمحيطات، كثيرا ما يستحيل تحقيق التوافق بين المصالح الفردية والجمعية عبر قوى السوق فحسب. بالأحرى، لا بد من التوصل إلى الاتفاقيات الدولية والحفاظ عليها من خلال التعاون بين دول مستقلة ذات سيادة، بحيث تعرض كل منها منطقها ومصالحها على مائدة المفاوضات. ومعاقبة إحدى الدول الجانحة عن طريق تطبيق عقوبات تجارية، مثلا، يتطلب تعاون الدول الأخرى من خلال عدم انتهاك هذه العقوبات لتحقيق مصلحة خاصة.

وعلى الرغم من صعوبة تحقيق التعاون الجماعي والمحافظة عليه في غياب حكومة مركزية فعالة أو أسواق ذات أداء فعال، فإنه أمر ممكن، بل يحدث بالفعل، ليس فقط على الساحة الدولية، بل أيضا على مستوى المجتمعات والشركات والحياة الأسرية، ومع أن الشروط اللازم توافرها لظهور التعاون بين صناع القرار، الذين يتسمون بالأنانية، لا تزال موضوعا للنقاش، فقد ألقت الدراسات النظرية والتطبيقية على مدار العقدين الماضيين قدرا كبيرا من الضوء على هذا الأمر. تقوم كل هذه التفسيرات على متطلبين أساسيين؛ أولا: ينبغي على الأفراد الاهتمام بالمستقبل، ثانيا: لا بد أن يؤمنوا بأن أفعالهم تؤثر على قرارات الآخرين. فإذا كنت لا تعنى بما يحدث لك أو لغيرك في اللحظة التالية، فسيكون دافعك الوحيد للتصرف هو الأنانية، لكن عندما يكون للمستقبل أهمية، حينئذ فقط تكون التضحية قصيرة الأجل التي ينطوي عليها أي فعل يقوم به المرء تجاه الآخرين تستحق ما يبذل في سبيلها من جهد، لكن الاهتمام بالمستقبل ليس كافيا؛ فلن يمنحك المستقبل أي حافز لدعم مصلحة الجماعة، إلا إذا آمنت بأنه من خلال فعل ذلك ستتمكن من دفع الآخرين للانضمام إليك، والسبيل الوحيد - لتقييم قدر الاختلاف الذي يمكنك تحقيقه، وهل هو كاف - هو ملاحظة التصرفات الصادرة عن الآخرين. إذا بدا أن عددا كافيا من الناس يسيرون على النهج نفسه، فقد تقرر أن الأمر جدير بالمحاولة أيضا، وإن لم يكن فلن تفعل. نتيجة لذلك، فإن اتخاذ قرار بالتعاون من عدمه يعتمد اعتمادا أساسيا على ما سنطلق عليه «مؤثرات التنسيق الخارجية». (9) صناعة القرار اجتماعيا

دائما ما ننتبه نحن البشر بطبيعتنا، وعلى نحو حتمي، وأحيانا بلا وعي، إلى بعضنا البعض عند اتخاذنا القرارات بصورها كافة، بدءا من التافهة ووصولا إلى تلك التي تغير مسار حياتنا، وسواء أكان ذلك نابعا من حاجة لتعويض ما نفتقر إليه من معلومات، أو انصياعا منا لضغوط الأقران، أو استغلالا لمزايا وسيلة تكنولوجية مشتركة، أو محاولة منا لتنسيق مصالحنا المشتركة، غير أن هذا منظور لا نرتاح تماما عندما نرى أنفسنا من خلاله؛ فنحن نفضل النظر لأنفسنا كأفراد مستقلين قادرين على اتخاذ قراراتنا بأنفسنا بشأن ما نراه مهما، وبشأن الكيفية التي نعيش حياتنا بها. لقد اكتسبت فكرة الفرد المستقل، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، عددا كبيرا من الأتباع المخلصين؛ لتتحكم بذلك في حدسنا ومؤسساتنا، فيجب النظر إلى الأفراد ككيانات مستقلة، والتعامل مع قراراتهم على أنها تنبع من داخلهم، والنتائج التي تنعكس عليهم مؤشرات لما يتمتعون به من مواهب وخصال فطرية.

هذه فكرة جيدة، لا تدل ضمنا فحسب على المفهوم الجذاب من الناحية النظرية، القائل إنه يمكن للأفراد المستقلين أن يكونوا أشخاصا يسعون دائما، وعلى نحو عقلاني، إلى ما هو أمثل، لكنها تنطوي أيضا على رسالة ذات بريق أخلاقي تقول إن كل شخص مسئول عن أفعاله. مع ذلك، ثمة اختلاف بين أن يكون المرء مسئولا عن أفعاله، والاعتقاد بأن تفسير هذه الأفعال مقتصر على الذات وحدها، وسواء أكنا نعي ذلك أم لا، فنادرا - هذا إن لم يكن مطلقا - ما نتخذ قراراتنا على نحو مستقل ومنعزل تماما عما حولنا، فغالبا ما تتوقف هذه القرارات على الظروف المحيطة بنا، وماضينا، وثقافتنا. لا يمكننا كذلك عدم التأثر بالكم المذهل من المعلومات المتاحة دائما في كل مكان من حولنا، وتقدمها لنا في أغلب الأحيان وسائل الإعلام، وعندما نحدد طبيعتنا كأفراد، والظروف المحيطة بنا في حياتنا، تحدد هذه المؤثرات العامة كلا من الخبرة والتفضيلات التي نستحضرها في أي موقف نتخذ فيه قرارا، لكن عندما نوضع في الموقف ذاته، قد تكون خبراتنا وميولنا غير كافية لحسم قراراتنا بشأن ما نتخذه من قرارات، وهنا تتدخل المؤثرات الخارجية - سواء أكانت معلومات، أم عوامل قهرية، أم متعلقة بالسوق، أم تنسيقية - لتلعب دورا محوريا، وعندما تأتي لحظة الاختيار، فإن البشر كائنات اجتماعية في الأساس، وإذا تجاهلنا دور المعلومات الاجتماعية في عملية صنع القرار - أي تجاهلنا دور المؤثرات الخارجية - فسوف نسيء فهم العملية التي تحدد ما نقوم بفعله.

قرأت حديثا مقالا في إحدى الصحف عن الرواج المتزايد لثقب أجزاء من الجسم لوضع الأقراط بها ، خاصة بين المراهقين، ووفقا لما قاله الشباب المتمردون الذين أجريت معهم المقابلات، فهم لم يتخذوا القرار بثقب أجسامهم لإغضاب آبائهم غير المواكبين للعصر، أو حتى لأن أصدقاءهم يفعلون ذلك، لكن السبب الوحيد هو إرضاء أنفسهم! قالت إحدى الفتيات: «لأنني أردت ذلك.» حسنا، ربما يكون الأمر كذلك، لكن هذا التفسير المرتجل لا يفضي في الحقيقة إلا إلى السؤال: ولماذا أرادت ذلك؟ بلا شك ستدعي الفتاة المذكورة في ذلك المقال أنه كان اختيارها الحر؛ نظرا لكون الاستقلالية ميزة يسعى وراءها المراهقون الأمريكيون بصورة خاصة، لكن التكتل الزمني والجغرافي والاجتماعي المدهش لهذه القرارات «الحرة» يوحي بأنها كانت بعيدة كل البعد عن الاستقلالية، فانتشرت النزعة لثقب أجزاء الجسم كالنار في الهشيم، من مدينة إلى مدينة وبين المجموعات الاجتماعية في هيئة سلسلة من القرارات، يتخذها شخص لا يعي الإطار الأكبر الذي ينتمي إليه القرار الذي اتخذه، لكن الإطار موجود، وهو إطار يتشارك فيه عدد وافر من الظواهر الاجتماعية الأخرى، بدءا من النظم المالية المعاصرة وصولا إلى الثورات الشعبية، لكن، لفهم هذا الإطار، علينا التوغل أكثر في القواعد التي تتحكم في اتخاذ الأفراد للقرارات، وكيف، في هذه الأثناء، تصبح خياراتنا التي تبدو مستقلة، مرتبطة بعضها ببعض على نحو معقد.

الفصل الثامن

Unknown page