100

Darajat Sitt

الدرجات الست وأسرار الشبكات: علم لعصر متشابك

Genres

ما كان لافتا للنظر حقا آنذاك بشأن قوة وسط مدينة نيويورك هو أن آليات النجاة والتعافي التي استخدمها الأفراد والشركات والهيئات على حد سواء لم تكن استثنائية على الإطلاق، فبعد تعطل كل الإلكترونيات الرائعة الموجودة بغرفة متابعة الحالات الطارئة الخاصة بالعمدة، وقع عبء الاتصالات على أجهزة اللاسلكي الخاصة بجهاز الشرطة والأوراق التي كانت تنقلها سيارات الشرطة ذهابا وإيابا. وفي غياب توجيهات واضحة، ما كان من رجال الإسعافات الأولية وعمال البناء ورجال الإطفاء ممن هم خارج الخدمة، والمتطوعين، إلا أن وصلوا إلى مكان الحادث، وصاروا سريعا جزءا من عمل روتيني تبلور في الأساس على أرض الواقع، وليس وفقا لأي خطة محددة مسبقا، وعثر الناجون المتفرقون من كانتور فيتزجيرالد بعضهم على بعض بالمرور على منازل كل منهم. تذكر أنه في أعقاب الحادث مباشرة، لم يكن أحد على علم بما يحدث - يستوي في ذلك القوات والقادة العسكريون - ولم يعلم أحد كيف ينبغي الاستجابة له، ومن ثم فعل الجميع الشيء الوحيد الذي كان بوسعهم، وهو اتباع الخطط الروتينية وتطويعها على أفضل نحو ممكن لتراعي الظروف التي طرأت عليها تغيرات هائلة. كانت هذه الاستراتيجية مفجعة في بعض الحالات - فرجال الإطفاء الذين هرعوا أعلى السلالم ليلقوا حتفهم كانوا يتبعون أيضا خطط عملهم الروتينية - لكنها نجحت نجاحا مذهلا في أغلب الحالات. انتشر وصف «أبطال اعتياديون» مرارا وتكرارا في الشهور التالية للحادي عشر من سبتمبر، لكن من وجهة النظر المؤسسية، ما يجدر بنا تعلمه من جهود التعافي هو أن الاستثنائي ما هو إلا روتيني في الواقع.

مع ذلك، وبعد ستة أشهر، ظهر الجانب الضعيف للنظام نفسه، مع تأثر كل مجال تقريبا؛ بدءا من التأمين والرعاية الصحية، وصولا إلى النقل والترفيه والسياحة وتجارة التجزئة والتشييد والتمويل، بالهجمات على نحو سيئ؛ توقف عدد من المطاعم في جنوب مانهاتن عن العمل على الفور تقريبا بعد أن اضطرت لغلق أبوابها أياما، بل أسابيع، وأصاب الشلل أيضا العديد من عروض برودواي نظرا لانخفاض أعداد الجماهير، وفي خلال شهر كان آلاف العاملين في القطاع المالي قد سرحوا من وظائفهم، في حين خسر أغلب الآخرين علاواتهم السنوية، ومن ثم انخفض أجرهم بنسبة وصلت إلى 75 بالمائة. ومع أن القطاع المالي يشكل 2 بالمائة فقط من الوظائف في نيويورك، فإنه يسهم بنحو 20 بالمائة من دخل المدينة؛ لذا فإن نقصا بهذا الحد من شأنه أن يطول شتى أنحاء الجزيرة، ليؤثر ليس فقط على تجارة التجزئة والإيجارات، بل أيضا على الإيرادات العامة المستخدمة في تنظيف الشوارع وتأمين خطوط مترو الأنفاق والمحافظة على جمال الحدائق.

ما زاد الأمر سوءا هو أن السبب الرئيسي وراء وجود هذا العدد الكبير من الشركات المالية في جنوب مانهاتن هو وجود الكثير من الشركات الأخرى بالفعل هناك، لكن في العقد الأخير أو نحو ذلك، ومع تحول المعاملات المالية إلى النظام الإلكتروني على نحو متزايد وتراجع أهمية التقارب المادي، بدأت بعض الشركات في الانتقال بعيدا. والآن، بعد أن دمر مركز التجارة، وصارت الكثير من الشركات تواجه قرار نقل مقراتها في الوقت نفسه، قد يتحول هذا الابتعاد إلى نوع من الفرار الجماعي، وفي حال حدوث ذلك، فإن أغلب العائدات ذات الصلة التي صارت نيويورك تعتمد عليها قد تتجه إلى مسار آخر، لتعود المدينة إلى الركود المالي الذي اتسمت به في سبعينيات القرن العشرين ، لكن لا يعلم أحد بعد احتمالية وقوع هذا السيناريو الكئيب، وقد اقترح العديد من البدائل الأكثر تفاؤلا. ليس المقصود بهذا التنبؤ بأمور معينة، بل توضيح أن المدينة متصلة بصور يصعب توقعها، ومن الأصعب توجيهها.

لم يتوقف التأثير، بالطبع، عند ضفة نهر هادسون؛ إذ كان للهجمات تأثيراتها أيضا على المستوى القومي؛ فقد أعلنت خطوط ميدواي الجوية (التي يقع مقرها في كارولينا الشمالية) إفلاسها في اليوم التالي للهجمات، وبحلول نهاية الأسبوع، كانت كل شركة نقل في البلاد تمر بضائقة مالية قاسية، وسرح في النهاية ما يزيد عن مائة ألف عامل بالخطوط الجوية، وبدا اقتصاد الدولة، الذي كان على حافة الركود بالفعل، على وشك الانهيار إذا ما هجر المستثمرون الاستثمارات الأمريكية، وفشل المستهلكون في تجاوز الركود. وعلى الرغم من مرور الاقتصاد الآن بمرحلة تعاف واه وتراجع الاحتمالات الأكثر تشاؤما، فلا يزال حجم الخسائر الثانوية كبيرا. وبعد موسم كريسماس مخيب للآمال، تقدم أحد أكبر متاجر التجزئة في البلاد، وهو كيه مارت، بطلب حماية من الإفلاس، مخلفا أطنانا من الديون المعلقة، التي يمكن أن تؤدي بدورها إلى المزيد من حالات الإفلاس بين الدائنين الذين لم يحصلوا على مستحقاتهم بعد.

ما الذي يمكن استنتاجه مما سبق؟ هل كانت الهجمات أكثر إضرارا مما بدت عليه أول الأمر، أم أقل؟ هل تجاوب النظام بقوة؟ أم أن نقاط ضعفه الخفية قد اتضحت؟ في مقال شديد الإحباط، لكنه مثير للتفكير في الوقت نفسه، نشر في صحيفة نيويورك تايمز بعد الهجمات بأسابيع قليلة، أعلن بول كروجمان عن تنبؤاته بشأن تأثير الهجمات على الاقتصاد الأمريكي الواهن بالفعل، وقد اتسمت حجج كروجمان، كعادته، بالبلاغة والمنطقية والإقناع، بيد أن ملخص ما قاله هو أنه يوجد عدد من الأسباب الوجيهة لأن ينهض الاقتصاد الأمريكي من جديد ويتعافى في المستقبل القريب، هذا فضلا عن عدد مساو من الأسباب التي تحمل القدر نفسه من المعقولية لأن يسير الاقتصاد الأمريكي سريعا نحو ركود مدمر طويل المدى. لم يرغب كروجمان في أن يقول إنه ليس لديه أي فكرة عما كان يحدث (وقد مكنه تحوطه البارع من الادعاء بالتنبؤ الصحيح بصرف النظر عن النتيجة الفعلية)، لكن من الواضح تماما أنه لم تكن لديه أي فكرة بالفعل. يعد كروجمان أحد أفضل علماء الاقتصاد في العالم، خاصة فيما يتعلق بشرح الظواهر الاقتصادية الحقيقية، ومن ثم إذا لم يكن لدى كروجمان وزملائه في جامعة برنستون فكرة عن كيفية استجابة النظم الاقتصادية للصدمات الكبيرة، فيمكنك المراهنة على أنه ما من أحد آخر يعرف ذلك.

ما الذي يمكن لعلم الشبكات إيضاحه لنا، في حين لا يستطيع كروجمان ذلك؟ للأسف، الإجابة الصادقة عن هذا السؤال هي: «ليس الكثير.» من المهم إدراك أنه على الرغم من الخمسين عاما التي مرت على ظهور علم الشبكات، فإنه لا يزال يخطو خطواته الأولى على أرض الواقع، ولو شبهناه بالهندسة البنيوية لقلنا إننا لا نزال في مرحلة التوصل إلى قواعد الميكانيكا؛ أي المعادلات الأساسية التي تحكم ثني المواد الصلبة وتمددها وكسرها، أما المعرفة التطبيقية التي يمكن للمهندسين المحترفين الوصول إليها - الموائد والكتيبات وحزم التصميم الحاسوبية والقواعد الأساسية الخاضعة لاختبارات كثيرة - فلا تزال قابعة على المدى البعيد، وذلك وفقا لأفضل التقديرات، لكن ما يمكن لعلم الشبكات فعله هو تقديم أسلوب جديد للتفكير في المشكلات التقليدية؛ الأسلوب الذي أدى بالفعل إلى بعض الرؤى المدهشة. (2) دروس لعصر متشابك

أولا: علمنا علم الشبكات أن المسافة مفهوم مضلل. إن الفكرة القائلة إن أي فردين بطرفين متقابلين من العالم لا يجمع بينهما الكثير من الأمور المشتركة يمكن أن يتصلا من خلال سلسلة قصيرة من روابط الشبكات - في ست درجات فحسب - تكشف جانبا في واقعنا الاجتماعي أذهل جيلا بعد جيل، والتفسير - كما رأينا في الفصل

الثالث - مستمد من حقيقة أن عددا قليلا فحسب من الروابط يمكن أن يكون له تأثير كبير على الاتصالية في العالم أجمع، ومثلما رأينا، بعد ذلك، في الفصل

الخامس ، يكمن أصل هذه الروابط طويلة المسافات في الطبيعة متعددة الأبعاد للهوية الاجتماعية؛ فنحن نميل للارتباط بأفراد يشبهوننا، لكن لكل منا طرقه المستقلة المتعددة داخل إطار هذا التشابه، ونظرا لأننا لا نعرف من هم أصدقاؤنا فقط، بل نعرف أيضا طبيعة شخصياتهم، يصير بمقدورنا التنقل داخل الشبكات، بما في ذلك الضخمة منها، بواسطة عدد قليل من الروابط فحسب.

لكن حتى لو كان صحيحا أن بمقدور الجميع الاتصال بعضهم ببعض في إطار ست درجات من الانفصال وحسب، فما أهمية ذلك؟ ما مدى بعد الست درجات بأي حال؟ من منظور البحث عن وظيفة أو تحديد معلومات بعينها أو الحصول على دعوة لحفل ما، يعد أي شخص أبعد من صديق أحد أصدقائك، غريبا عنك. لذا، فيما يتعلق باستخلاص الموارد أو إحداث تأثير ما، فإن أي شيء على بعد أكثر من درجتين قد يكون بعيدا للغاية أيضا. قد نكون متصلين حقا، لكن ذلك لا يقلل من درجة غربتنا بعضنا عن بعض، ولا يجعلنا ننزع بالضرورة لتجاوز التكتلات البسيطة التي تحدد شكل حياتنا الفردية. في النهاية، لدينا جميعنا أعباء علينا تحملها، وانشغالنا بعدد المسافات الذي يفصلنا عن الآخرين لن يفيدنا في شيء، بل سيدفعنا إلى الجنون.

Unknown page