ثم خلق البهائم وحوجها إلى الغذاء وركب فيها الشهوات ، فكانت حركاتها بمقتضى شهواتها ، فأسقط عنها التكليف لعدم العقول ، وغلبة الشهوات .
ثم خلق الإنسان على خلقة البهائم في الغذاء والشهوات وعلى خلقة الملائكة في المعارف والمعقولات، فهو أبدا في جهاد دائم وحرب قائم بين الشهوات والعقل وفي الترك والفعل .
ثم إن الله تعالى وهب لبني آدم الدنيا ، وأمر بها لهم ، وأخصبها عليهم ، فغدوا ونشأوا في اللذات التي هي أضداد العقول ، فهم يتقلبون في ظلال البيوت والقصور ، وفي أصناف الثياب والحرير تحت ثمار الأشجار والأنهار ولذات الطعام والشراب ونكاح الأبكار والأتراب ، في أمن ودعة وراحة وسعة يتفكهون بحوادث الأخبار ، فهم في طول دهرهم في تنعيم أجسامهم وتوطية أبدانهم ، فقوي سلطان الشهوة ، ووقع سلطان العقل ، فرجع العقل في خدمة الشهوة ، فصار المالك مملوكا والمملوك مالكا ، فليس لهم إلا ما أبصروا بأعينهم ، فسلب الله تعالى هذا النعيم للعرب ، ورمى بهم في الصحاري والبراري والوهاد ، فليس لها غطاء إلا السماء ولا وطاء إلا الأرض ، يتبعون أذناب البهائم والأنعام بين أبل وبقر وغنم ومعز على وجه الأرض ، وأشجارهم العضاة والقتاد ، وأشرابتهم المياه والثمار ليس لهم من الشمس كن ولا أنيس إلا الجن ، ولا طيب إلا اللبن ، ولا معقل إلا الحيل ، ولا ملجأ إلا القن في آفات التن ( 1 ) ، ولا لباس إلا الصوف والوبر والجلود ، فمسخت الألوان وتغيرت الأبدان ، فأعقبهم الله تعالى بتوفير العقول وذكاء النفوس وعلو الهمم في الجود والكرم ، وحفظ العلوم بالسماع والكلم بدلا من النسخ بالقلم في قراطيس الأدم .
وقد أشار ابن المقفع إلى شيء من هذا . وكان ابن المقفع في النهاية من العلوم والحكم والأدب والشيم وخدم الولايتين : ولاية بني أمية ، وولاية بني العباس لحاجتهم إليه وإلى علمه .
Page 60