Casr Nahda Muqaddima Qasira
عصر النهضة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وقد صاحب مراجعة الفكر الجغرافي الأوروبي تحول في نسيج الحياة اليومية. فالتوابل التي تدفقت إلى أوروبا أثرت على نوعية وكيفية الطعام الذي يأكله الناس، كما فعل تأثير تدفق جوز الهند والبرتقال واليام والموز (من الشرق)، والأناناس والفول السوداني والببايا والبطاطس (من الأمريكتين). وكان مصطلح «التوابل» يمكن أن يشير أيضا إلى مجموعة محيرة من العقاقير (بما فيها الأفيون والكافور والقنب)، ومستحضرات التجميل والسكر والشموع. أما الحرير والقطن والمخمل فغيرت ما كان الناس يرتدونه، وغير المسك والزباد رائحتهم. كما جعلت الأصباغ مثل الأزرق والقرمزي وأصماغ اللك والزعفران والشب، من أوروبا مكانا أكثر إشراقا، بينما غير الخزف الصيني والكهرمان والأبنوس وخشب الصندل والعاج والخيزران والأخشاب المطلية؛ مداخل البيوت العامة والخاصة للأثرياء. وكان الخزامى والببغاوات ووحيد القرن وألواح الشطرنج والأدوات الجنسية والتبغ؛ قلة قليلة من البضائع الخاصة الثمينة التي وصلت إلى أوروبا من الشرق والغرب. وتغيرت لشبونة نفسها إلى واحدة من أثرى المدن الأوروبية، حيث كان من الممكن شراء أي شيء تقريبا. وكان الأمراء يتباهون بعرض الجواهر والدروع والتماثيل واللوحات وأحجار البازهر، وحتى الببغاوات والقرود والخيول؛ في خزائن الغرائب، وذكر ألبريشت دورر بحماسة حصوله على ملاحات أفريقية وخزف صيني وخشب الصندل وببغاوات وجوز الهند وريش.
في عام 1513، وصل البرتغاليون أخيرا إلى جزر الملوك، وهي مجموعة صغيرة من الجزر في الأرخبيل الإندونيسي كانت بمثابة المورد الوحيد للقرنفل. وأثار هذا الاكتشاف أزمة سياسية حادة. فمنذ معاهدة تورديسيلاس، كانت البرتغال تتعقب مصالحها التجارية إلى الشرق بينما كانت قشتالة تركز على التوسع إلى الغرب. وكان هذا الأمر لا بأس به عند رسمه على خريطة مسطحة من النوع الذي استخدم بوضوح وفق بنود معاهدة تورديسيلاس، لكن اكتشاف جزر الملوك أثار سؤال أين يقع مثل هذا الخط في نصف الكرة الشرقي، لو رسم حول العالم على الكرة الأرضية.
ثم دخل اسم الربان البرتغالي فيرنو دي ماجالهايس - المشهور اليوم باسم فرديناند ماجلان - في المنافسة. فقد كان يشك في أن ممرا غربيا إلى جزر الملوك سيكون أقصر من المسار البرتغالي عبر رأس الرجاء الصالح. إلا أنه واجه مشكلة المعارضة البرتغالية لهذه الخطة؛ لذا أعاد إحياء فكرة كولومبس الأصلية المرتبطة بالوصول إلى الشرق من خلال الإبحار غربا، وعرض الخطة على ملك قشتالة وإمبراطور هابسبورج المرتقب تشارلز الخامس. كان ذلك مقترحا تجاريا طموحا يتطلب الاستثمار في رحلة طويلة، وهو مثال نموذجي على الدافع وراء الكثير من رحلات «الاستكشاف» في عصر النهضة. لم يكن هدف ماجلان هو الإبحار حول الكرة الأرضية؛ فقد كان يقترح القيام برحلة تبحر غربا إلى جزر الملوك ثم تعود عبر أمريكا الجنوبية. وكان هذا من شأنه أن يجعل جزر الملوك ملكية لقشتالة على أساس حادثة سياسية وجغرافية سابقة، ويقطع إمدادات البرتغال من التوابل فائقة الجودة، ويحول ثروة لشبونة إلى قشتالة. لقد كان اختيار ماجلان الناجح للدعم المالي قائما على تفكير عالمي. فوصل إلى إشبيلية في عام 1519، ومعه «نموذج جغرافي واضح للكرة الأرضية يوضح العالم بأسره، وقد خط عليه المسار الذي اعتزم أن يسلكه». لقد كانت الكرات الجغرافية وليست الخرائط هي التي تأسر انتباه الجغرافيا السياسية والتجارية بمنتهى الدقة في العالم في القرن السادس عشر.
وسرعان ما أقنع ماجلان قشتالة، وبدأ رحلته البحرية في سبتمبر 1519. وبينما كان يبحر عبر ساحل أمريكا الجنوبية، كان على ماجلان أن يقمع تمردا، كما أنه فقد سفينتين بينما كان يبحث عن طريق عبر المضيق الذي يحمل اسمه الآن في طرف أمريكا الجنوبية. وقد أمضى ماجلان أسابيع يبحر عبر المحيط الهادئ الذي كان أكبر مما توحي خرائطه، وفي النهاية وصل الأسطول إلى جزيرة سامار في الفلبين في أبريل 1521، حيث تورط ماجلان في صراع محلي تافه وقتل مع أربعين من رجاله. وأبحرت بقايا الأسطول مرة أخرى ووصلت أخيرا إلى جزر الملوك، حيث حملت بالقرنفل والفلفل والزنجبيل وجوزة الطيب وخشب الصندل. وفيما كان طاقم الرحلة غير قادر على مواجهة رحلة العودة المخططة عبر مضيق ماجلان، اتفقوا على العودة عبر رأس الرجاء الصالح، معرضين بذلك أنفسهم لمخاطرة الأسر من جانب سفن الدوريات البرتغالية. مثل قرارهم هذا حدثا تاريخيا عالميا. وفي الثامن من سبتمبر عام 1522، وصل 18 شخصا من بين الطاقم الأصلي المكون من 240 بحارا عائدا إلى إشبيلية، وقد أكملوا أول إبحار مسجل حول الكرة الأرضية.
تسبب خبر رحلة ماجلان في اضطراب دبلوماسي. فتشارلز الخامس فسر الرحلة على الفور بصفتها تبريرا للزعم بأن جزر الملوك تقع في إطار نصف الكرة الأرضية الذي يخصه. وبدأ مستشاروه في صياغة قضية دبلوماسية وجغرافية لملكية الجزر. وقد استخدم القشتاليون بمهارة المرجع التقليدي لدعم زعمهم، وكان تقدير بطليموس المبالغ فيه بخصوص حجم آسيا في صالحهم. فمن خلال تكرار العرض غير الدقيق لآسيا في خرائطهم، دفعت قشتالة جزر الملوك إلى مسافة أبعد ناحية الشرق، وبالتالي إلى النصف الخاص بهم من الكرة الأرضية. قدم القشتاليون الخرائط والكرات الجغرافية التي «يتوافق فيها وصف ورسم بطليموس، والوصف والنموذج المكتشفان مؤخرا على يد العائدين من أقاليم التوابل ... وبالتالي فإن سومطرة ومالاكا وجزر الملوك تقع في إطار حدودنا».
فيما جلس التاجان في محاولتهما الأخيرة لحل النزاع في ساراجوسا في عام 1529، استعانت قشتالة برسام الخرائط البرتغالي ديوجو ريبيرو لعمل سلسلة من الخرائط والكرات الجغرافية، التي تضع جزر الملوك ضمن النصف القشتالي من الكرة الأرضية. كانت تلك هي اللحظة التي أصبح عصر النهضة فيها عالميا بالمعنى الحديث. أما عواقب رحلة ماجلان فكان معناها أن الكرات الأرضية الجغرافية صارت تمثيلا أكثر إقناعا لشكل ونطاق العالم.
وبينما لم تبق هذه الكرات الجغرافية، فإن خريطة ريبيرو التي تعود إلى عام 1529 لا تزال شاهدة على التلاعب بالواقع الجغرافي الذي كان سمة لهذا النزاع. لقد وضع ريبيرو جزر الملوك على مسافة 172 درجة ونصف غرب الخط الذي رسمته معاهدة تورديسيلاس؛ أي سبع درجات ونصف فقط داخل نطاق نصيب قشتالة. وقد منحت الخريطة تشارلز الخامس قوة التفاوض التي كان بحاجة إليها. وقد باع حقوقه في الجزيرة إلى البرتغاليين قليلي الحيلة؛ إذ كان تشارلز قد أدرك في الواقع أن المال النقدي قصير الأجل أفضل من الاستثمار التجاري طويل الأجل؛ وذلك بسبب التكلفة الهائلة والإمدادات الضخمة التي يتطلبها إنشاء طريق للتجارة الغربية إلى جزر الملوك. أما ريبيرو، فقد بنى مكانته باعتباره رسام الخرائط الأكثر تقديرا واحتراما لدى قشتالة، ظنا منه أن تلك الحركة من خفة اليد الجغرافية لن تكتشف على الإطلاق؛ لأنه من دون طريقة دقيقة لحساب خط الطول سيكون من المستحيل تصحيح الوضع الدقيق لجزر الملوك.
عوالم جديدة وقصص قديمة
بعد اكتشاف كولومبس لأمريكا، أدى تدفق الذهب والفضة إلى صناديق إمبراطورية هابسبورج الخاصة بتشارلز إلى تقزيم عائدات تجارة التوابل الشرقية. وبينما أسست البرتغال مواقع تجارية في الشرق - والتي كانت تحتاج إلى آليات جديدة من التجارة والتبادل - استخدمت إسبانيا قوتها العسكرية لتحويل أمريكا إلى مستعمرة ضخمة للعبيد والتعدين.
وفي عام 1521، وصل هرناندو كورتز إلى تينوتشتيتلان (مكسيكو سيتي اليوم) عاصمة إمبراطورية الأزتك، فقام بتدميرها بصورة منظمة، وقتل معظم سكانها أثناء ذلك بمن فيهم إمبراطورها مونتزوما. وفي عام 1533، قاد المغامر فرانثيسكو بيثارو مجموعة من الفاتحين والخيالة لاحتلال كوزكو (بيرو اليوم)، عاصمة إمبراطورية الإنكا. لم يكن لدى السكان الأصليين قوة تجارية أو عسكرية كافية لمقاومة الاجتياح العنيف والسلب والنهب من قبل الإسبان، الذين فرضوا تدابير شبه إقطاعية على الأقاليم التي غزوها تعرف باسم «إنكومياندا». وقد تضمن هذا تقسيم مجتمعات محلية صغيرة بين المراقبين الإسبان، الذين كانوا يقدمون «مصدر رزق» استغلالي بصورة وحشية (كان في الواقع عملا شاقا بلا مقابل) وتعليما مسيحيا.
Unknown page