Casr Nahda Muqaddima Qasira
عصر النهضة: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وهذا النوع من الممارسة التجارية العربية الذي استعاره فيبوناتشي اعتمد على تطورات عربية سابقة في الرياضيات وعلم الهندسة. فعلى سبيل المثال، تم اعتماد المبادئ الأساسية لعلم الجبر من مصطلح عربي للتعويض يسمى الجبر. وفي حوالي عام 825م، قام عالم الفلك الفارسي أبو جعفر محمد بن موسى الخوارزمي بتأليف كتاب تضمن قواعد حسابية للنظام العشري سماه «كتاب الجبر والمقابلة». وأصبحت الترجمة اللاتينية لاسمه أساسا لمزيد من الدراسة لواحد من أهم الموضوعات الرياضية الحديثة: الخوارزمية.
اعتمدت المراكز التجارية في فينيسيا وفلورنسا وجنوة الأساليب الجديدة التي قدمها فيبوناتشي؛ حيث أدركوا أن هناك حاجة لوسائل جديدة لتتبع المعاملات التجارية الدولية التي تزداد تعقيدا. فقد كان سداد قيمة السلع غالبا ما يتم بسبائك من الفضة أو الذهب، ولكن مع زيادة المبيعات وارتباط أكثر من شخصين في الصفقة التجارية الواحدة، أصبحت هناك حاجة إلى طرق تجارية جديدة. وكانت الكمبيالة واحدة من أهم الابتكارات في هذا المجال، حيث كانت نوعا مبكرا من الأوراق المالية. وكانت الكمبيالة هي سلف الشيك بشكله الحديث، ونشأت من المصطلح العربي الذي كان يستخدم في العصور الوسطى «الصك». فأنت الآن عندما تقوم بتحرير شيك، تعتمد على الجدارة الائتمانية لك في أحد البنوك؛ فيقبل البنك هذا الشيك عندما يقدمه حامله للسداد، وبالمثل، كان التاجر في القرن الرابع عشر يدفع قيمة شحنة من البضائع عن طريق كمبيالة معتمدة من قبل عائلة تجارية قوية تقبل الكمبيالة عندما تقدم إليها، سواء في تاريخ لاحق محدد أو عند تسليم البضائع. وسرعان ما تحول أفراد عائلات التجار التي كانت تضمن هذه المعاملات الورقية إلى مصرفيين وتجار في نفس الوقت. وقام التجار، الذين تحولوا إلى مصرفيين، بكسب المال عن طريق فرض رسوم الفائدة على هذه المعاملات على أساس مقدار الوقت الذي يستغرقه سداد الكمبيالة، وكذلك من خلال التلاعب بسعر الصرف بين العملات الدولية المختلفة.
كانت الكنيسة في القرون الوسطى لا تزال تحرم الربا، الذي يعرف بأنه تقاضي فائدة ما على قرض. فالمعتقدات الدينية لكل من المسيحية والإسلام تحرم الربا رسميا، ولكن في الممارسة العملية وجدت ثغرات في كلتا الثقافتين على حد سواء لتحقيق أقصى قدر من الربح المالي، واستطاع التجار المصرفيون تمويه تقاضي الفائدة عن طريق إقراض المال بإحدى العملات ثم تحصيله بعملة مختلفة. وتبع هذه العملية وضع سعر صرف يسمح للتاجر المصرفي بتحقيق ربح من خلال نسبة مئوية من المبلغ الأصلي؛ وبهذا يحتفظ المصرفي بأموال بعض التجار «كوديعة »، على أن يوفر بذلك «ائتمانا» كافيا يمكن التجار الآخرين من قبول كمبيالات التجار الذين يودعون المال لديه، على اعتبار أن تلك الكمبيالات شكل من أشكال النقود في حد ذاتها. وكان هناك حل آخر يتمثل في توظيف التجار اليهود للتعامل مع معاملات القروض، والقيام بدور الوساطة التجارية بين أتباع الديانتين، وذلك لسبب بسيط هو أن اليهود لم يكن لديهم أي حظر ديني رسمي ضد الربا. ومن هذا الحدث التاريخي نشأت الصورة النمطية المعادية للسامية ضد اليهود، ونزعتهم المزعومة نحو التمويل الدولي، وكان ذلك نتيجة مباشرة لنفاق بعض المسيحيين وبعض المسلمين.
وقد وضعت الثروة المتراكمة ومكانة التجار المصرفيين أسس السلطة السياسية والإبداع الفني الذي كان من أبرز سمات عصر النهضة الأوروبية. وكانت أسرة ميديتشي، التي هيمنت على الساحة السياسية والثقافية في فلورنسا طوال القرن الخامس عشر، قد بدأت كتجار مصرفيين. وفي عام 1397، أنشأ جوفاني دي بيتشي دي ميديتشي «مصرف ميديتشي» في مدينة فلورنسا، الذي سرعان ما أتقن فن القيد المزدوج في مسك الدفاتر والمحاسبة والإيداع والتحويل المصرفي والتأمين البحري وتداول الكمبيالات. كما أصبح مصرف ميديتشي «المصرف الخادم للرب»، وذلك عن طريق تحويل الأموال البابوية في جميع أنحاء أوروبا. وبحلول عام 1429، قال الباحث في العلوم الإنسانية والمستشار الفلورنسي بوجيو براشيوليني بأن «المال ضروري كالأواصر التي تحفظ كيان الدولة»، وأنه «مفيد للغاية، بالنسبة للرفاهية العامة وللحياة المدنية». وبعد أن درس تأثير التجارة والتبادل التجاري على المدن حق له أن يحتفي «بالعديد من المنازل الرائعة والفيلات المتميزة والكنائس والأعمدة والمستشفيات التي تم بناؤها في عصرنا» بالأموال التي جمعتها عائلة ميديتشي.
الشرق يلتقي بالغرب
شكلت التجارة الدولية والممارسات المالية الجديدة ملامح ما كان يصنعه الناس وما يستهلكونه طوال القرنين الرابع عشر والخامس عشر. ففي عام 1453، انتهت حرب المائة عام بين إنجلترا وفرنسا. وكانت إحدى نتائج السلام تكثيف التجارة بين شمال وجنوب أوروبا. وعلى الطرف الآخر من أوروبا شهد عام 1453 حدثا تاريخيا آخر لا يقل أهمية عن انتهاء الحرب؛ حيث قامت الإمبراطورية العثمانية الإسلامية بغزو القسطنطينية. وقد شكل سقوطها في يد القوات العثمانية تحولا حاسما في القوة السياسية الدولية؛ إذ أكد ذلك على مكانة الإمبراطورية العثمانية كواحدة من أقوى الإمبراطوريات في أوروبا، ولاعب أساسي في تشكيل الفن والثقافة اللاحقين في عصر النهضة.
ففي ربيع عام 1453، ضرب أكثر من 100 ألف جندي حصارا على القسطنطينية، وفي مايو من العام نفسه، استولى السلطان محمد الفاتح الثاني على المدينة. فنظرا لأن القسطنطينية كانت عاصمة الإمبراطورية البيزنطية، فإنها كانت من آخر الروابط بين عالم روما الكلاسيكية وإيطاليا القرن الخامس عشر. كانت بمثابة قناة لاسترداد الجزء الأكبر من تعاليم الثقافة الكلاسيكية، ويرجع الفضل في ذلك أساسا لرعاية السلطان محمد؛ فقد قاده ارتباطه بالطموحات السياسية وانجذابه نحو الأذواق الثقافية لنظرائه الإيطاليين إلى توظيف متخصصين إيطاليين في الإنسانيات، ليقوموا «بالقراءة على السلطان يوميا من أعمال المؤرخين القدماء مثل ليريتيوس وهيرودوت وليفي وكوينتس كورتيوس، ومن سجلات البابوات، وملوك لومبارد»، فإذا كان عصر النهضة قد تضمن إحياء المثل والمبادئ الكلاسيكية، فإن محمدا الفاتح كان واحدا من أنصارها. فمكتبته التي لا يزال الكثير منها محفوظا في قصر الباب العالي (أو طوب قابي سراي) في إسطنبول، تفوقت على مثيلتها التي كانت في حوزة آل ميديتشي وسفورزا في إيطاليا، واحتوت مكتبته نسخا من جغرافيا بطليموس، وإلياذة هوميروس، وغيرها من النصوص الإغريقية والعبرية والعربية. لقد كان يقارن صراحة إنجازاته الإمبراطورية بإنجازات الإسكندر الأكبر، وكان يرى نفسه قيصرا جديدا، يتمتع بالقدرة على غزو روما، وتوحيد الديانات الكتابية الكبرى الثلاث: المسيحية والإسلام واليهودية.
على غرار العديد من قادة عصر النهضة الآخرين ممن لهم تطلعات إلى السلطة الإمبراطورية، استخدم محمد الفاتح العلم والفن والهندسة المعمارية ليزيد من مطالباته بسلطة سياسية مطلقة. فشرع في تنفيذ برنامج طموح للبناء تضمن إعادة التجار اليهود والمسيحيين والحرفيين ليسكنوا في المدينة، وأسس البازار الكبير الذي رسخ المكانة الرفيعة للمدينة كمركز تجارة دولي، كما غير اسم المدينة إلى إسطنبول، وقام بتجديد كنيسة آيا صوفيا، وحولها إلى أول مسجد سلطاني بالمدينة، وفي الوقت نفسه تعاقد مع مهندسين معماريين إيطاليين للمساعدة في بناء قصره الإمبراطوري الجديد، قصر الباب العالي. وكان الأسلوب المعماري الدولي الجديد - الذي كان قائما على الأنماط الكلاسيكية والإسلامية والإيطالية المعاصرة - يهدف إلى إنتاج ما أطلق عليه معلق عثماني «قصر يتفوق على ما دونه من القصور، ويكون أكثر روعة من جميع القصور السابقة من حيث المظهر والحجم والتكلفة والجمال». وسيصبح هذا الطراز العالمي الذي ولد في عصر النهضة محل تقدير لدى كل من المسلمين والمسيحيين على حد سواء، وهو ما أكده سفير فينيسيا، الذي أشاد بقصر الباب العالي باعتباره «القصر الأكثر جمالا، والأكثر تنعما بوسائل الراحة، والأكثر إعجازا في العالم». وعلى غرار الكثير من المباني والأعمال الفنية في عصر النهضة، كان قصر الباب العالي عملا إبداعيا أصيلا، ورمزا سياسيا من الطراز الأول في الوقت نفسه. ولا يمكن فصل الدافعين بعضهما عن بعض، فقد كانت تلك هي السمة المميزة لعصر النهضة.
لقد حفز ذلك التسابق الدولي بين الدول والإمبراطوريات الشرقية الغربية جيلا جديدا كاملا من المفكرين والكتاب والفنانين في عصر النهضة. وقدم العديد منهم خدماتهم لمحمد الفاتح، بما في ذلك الرسام الفينيسي جنتيلي بيليني الذي رسم صورة لمحمد الفاتح لا تزال معلقة في المتحف الوطني في لندن. وقد عاد بيليني إلى فينيسيا محملا بالهدايا من محمد الفاتح، و«سلسلة مشغولة على الطريقة التركية، تساوي في الوزن 250 كراونا من الذهب». وفي لوحة «القديس مرقص يعظ في الإسكندرية»، عند سفح منبر القديس مرقص رسم جنتيلي بيليني نفسه، حيث تدلت حول عنقه السلسلة التي أهداها له محمد الفاتح. لقد عرض بيليني بفخر ثمار رعاية محمد الفاتح له، واستخدم خبراته في إسطنبول ليضيف تفاصيل مميزة لتصويره للإسكندرية.
وسرعان ما أثر هذا التبادل على أسلوب ما نسميه الآن بفن عصر النهضة. فعندما ذهب الفنان الإيطالي كوستانزو دا مويسيز أيضا إلى إسطنبول للعمل لدى محمد الفاتح، استلهم لوحاته ورسوماته من التقاليد الفنية لكل من الفن الفارسي والفن العثماني. وما الرسم الذي تم تنفيذه بالقلم وألوان الجواش بعنوان «الكاتب الجالس» - والذي ينسب إلى كوستانزو - إلا دراسة عميقة لكاتب عثماني، وقد اكتمل الرسم بنقش لكلمات فارسية في الزاوية اليمنى العليا منه. وإن استخدام ألوان زاهية مسطحة، والعناية بأدق التفاصيل في الجلسة والملبس والتصميم، يظهر مدى استيعاب كوستانزو للمبادئ المختلفة للأساليب الفنية الصينية والفارسية والعثمانية. ويمكن ملاحظة التأثير المتبادل في كلا الاتجاهين في نسخة رائعة من رسم كوستانزو تنسب إلى الفنان الفارسي بهزاد الذي عاش في القرن الخامس عشر، والتي تحمل عنوان «بورتريه لرسام في زي تركي»، والتي رسمت بعد عدة سنوات من رسم كوستانزو. لقد تعلم بهزاد من الفنان الإيطالي المعاصر له، ولكنه غير بمهارة شخصية الكاتب إلى رسام، والذي يصوره وهو يعمل على نوع التصوير الفني الإسلامي الذي نسخه كوستانزو في الأساس. لقد استلهم كل فنان منهما عمله من الابتكارات الجمالية للفنان الآخر، مما يجعل من المستحيل الفصل في أي اللوحتين تحديدا «غربية»، وأيهما «شرقية».
Unknown page