ومضى النهار وسامان لم يعد. وفي اليوم التالي نهضت مبكرة وضفرت شعرها ولبست ثوبا أسود وتزملت فوقه بمطرف من الخز الأسود، وغطت رأسها بنقاب أسود ووجهها من وراء ذلك السواد كالقمر، لو أن في القمر تلك المعاني، أو لو كان فيه مثل تينك العينين الساحرتين!
وخرجت إلى الحديقة تتمشى بين أشجارها متشاغلة بالتنقل من شجرة إلى أخرى حتى وصلت إلى مقعد فقعدت واستغرقت في تأملاتها، وإذا بالقهرمانة تأتي مسرعة تقول: «سيدتي، أنت هنا؟»
قالت: «ما وراءك؟»
قالت: «جاء ... جاء الأفشين، وهو يطلب أن يراك.»
لم تستغرب جهان الخبر؛ لأنها كانت تنتظره بل فرحت بقدومه لتعرف غرضه عسى أن ترى وسيلة للنجاة من وصايته. فنهضت وسألت: «أين هو؟» قالت: «في الإيوان ينتظر قدومك.»
فمشت مشية الجلال كأنها ملك يحف به الأعوان لا تبالي ما ينتظرها لاعتمادها على قوة جنانها وعزة نفسها، حتى أتت القصر، فصعدت الدرجات المؤدية إلى الإيوان متشاغلة بمخاطبة القهرمانة في شئون لا أهمية لها، حتى أطلت على باب الإيوان فرأت الأفشين جالسا متصدرا، فلما رآها خف لاستقبالها، وهو يومئذ في نحو الستين من عمره وقد خضب لحيته حرصا على مظاهر الشباب . وكان طويل القامة كبير العينين مستطيل الوجه والعنق، وقد تجعد جبينه وبرزت وجنتاه، وعلى رأسه قلنسوة قصيرة حولها عمامة من الخز الموشى، ولبس قباء بني اللون تظهر السراويل من تحته ترف على قدميه، وفوق القباء جبة سوداء. تمنطق تحتها بمنطقة مرصعة علق بها سيفا قبضته مرصعة. ومشى لملاقاتها مشية معجب بمنصبه، يحسب الترحيب بها تلطفا أو تنازلا، فلما دنا منها ابتسم وقال: «مرحبا بعروس فرغانة، كيف أنت اليوم؟» ومد يده لمصافحتها فمدت يدها فأخذها وتباطأ في الإفراج عنها، فاقشعر بدنها وأحست بنفور دلها عليه قلبها ولكنها أجابته عن سؤاله فقالت: «إني في خير، تفضل اجلس.»
فتثاقل حتى جلست، ثم جلس على كرسي أمامها وعيناه لا تتحولان عن وجهها، فلمحت فيهما معاني زادتها نفورا منه فأطرقت حياء وترفعا، فحمل ذلك منها على محمل الحزن فقال لها: «إن المصيبة التي أصابتك كبيرة يا عزيزتي؛ لأن موت أبيك - رحمه الله - خسارة لا تعوض، وأنت تعلمين ما كان بيننا من صلات المودة، ويؤكدها أنه قد وكل إلي الاهتمام بشئونك بعده، ولم يفعل إلا لعلمه بمنزلتك عندي. ألم تسمعي ذلك منه في حياته ...؟ ألم يقل لك كم أنا معجب بتعقلك وذكائك.»
فاستغربت دخوله في الحديث على هذه الصورة، ولكنها سايرته فقالت: «كثيرا ما سمعت أبي يذكر مودتك ورفعة مقامك، والأفشين صاحب أشروسنة مشهور ليس في فرغانة ولا أشروسنة من لا يعرف اسمه أو سمع بأعماله.»
فسره إطراؤها وجرأه على التقدم خطوة أخرى نحو الغرض الذي طالما كتمه فقال: «لم أسألك هذا السؤال لأسمع إطراءك ومدحك وإنما أردت سماع الجواب عن سؤالي. فهل لم تسمعي من أبيك عما لك من المنزلة عندي؟»
فلم يفتها ما يعنيه أو يضمره، ولكنها تجاهلت وقالت: «لا أذكر أني سمعت شيئا من ذلك، ولا أظنك أحسنت الظن بي إلا لأنك تعدني من بعض أولادك كما تعد أبي أخا لك، فشكرا لك على هذا الإحساس، وهذا ما يشجعني على أن تجيبني إلى طلب لي عندك.»
Unknown page