فأطرق خجلا وقال: «إن العبد لا يستأهل أجرا إذا قام بخدمة مولاه، ويكفيه رضاه عنه.»
فالتفت الخليفة إلى الأفشين فقال هذا: «يندر يا أمير المؤمنين أن نرى مثل الصاحب في الشجاعة وصدق الخدمة.» وأخذ يطري أعماله يريد أن يمحو ما يخشى أن يكون قد خامره من إساءة الظن به. وعاد الخليفة نفسه إلى الثناء عليه، وأمر له بالهدايا والخلع. ولما انفض المجلس عاد ضرغام إلى منزله وعادت إليه هواجسه في شأن جهان. ولبث في انتظار ما يأتيه من حماد، فكان يقضي أكثر أيامه مع وردان يتحادثان فيما عسى أن يكون من أمر جهان وهيلانة.
وشاع في هذه السنة في سامرا أن «تيوفيل» ملك الروم خرج إلى بلاد الإسلام. وسمع بذلك ضرغام. فأرسل إلى صديقه وردان فجاء، فأخذا في تقليب الرأي فيما هو حادث وما قد يحدث، فقال له وردان: «إني أرى فتح البذ سبب خروج الروم لقتال المسلمين، فقد أنبأني بعضهم أن بابك لما ضيق عليه الأفشين وأشرف على الهلاك كتب إلى ملك الروم بأن جنود المسلمين مشغولون به، فالفرصة سانحة أمامه لاكتساح مملكة الإسلام، وربما كان لجهان يد في هذا التوجيه.»
قال: «تحدثني نفسي أنها مع هيلانة هناك.»
قال: «لو كانتا هناك لجاءنا الخبر من حماد ، فإنه يبحث عنهما حيث يكون ملك الروم. ولا بد من الصبر.»
قضى ضرغام في ذلك أياما على مثل الجمر حتى جاءه وردان ذات يوم مهرولا، وأومأ إليه أن يتبعه، فتبعه حتى انفردا في بعض جوانب الحديقة، ثم دفع إليه أسطوانة ملفوفة بمنديل من الحرير فحل المنديل وفتح الأسطوانة، فرأى فيها كتابا من الكاغد قرأ في صدره اسم حماد فخفق قلبه، وأخذ يتلوه وهذا نصه.
من حماد في عمورية إلى الصاحب ضرغام في سامرا
لقد طال سكوتي عليك، وأظنك مللت الانتظار، ولكني مكره على هذا؛ فإني قضيت أشهرا أبحث على غير هدى إلى أن بلغني أن تيوفيل ملك الروم قادم على «زبطرا»، فهممت بأن ألقاه هناك لعلي أجد ضالتنا، فما كدت أبلغ البلد حتى علمت أن الروم اكتسحوه وخربوه وسبوا النساء والأطفال. ثم أغاروا على «ملطية» وغيرها من حصون المسلمين وسبوا المسلمات ومثلوا بمن أخذوا من المسلمين؛ فسملوا أعينهم وقطعوا أنوفهم وآذانهم، وقد شاهدت بعض أولئك المجدوعين ورأيت الناس قد خرجوا من بلادهم في الشام والجزيرة فرارا من وجه الروم إلا من لم يكن له سلاح أو دابة. فلما رأيت ذلك عدلت عن الذهاب إلى «زبطرا» وتذكرت أن «ناطس» بطريق عمورية كان قد زار البذ في عهد بابك وعرف جهان. ولعها ذهبت إليه. وقد صدق حدسي؛ لأني علمت عندما دخلت عمورية أن جهان وهيلانة جاءتا رأسا من البذ للسعي في حمل البطريق ناطس على أن يتوسط لدى ملك الروم في نجدة بابك، فأنزلهما ناطس في قصره ووعدهما خيرا، ثم جاء الخبر بسقوط البذ وقتل بابك، فلم يبق لهما مأرب في أرمينيا كلها فبقيتا في عمورية. وقد حرص عليهما هذا البطريق حرصا شديدا ولا سيما جهان، وضيق عليهما فلا يسمح لهما بالخروج. ولعل جهان رضيت بالأسر عن طيب خاطر؛ إذ يئست من لقائك. وقد حاولت الاتصال بها لأطلعها على حالك وأبشرها بقرب لقائك فلم يتيسر لي؛ لأن القوم هنا شديدو الحذر من المسلمين، وإذا أساءوا الظن بأحد منهم قتلوه ومثلوا به كما فعلوا بأهل «زبطرة». فجهان وهيلانة مسجونتان الآن في قصر «ناطس» بطريق عمورية، وسأبذل جهدي في إبلاغ خبرك إليهما وإن كنت لا أتوقع نجاحا عاجلا.
وقد علمت أن الروم ينوون اكتساح مملكة الإسلام، فالذي أراه أن يسبقهم المسلمون ويكتسحوا بلادهم، وهذه عمورية التي تعد أمنع حصونهم لا أراها تمتنع على المسلمين لعلمي بمواضع الضعف في أسوارها، ولا أخالك بعد كتابي هذا إلا محرضا صاحبك على فتحها، فإذا فعلت فاجعل رايتك قطعتين مستطيلتين حتى أعرفها إذا نزل معسكركم أمام عمورية وأعرف مكانك والسلام.
وما فرغ ضرغام من قراءة الكتاب حتى تصبب العرق من جبينه وهاجت أشجانه وثارت عواطفه، ودفع الكتاب إلى وردان فقرأه وقال: «أرى أن قد تحتم المبادرة إلى العمل، ولا بد من ذهابي إلى عمورية.»
Unknown page