وأخيرا، بينما بدا الحاج بكير على شفا الإصابة بانهيار عصبي، احمر وجهه وأخذ يلهث في زاوية من الغرفة، عندما وصلا إلى حاجز في السعر لا يمكن تخطيه؛ ومن ثم استسلم يعقوب. «سبعمائة وخمسون.»
هنا خرج الحاج بكير من زاويته وصافح يعقوب، ثم بدأ يصدر الأوامر لفتى المتجر. وقبل أن تصبح ثمة فرصة للتفكير مرة أخرى، رص السجاد وتم تبادل النقود، وكانا - يعقوب والبك - في طريقهما للخارج.
وأثناء ركوب السيارة في الطريق إلى المنزل، بعد أن رفض البك مرة أخرى عروضه لرد ثمن أثواب إلينورا، سأل يعقوب عما تمتم به الحاج بكير بصوت خفيض.
فقال البك: «يفضل ألا تعرف.»
فكر يعقوب مرارا وهز رأسه بالموافقة وهو ينظر إلى إلينورا.
وقال: «أنت على حق، ربما علينا ألا نعرف.»
الفصل الثامن
زين سقف غرفة المقابلات الخاصة بالسلطان بتصميم مذهب باللونين القرمزي والأخضر، وهو شبكة متداخلة من الدوائر تذكره دائما بذيل طاووس يبسط في ضوء الشمس. وبالمقارنة ببقية القصر، كان المكان عبارة عن غرفة صغيرة، لا يزيد حجمها عن مسكن كبير الأطباء أو مطبخ صانع الحلوى، ومع ذلك كانت هذه الغرفة تلعب دورا محوريا في شئون الإمبراطورية؛ ففيها يستمع السلطان إلى الشكاوى والطلبات التي يحضرها رعاياه، وفيها يطالع التفاصيل اليومية لملكه ويتواصل معها. جلس جلالة السلطان عبد الحميد الثاني على أريكته يحيط به من كلا الجانبين زوج من حراس القصر الصم واضعا ساقا على الأخرى، منحنيا إلى الأمام كي يستمع إلى سنجق بك - حاكم - نوفي بازار وهو يعرض طلبه. يبدو أن أحد جامعي الضرائب الريفيين قد هوجم بشدة من قبل جمهرة من ملاك الأراضي وشنق في ميدان المدينة. وفي ضوء تلك الأحداث، سعى السنجق بك في طلب المساعدة العسكرية من القصر؛ حيث أكد أن كتيبة أو كتيبتين تكفيان لحفظ النظام.
كان من المستبعد أن تكلف القوات الملكية بفض نزاع بعيد كهذا لا علاقة لها به، ولكن لما كان السنجق بك قد قطع كل تلك المسافة من نوفي بازار كي يطلب هذا الطلب بنفسه، بدا صوابا أن يدعه يقدم التماسه. ولما كان الأمر يتطلب اتخاذ إجراء فوري، ظل الضابط العسكري السابق ذو الوجه الشبيه بالماعز يستعرض الموقف في غرفة المقابلات، متوقفا بين الحين والآخر كي يحك مؤخرة رأسه أو يمسح آثار اللعاب عن شفتيه. وقبل أن يكلف السنجق بك بإدارة نوفي بازار، كان قد خدم ثلاثين عاما في الفرقة الثالثة من الجيش العثماني؛ حيث اشتهر بالوحشية في المقام الأول؛ إذ يشاع - على سبيل المثال - أنه قد أمر بارتكاب مذبحة لمدينة بلغارية بأكملها لرفضها إيواء قواته. لم يكن هذا السلوك بالنسبة إلى السلطان عبد الحميد يستحق المكافأة، ولكن الجنرال سيبا أوغلو قد رشح السنجق بك تحديدا للمنصب ووافق الصدر الأعظم. ولكن للأسف، أثبت السنجق بك عدم كفاءته حتى الآن في الإدارة، فلم يكن قادرا على أي شيء حتى على قمع تمرد يعد الأبسط من نوعه بسبب الضرائب. إنه موقف آخر كان الأفضل للسلطان فيه أن يستمع إلى صوت عقله فقط، مرة أخرى يخيب أمله في مستشاريه.
اتكأ عبد الحميد على مرفقه للخلف وتفحص كم قفطانه، وفرك النسيج بين إبهامه وأصبعه الوسطى مستشعرا الخيوط الحريرية خيطا خيطا. ثمة العديد من الأمور الأكثر أهمية التي يمكنه هو وجمال الدين باشا أن يهتما بها. فبينما كانا يستمعان إلى طلب السنجق بك المزعج على نحو متزايد، كانت الحرب بين الصرب وبلغاريا تتصاعد، وكان اليهود والبولنديون يتعرضون للتهجير الجماعي من بروسيا. فلم يشغل نفسه بتمرد بشأن الضريبة في مكان ناء؟ كان أكثر قلقا بشأن الخلية الوطنية اليونانية التي اكتشفها جمال الدين باشا في سالونيك، أو التذمر المتصاعد للدستوريين الذين يدعون إلى تأسيس برلمان جديد. ولأنه ظل ذلك الوحش في ثوب رجل الإدارة، ترك السلطان لعقله العنان متذكرا العام الماضي عندما كان ينتقد كعادته مؤتمر القوى العظمى المثير للغضب الذي عقد في برلين. وبناء على طلب شخصي من بيسمارك، أرسل عبد الحميد فريقا من أفضل الدبلوماسيين لديه لمساعدة سعد الله بك في برلين، ولكن اتضح أن رجاله ليسوا سوى أحجار على رقعة الشطرنج، مجرد أصوات إضافية تدعم موقف بروسيا وتسانده. فبينما كانت القوى العظمى تقسم غنائم القارة، كان مبعوثوه يدخنون ويحتسون شراب «أكوافيت» الكحولي مع ممثلي السويد والنرويج. لقد أصبحت الإمبراطورية العثمانية العظيمة سابقا، التي كانت حدودها تمتد من بوابات فيينا حتى شواطئ الخليج الفارسي، والتي كانت موضع احترام ومهابة في جميع أنحاء العالم؛ أمة من الدرجة الثانية من الصيادين والسكارى.
Unknown page