أغلق الباب خلفه، وظلت إلينورا ثلاث دقائق كاملة تقف عند النافذة المفتوحة تحدق إلى ظلام غرفتها وهي تفكر في خطتها، ثم أغلقت النافذة وخلعت ثيابها وتسللت إلى الفراش. وقبل أن تطفئ الشمعة فكت الكيس الجلدي الناعم وحدقت بداخله. كانت به عملتا كوروس من فئة العشرة، وخمس عملات من فئة المائة جنيه. لم تكن ذات خبرة كبيرة بالنقود، ولكنها أدركت أن ذلك كاف.
رقدت إلينورا في الفراش تستمع إلى أصوات المنزل وهي تتلاشى، وصرير الأبواب وحركتها وهي تهدأ مفسحة المجال لأصوات خارجية أكثر خفوتا مثل هبوب الرياح عبر أوراق الشجر ووقع أقدام الحيوانات. بزغ القمر كمدينة بعيدة في الأفق مضيئا مكتبها ومقعدها ومائدة الزينة الخاصة بها بالضوء الأبيض الذي يميز أواخر الصيف. سوف تفتقد تلك الغرفة كما افتقدت غرفتها في كونستانتسا، ولكنها لن تستطيع البقاء. لا يمكنها ذلك. عندما ارتفع القمر إلى عنان السماء وصمت المنزل، تسللت إلينورا من الفراش وسارت بحذر حتى خزانتها. نحت فساتينها جانبا وأخذت السروال والقميص والطربوش والسترة التي لاحظت وجودها في يومها الأول في إسطنبول. وضعت المشابك في شعرها، والقليل من غبار الكحل أسفل عينيها، فتمكنت من أن تظهر بمظهر ساع ذي ملامح رقيقة بصورة مقنعة.
ثم أتى دور الخطاب. أخرجت ورقة من درج المكتب الأوسط، وغمست قلمها المفضل في المحبرة، ثم كتبت كلمة واحدة في أعلى الصفحة: «الوداع»، ثم وقعت باسمها ووضعت بصمة أصبعها. كان قلبها يخفق الآن أسرع، وأنفاسها تتلاحق. فتحت الدرج العلوي من خزانة الملابس وأخرجت مؤشر والدتها، ووضعته في جيب معطفها الداخلي. مدت أصابع قدميها وطقطقت فكيها، ثم وضعت كيس والدها الجلدي بجوار المؤشر. نظرت إلى نفسها مرة أخرى في المرآة، ثم مدت رأسها في الردهة وغادرت غرفتها.
وعند أعلى الدرج توقفت ونظرت إلى غرفة الجلوس. كانت غرفة كالكهف ذات أركان مظلمة وظلال تتراقص عند الحواف. أحكمت قبضة يدها على الدرابزين، وتسللت لأسفل الدرج على أطراف أصابعها وهي تتنفس من فمها بينما كانت تستمع إلى وقع أقدامها. وعندما وصلت إلى أسفل الدرج أصدر المنزل أنينا كما لو كانت قد خطت على جرح مفتوح، وامتدت السجادة أمامها كبحيرة من النار تتلألأ بانعكاسات ضوء القمر في الثريا. لمست الكيس في جيب معطفها وسرت رجفة في أوصالها، ثم واصلت طريقها أسفل القاعة الرئيسة حتى جناح الحريم مرورا بالأروقة المظلمة المزدحمة نزولا بالدرج، ثم عبر الباب الحديدي الصغير الذي وجدت أنه يقود إلى خارج إسطبلات البك. تركت الباب مفتوحا قليلا، وتسللت مرورا بمجموعة من الجياد التي تصهل خارج بوابات الإسطبل.
أصبحت خارج المنزل. كان الهواء يداعب كاحليها ولا شيء فوقها سوى السماء، صفحة مظلمة تتخللها لمحات من السماء الزرقاء التي تخفيها. تسلل قط أبيض في طريقها، وغمز لها بعينه الزرقاء الواحدة، ففهمت الأمر. كان العالم كبيرا باردا يفوح بالاحتمالات. كان سربها قد تشتت؛ فقد انتهت مهمته هنا. ألقت نظرة خلفها على منزل البك الأصفر الفخم، وهرعت أسفل الطريق الرئيس. لم تكن واثقة مما إذا كانت قد رأت خيال السيدة داماكان المنحني في نافذتها البارزة بالطابق الثاني، وشقت طريقها عبر الجسر المنير بضوء القمر نحو محطة سيركيزي. من هنا يمكنها أن تستقل قطارا إلى أي مكان في أوروبا، إلى باريس أو بودابست أو برلين أو سانت بطرسبرج أو براج. يمكنها أن تختبئ وتتسلل خارج التاريخ دون أن يلاحظها أحد.
خاتمة
في الثلاثين من أغسطس عام 1886، وبعد تسعة أعوام وأسبوع من مولد إلينورا كوهين، استيقظت إسطنبول على خبر اختفاء عرافتها. شوهدت الهداهد الأرجوانية البيضاء وهي تجثم على مدخل البازار المصري، وفي أفرع شجرة زيتون بالقرب من طريق لو بيتي شون دو مورت، وهي تعبر فوق المستشفى اليوناني القديم خارج بوابة يديكول. وأمسك فتى مقدام من فتيان البلاط بهدهد في سلة الخبز الخاصة بوالدته، ولكن للأسف سرعان ما مات الطائر عقب الإمساك به. أما بقية الهداهد، فقد شوهدت متفرقة تحلق في اتجاهات مختلفة.
وبناء على أوامر فخامة السلطان عبد الحميد الثاني تم إيقاف جميع المواصلات المغادرة للمدينة وتفتيشها، ووضعت الشرطة في حالة استنفار، وأعطي مسئولو السكة الحديدية في نطاق خمسين كيلومترا حول إسطنبول أوصاف إلينورا، وأجريت عملية تفتيش موسعة في البوسفور، وأعطيت رائحة إلينورا لمجموعة من كلاب كانجال من سيفاس. واعتقل كل من منصف بك والسيد كروم والسيدة داماكان للتحقيق معهم، ولكن لم يبد أن أحدهم لديه أي فكرة عن مكان إلينورا. لقد ذهبت. اختفت بلا أي أثر، ولم تخلف وراءها أثرا سوى خطاب وخزانة مليئة بالثياب.
وفي نهاية الأمر أقيمت جنازة وعادت الحياة إلى مسارها الطبيعي؛ عادت روكساندرا إلى كونستانتسا مع زوجها الجديد، وأنهى الكاهن مولر الفصل الدراسي في كلية روبرت، وحصل على منصب في ييل، وعاد منصف بك إلى تنظيم لقاءاته في مقهى أوروبا، واستمر السيد كروم في إبلاغ القصر بتقارير حول أنشطة سيده، وغادرت السيدة داماكان إسطنبول كي تحيا مع ابنة شقيقتها في سميرنا. وقرر السلطان مرتين طرد جمال الدين باشا، ثم وافق بناء على توصية من والدته على إعطائه فرصة أخيرة. وافتتحت مدرسة جديدة للفتيات في زيتينبورو، وأنشئ مسجد يلديز حميدي، وأحبطت خطة سكة حديد برلين-بغداد، ونشر روبرت لويس ستيفنسون روايته «الحالة الغريبة لدكتور جيكل ومستر هايد»، ونصب تمثال الحرية في ميناء نيويورك. وسار التاريخ في مساره كما لو كانت إلينورا كوهين لم تعبره قط.
وعلى مدار العقد ونصف العقد التاليين، استمرت الأقليات في الإمبراطورية في التذمر، وكذلك الدستوريون، ولكن السلطان تمكن من استرضائهم جميعا بمجموعة من الامتيازات التي أتت في وقتها المناسب. وظلت القوى العظمى وإدارة الدين العام تحيط بالإمبراطورية كغربان كثيرة، ولكن العلاقات الآخذة في التحسن بين إسطنبول ولندن منعت حتى أكثر الأطراف المتربصة إصرارا من الاقتراب. ولما كان القيصر قد تعرض للصد في البحر الأسود، فقد حول عدوانه إلى الشرق معززا السيطرة على كامشاتكا، وزاجا بالسفن الحربية اليابانية في أول الحروب الروسية اليابانية الثلاث. وفي نهاية الأمر تخلت فيينا عن «تجربتها الاستعمارية» في البوسنة، متنازلة عن السيطرة على المنطقة إلى حكومة انتقالية أنجلو روسية عثمانية، والتي تنازلت بدورها عن السيطرة على المنطقة إلى تحالف السلاف الجنوبيين. ومع نهاية القرن أدى التوتر المتصاعد بين لندن وبرلين إلى مجموعة من المناوشات البحرية المتزايدة في العنف في بحر الشمال، ولحسن الحظ تم تفادي الحرب الكاملة. وكما يعلم دارسو التاريخ جيدا، فقد أدى حل الصراع في بحر الشمال في نهاية الأمر إلى توقيع معاهدة ديلاوير (المعروفة أيضا باسم معاهدة القوى السبع)، وهي اتفاق عالمي على نزع الأسلحة البحرية اشتهر بالاسم الذي أطلقه عليه نائب الرئيس الأمريكي والأمين العام للبحرية مستقبلا تيودور روزفلت «معاهدة إنهاء كل المعاهدات». ودخلت قصة إلينورا كوهين طي النسيان، وأصبحت مجرد حاشية للتاريخ العثماني في أواخر القرن التاسع عشر، ثم خمد ذكرها تماما للأبد.
Unknown page