2
بدأ بوبر حياته الفكرية ماركسيا نشطا ومساعدا لألفرد أدلر السيكولوجي الشهير، ولكنه سرعان ما خاب أمله في الماركسية والأدلرية وتتبدد وهمه. وفي المقابل كانت اكتشافات أينشتين إلهاما عظيما له، وبخاصة في موقفها العلمي نفسه، ذلك الموقف الجسور المخاطر المفتوح للنقد: النقد الذاتي والنقد الخارجي. لقد كانت نظرياته جريئة بعيدة الاحتمال تخبر عن العالم خبرا محددا لا لبس فيه، وتعرض نفسها لأقسى الاختبارات، وتكشف صدرها لنصل الحقيقة، بل تحدد نقاطا بعينها وتقول: ها هنا مقتلي إن شئت قتلي!
أما التحليل النفسي والأدلرية فلم يجد فيهما بوبر هذه الأمارات العلمية . لقد كانا يشيران إلى كل بينة متسقة مع النظرية (أن بعض الناس لديهم أعصبة ناجمة عن دفعات جنسية أو صراعات مكبوتة، أو أن الناس مدفوعون في سلوكهم بعقدة النقص أو عقدة التفوق ... إلخ). هكذا كانت هذه النظريات «محققة»
Verified
بالمعنى الوضعي المنطقي. غير أن بوبر كان قد أدرك أن التحقيق لا يؤسس نظرية ولا يبرهن على شيء برهانا نهائيا. كذلك استرعت انتباهه تلك القدرة التي تتمتع بها هذه النظريات على تفسير كل كبيرة وصغيرة في مجريات الأحداث ومسارات السلوك أيا كانت وكيفما أتت، حتى تلك الأشياء التي تبدو للوهلة الأولى غير متسقة مع النظرية.
كان بوبر يسأل نفسه: ما هو الشيء الغائب عن هذه النظريات (أو أشباه النظريات ) والذي تتحلى به النظريات العلمية الحقيقية من مثل نظرية أينشتين في الجاذبية التي أيدتها ملاحظات إدنجتون أثناء كسوف الشمس؟ وكان الجواب قاطعا: «النظرية العلمية الأصيلة إنما هي النظرية التي لديها القدرة على تقديم تنبؤات يمكن من حيث المبدأ أن يتبين كذبها. قابلية التكذيب
Falsifiability
إذن، وليس قابلية التحقيق
Verifiability ، هي معيار العلم الأصيل وأمارته وسمته المميزة.»
أما عن التحقيق فإن بوسع أي نظرية أن تجد لها ما شاءت من الأدلة التي تتسق معها وتحققها. وتزعم معظم هذه النظريات أنها مشيدة أصلا على أساس من التفكير الاستقرائي؛ أي استقراء كل الحالات المعروفة واستخلاص تعميم يشملها جميعا. وماذا يكون التحقيق هنا سوى مجرد الإتيان بمزيد من نفس الصنف من الحالات؟! إن هذا من الوجهة المنطقية هو عقم لم يأت بجديد. أما المنهج المجدي عند بوبر فهو أن نفكر استنباطيا
Unknown page