وحياة أهل البادية مملوءة بالضنك حافلة بالشقاء. فانظر إلى حليمة تهبط مكة تستعين بابنها على أثقال الحياة، فيكلم لها خديجة فتمنحها بعيرا وأربعين شاة. وانظر إليها تستأذن عليه مرة أخرى، فإذا أدخلت عليه ورآها قال: أمي! أمي! ثم بسط رداءه فأجلسها عليه! ثم أدخل يده من دون ثيابها فمس صدرها مسا، ثم قضى حاجتها. ثم انظر إليه بعد أن عظم وارتفع شأنه ودانت له العرب كلها، وقد نصره الله يوم حنين على هوزان، فهزم الجند واحتوى المال وسبى الذرية والنساء، وقسم الغنائم بين المسلمين. وإنه بالجعرانة
2
صباح يوم وإذا وفد من هوزان يقبل عليه مسلما منبئا بإسلام من وراءه من الناس، وفي هذا الوفد عمه من الرضاعة، وإذا عمه يتحدث إليه فيقول: يا رسول الله، إنما في هذه الحظائر من كان يكفلك من عماتك وخالاتك وحواضنك، وقد حضناك في حجورنا وأرضعناك بثدينا. لقد رأيتك مرضعا فما رأيت مرضعا خيرا منك، ورأيتك فطيما فما رأيت فطيما خيرا منك، ثم رأيتك شابا فما رأيت شابا خيرا منك، وقد تكاملت فيك خلال الخير. ونحن مع ذلك أصلك وعشيرتك، فامنن علينا من الله عليك. فيجيبه: لقد استأنيت بكم حتى ظننت أنكم لا تقدمون، وقد قسمت السبي وجرت فيه السهمان
3
فما كان منه لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وأسأل لكم الناس. فإذا صليت بالناس الظهر فقولوا: نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله، فإني سأقول لكم: ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم، وسأطلب لكم إلى الناس. فلما صلى الظهر قام الوفد، فأتم ما أمر به، ووفى لهم بوعده، وشفع لهم عند الناس،
4
فردت عليهم نساؤهم وأبناؤهم، لم يأب ذلك إلا نفر من الأعراب اشترى منهم ما كان في أيديهم من السبي ورد على أهله.
قلت لمحدثي: فإن هذا الوفاء بليغ التأثير في النفوس، وأبلغ منه هذه الحيلة الطاهرة البريئة في استخلاص السبي من الذين ملكوه؛ فيها وفاء، وفيها رد للحرية على آلاف من الناس، وفيها إقرار للأمن والسلم في قبيلة ضخمة قوية من العرب، وفيها تخليص القلوب من الضغينة والموجدة والحقد، وتهيئتها لقبول الإسلام والنصح للمسلمين في صدق وإخلاص، قال محدثي: نعم! ولكن له وفاء آخر يملأ القلوب رحمة ويمزقها لوعة وأسى؛ لأنه وفاء المحب الصادق في الحب، والعاجز عن النفع الذي لا يملك لمن يحب خيرا. قلت: وكيف يجد العجز إلى هذا القلب العظيم سبيلا؟ قال: إن لله قدرا مهما تعظم القلوب فلن تغيره ولن تبدله. لقد كان أشد الناس برا بأمه ووفاء لعمه: مر بقبر أمه عام الحديبية فاستأذن ربه في أن يزور القبر. فأذن له، فزاره وأصلحه ومكث عنده حينا. ثم استأذن ربه في أن يستغفر لأمه فأبى عليه، فانصرف عن القبر باكيا كئيبا، وبكى المسلمون لبكائه، واكتأب المسلمون لاكتئابه، ودخل مكة عام الفتح ظافرا منتصرا. وبينا هو في بعض مواضعها رأى أصل قبر فعطف عليه وأقام عنده، واستأذن في الاستغفار لصاحب القبر فلم يؤذن له، فانصرف محزونا كئيبا، وبكى فبكى الناس. وما رأى الناس يوما أكثر باكيا من ذلك اليوم!
5
واختلط أمر هذا القبر على الرواة، فظنوه قبر أمه، وقبر أمه في الأبواء. ومن يدري! لعله قبر جده الشيخ. وعرض الإسلام على عمه وألح عليه، وكاد الرجل أن يقبل لولا حمية الجاهلية، فلما مات قال ابن أخيه: لأستغفرن لك، فلامه القرآن في ذلك لوما عنيفا.
Unknown page