Cala Hamish Sira

Taha Husayn d. 1392 AH
168

Cala Hamish Sira

على هامش السيرة

Genres

1

كان غض الشباب، معتدل الخلق، ناضر الوجه، مشرق الجبين. وكان عذب الصوت، حلو الحديث، لا تكاد تقع عليه العين حتى تهواه النفس، ولا يكاد صوته يقع في الأذن حتى يصبو إليه القلب. وكان حسن الزي معنيا بثيابه وشكله عناية ظاهرة، لا يكاد يراه الرائي حتى يعلم أن له حظا من نعمة، وفضلا من يسار. وكان طيب النشر، لا يمر بمجلس من مجالس قومه إلا قالوا هذا مصعب بن عمير مقبلا! يستدلون عليه بما يتقدم من بين يديه من عرف يتأرج به الهواء. كان أبواه يحبانه ويؤثرانه، وكانت أمه خاصة تقف عليه حبها وحنانها، وتختصه بعنايتها، وتحكمه في ثروتها الواسعة ومالها الكثير.

وكان لهذا كله أحدوثة قريش وموضوع أسمارها، تعجب بجماله البارع، وشبابه الرائع، وحسن بزته، وكثرة ماله، حتى كان النبي

صلى الله عليه وسلم

يتحدث عنه إلى أصحابه، ويعجب منه بما يعجب منه الناس؛ وكان سمح الخلق، رضي النفس، صافي الطبع، مهذب المزاج، فلم يكن يكلف بما يكلف به فتيان قريش من الصيد والقنص، ولم يكن يألف ما كان يألفه كهول قريش وشيوخها من حديث المال والأعمال، وإنما كانت قصاراه حياة هادئة وادعة، قوامها حسن العشرة وصفو الحديث.

أقبل ذات يوم على المسجد في الضحى، وكان فارغ البال، راضيا عن نفسه وعن الناس وعن كل شيء. وكان يتردد في جو مكة نسيم بارد يبعث في الأجسام نشاطا للحركة ، وفي النفوس ميلا إلى هذا التفكير الذي لا رزانة فيه ولا هدوء، وإنما هو تفكير سريع، أوضح مظاهره الحديث والحوار. وكان قد لقي طائفتين من الرفاق الذين خرجوا يدفعهم هذا النشاط إلى أن يلتمسوا ما ينفقون فيه فضل ما يجدون من قوة في الجسم والعقل. فأما إحداهما فكانت تتهيأ للصيد، وأما الأخرى فكانت تسعى إلى حانة من حانات اللهو عند رومي كان يبيع في مكة نبيذ الشام. دعته إحدى الطائفتين إلى الصيد فنفر منه، ودعته الأخرى إلى الشراب فامتنع عليها. كان لا يحس من نفسه حاجة إلى هذه اللذة الآثمة التي يجدها أصحاب الصيد في سفك دماء الحيوان البريء، وكان لا يجد راحة إلى هذا اللهو الذي يلعب فيه عقل العاقل وحلم الحليم بين الكئوس والأقداح. وأعرض عن أولئك وهؤلاء، ومضى أمامه إلى المسجد كأنه آثر الاستماع إلى أندية قريش وهم يتحدثون فيما يعرض لهم من الأعمال اليسيرة أو الخطيرة. على أنه لم يكد يبلغ المسجد ويتقدم فيه حتى سمع حوارا لا يخلو من عنف، فاستبشر ومنى نفسه ساعة قيمة خصبة. وما كان ألذ الحوار يشترك فيه شيوخ قريش إذا جدوا! وما كان ألذ الحوار يشترك فيه شيوخ قريش إذا هزلوا أيضا!

أقبل الفتى حتى دنا من أحد هذه الأندية، فجلس غير بعيد واستمع للقوم، فإذا هم يختصمون في هذا الرجل الذي أحدث في مدينتهم حدثا ليس منهم إلا كاره له ساخط عليه؛ لأنه يغير ما ألفوا من دين، وينكر ما ورثوا من سنة، ويؤلب الفقراء على الأغنياء، ويثير الضعفاء بالأقوياء، ويجمع إليه أخلاطا من الناس، فيهم الحر البائس، والرقيق اليائس، فلا يكاد يتحدث إليهم حتى يزيل ما بينهم من فروق، وإذا هم جميعا إخوان قد زال في صدورهم من غل، وصفا ما بينهم من صلة، وإذا هم يد واحدة لو أذن لها صاحبها وخلى بينها وبين الحركة لأحدثت في المدينة شرا عظيما. وهذا الرجل يجمع هؤلاء الناس إليه، فيعظهم وعظا غريبا لم يسمعوا مثله من كهانهم في مكة، ولم يسمعوا مثله من وعاظ العرب في الأسواق. وهم يستمعون إليه فيسيغون ما يقول وكأنهم يشربونه شربا، وإذا هم يبتهجون له حينا فتشرق وجوههم بشرا وتتوقد عيونهم أملا، وإذا هم يبتئسون له حينا آخر فتعبس الوجوه، وتتقطب الجباه، وتفيض الدموع حارة غزيرة حتى تبتل بها اللحى، ويجهشون بالبكاء فإذا صدروهم تضطرب لشدة ما يأخذ القلوب فيها من الوجيب. ما أجمل ما يعدهم ويمنيهم! وما أروع ما ينذرهم ويخوفهم! وما أشد سلطانه على نفوسهم وأبلغ استئثاره بعقولهم! ولئن خلي بين هذا الرجل وبين المستضعفين من قريش وأحلافها ومواليها ومن يلم بمكة من شذاذ الناس ليثورن بكل شيء، وليغيرن كل شيء. والقوم يختصمون في ذلك خصومة تختلف عنفا ورفقا باختلاف أمزجتهم وطبائعهم، فمنهم الثائر الحاد الذي يود لو أطلقت قريش يده فينهض إلى دار ابن أبي الأرقم هذه التي يجمع فيها محمد أصحابه إليه فيهدمها عليهم هدما، ولن يشق ذلك عليه إذا نهض معه نفر من فتيان مخزوم. ومنهم الشيخ الوقور الذي يذكر أمس ويفكر في غد ويكره لقريش أن يغير بعضها على بعض ويبطش بعضها ببعض، ويرى أن قريشا إنما سادت العرب لأنها أقامت أمرها على الشورى، وجعلت الفصل فيما يعرض لها من الشر لهذه الأندية التي تتألف من الملأ لا لبأس الأفراد والجماعات، ولا لسطوة الرئيس الذي ينفرد بالسلطان. وهو ينصح باستصلاح هذا الرجل وتقريب الأمد بينه وبين قريش، ولو تكلفت قريش في ذلك بعض المشقة وشيئا من المال.

والفتى جالس غير بعيد يسمع رفق الرفيق، وعنف العنيف، ويود لو علم من أمر هذا الرجل الذي يختصم القوم فيه أكثر مما يقولون. فينهض متثاقلا، ويخرج من المسجد ويسلك طريقه إلى دار ابن أبي الأرقم على الصفا. ولو أن الفتى سأل نفسه وهو يقطع الطريق بين المسجد وبين هذه الدار التي استقرت فيها الدعوة الجديدة عن هذه القوة العنيفة التي دفعته مع الضحى إلى المسجد، وصرفته عن رفاقه وهم يدعونه إلى الصيد، وصدفت به عن أصحابه وهم يرغبونه في الشراب، وانتهت به إلى ندي قريش فأسمعته ما كان بينهم من خصومة وحوار، ثم دفعته في هذه الطريق التي يسلكها الآن إلى حيث يتحدث محمد إلى أصحابه، لو أن الفتى سأل نفسه عن هذه القوة الغريبة التي تحكمت فيه، واستأثرت به منذ أصبح، لما وجد لسؤاله جوابا، ولا عرف لهذه القوة أصلا ولا كنها. ولكنه لم يفكر في شيء، ولم يسأل نفسه عن شيء، وإنما يمضي في طريقه حتى يبلغ الدار، فيطرق الباب طرقا رفيقا، فإذا فتح له دخل فحيا ثم جلس. والقوم ينظرون إليه فيعجبون لمنظره الرائع وزيه الحسن وشكله الجميل، وتحيا في نفس كل واحد منهم أمنية خفية، ولكنها قوية صادقة، يودون جميعا لو هدى الله هذا الفتى الوسيم الغني إلى الإسلام، فأصبح واحدا منهم، وشاركهم فيما يستمتعون به من هذه النعمة الغضة الشاملة، نعمة الإيمان بالله وبمحمد عبده ورسوله. إذا لازدانت جماعة المسلمين، ولاغتاظت قريش. تحيا هذه الأمنية في نفوس القوم جميعا في لحظة قصيرة كأنها خطف البرق، وتثبت في نفوسهم وتقوى، وإذا هي شعلة تتوقد بها هذه العيون التي تنظر إلى الفتى في حب ومودة، وكأنها تدعو نفسه إلى أن تتصل بنفوسهم. ويحس الفتى وقع هذه الأبصار عليه ونفوذها إلى نفسه، ولكنه صامت لا يقول شيئا ولا يأتي شيئا.

ثم يتصل حديث النبي مع أصحابه فينذر ويبشر، ويقرأ القرآن. وما كاد القوم يسمعون صوت النبي حتى تتحول إليه عن الفتى أبصارهم وقلوبهم، وإذا مصعب كأنه لم يدخل عليهم منذ حين، أعرضوا عنه ثم نسوه، ولكنه هو لا يستطيع أن يعرض عنهم ولا أن ينساهم، فهو يلحظ انصرافهم عنه، وإقبالهم على صاحبهم. ثم لا يلبث أن ينصرف معهم عن نفسه، ويقبل معهم على هذا البشير النذير، فيسمع ويعي، ثم ينهض فيدنو من النبي، ثم يبسط يده ويعلن دخوله في الدين الجديد.

2

Unknown page