Cala Hamish Sira

Taha Husayn d. 1392 AH
164

Cala Hamish Sira

على هامش السيرة

Genres

صحبته في سفره ذاك، ورأيته يتجشم مع أصحابه أهوال البر والبحر فارا بدينه من الفتنة، مؤثرا أن يعبد الله في دعة، وأن ينشر دينه في هدوء وسلم. ولقد أطال المقام، وأحب الغربة حتى ألفها أو كاد يألفها. ولكني كنت ألزمه وأهون عليه من مشقة الغربة ما قد يكون عليه عسيرا. حتى إذا أذن الله لنبيه في الهجرة، واستقرت أمور الإسلام في المدينة، وأظهر الله دينه على كثير من بيئات الشرك والكفر، جعلت أغري صديقي بالانتقال من غربة إلى غربة، والالتجاء من وطن جديد إلى وطن جديد؛ وما بلغت منه الرضا بذلك إلا حين استوثق من أنه لن يفارقني ولن يقصى عني، ولكنه سيظل مهاجرا.

سينتقل من هجرة الحبشة إلى هجرة المدينة حيث يستطيع أن يعبد الله آمنا راضيا مطمئنا في ظل ابن عمه وبين أصحابه وذوي قرابته، وحيث يستطيع أن يبلي في ذات الإسلام كما أبلى غيره من المسلمين، وأن يحتمل من أعباء الجهاد مثل ما احتملوا.

لقد صحبته مرتحلا إلى الحبشة، فصحبت مؤمنا يفر بإيمانه إلى الطمأنينة وفي نفسه حسرات. ولقد صحبته في عودته إلى المدينة، فصحبت مؤمنا يعود بإيمانه إلى مستقر الهدى ومشرق النور، وإن في قلبه لجذوة تضطرم شوقا إلى ابن عمه، وطموحا إلى الأخذ بحظه من أثقال الجهاد.»

ثم سكت الصوت الهادئ الحلو قليلا، ومضى الجدول يتغنى شكاته المتصلة، ومضى النسيم يداعب الجدول مترفقا به، ويحرك الأغصان في خفة، فيسمع لها وله حفيف وهفيف يمتزجان بشكاة الغدير، فيبعثان أنغاما عذبة، كأنما كانت صلاة حلوة على روح ذلك المهاجر الكريم.

ثم ارتفع الصوت الحلو في أناة وهو يقول: لقد رأيته حين بلغ المدينة وكان ابن عمه عائدا إليها، وقد فتح الله عليه ما فتح من حصون خيبر وثبت أمره، وأعلى كلمته، وإذا ابن عمه يلتزمه ويقبل بين عينيه ويقول: «ما أدري بأيهما أنا أشد فرحا: بفتح خيبر، أم بعودة جعفر.»

ولكن صحبتي له لم تنته، وإنما لزمته في مهاجره الجديد، ونعمت بلزومي إياه بما كنت أرى وبما كان الناس يرون من بره بالضعفاء، ورفقه بالمساكين، ورحمته للبائسين، وإيثاره أصحاب العوز على نفسه وعلى أهله، بما كان الله يتيح له ولهم من الكثير والقليل، حتى كناه ابن عمه بهذه الكنية الحلوة «أبي المساكين».

ثم صحبته إلى رحلته الكبرى، صحبته حين جهز النبي جيشه إلى مؤتة، وكان في نفسه شيء حين أمر ابن عمه عليه زيد بن حارثة. وقد كلم النبي في ذلك، فقال النبي له في صوت يملؤه الحب والحنان والإشفاق: «امضه فإنك لا تدري أي ذلك خير.»

لقد عرفت دخيلة نفسه، وسمعت نجوى ضميره بعد هذا الحديث إنما كان الشوق إلى حسن البلاء واحتمال أثقال الجهاد هو الذي دعاه إلى أن يعاتب النبي في تقديم زيد عليه. كان يؤثر زيدا والمسلمين، ويريد أن يقدم عليهم نفسه إلى المكروه. فلما رده النبي عن ذلك كانت نفسه تتأذى مخافة أن تظن به الأثرة، وما أراد إلا الإيثار. وكانت نفسه تتحرق شوقا إلى أن يلقى من الأذاة في سبيل الله مثل ما لقي زيد وأصحاب زيد. ولقد رأيته حين تقدم زيد فقاتل حتى قتل وآن له أن يأخذ الراية، وكان على فرس له. فينزل عن فرسه ويعقره ويكون أول عاقر في الإسلام، ويتقدم بالراية فيقاتل حتى تقطع يداه، وحتى تأخذه السيوف والرماح والسهام، وحتى يصرع كما كان يريد أن يصرع شهيدا. ولولا ما أنبأ النبي به مما صار إليه من نعمة الله عليه، لما تعزيت عن الحزن الذي ملأ نفسي لمصرعه. ولكن كيف السبيل إلى الحزن على الشهداء الذين لا يكادون يموتون حتى يردوا إلى الحياة وإذا هم أحياء عند ربهم يرزقون! كيف السبيل إلى الحزن على شهيد لم يدركه الموت حتى رفع إلى السماء، وأنبأ النبي بأن الله قد عوضه من يديه جناحين مخضوبين بالدماء يطير بهما في الجنة فيتبوأ منها حيث يشاء.

وكم من أحاديث لأولئك النفر من أصحاب محمد الذين هاجروا قبله والذين هاجروا معه، والذين هاجروا بعده، لو قصصتها عليك أيها الشيخ لمحوت من نفسك كل موجدة، ولنقيت قلبك من كل حفيظة، ولأقررت في نفسك أني أحق بحبك ومودتك!

قال الشيخ: «حسبك! فقد بلغت من ذلك ما تريدين.»

Unknown page