وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون * إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون . فيثوب إلى القلب الكريم ما فارقه من العفو، ويعود إلى النفس الكبيرة ما ند عنها من الصبر، ويكفر النبي عن يمينه، ويرد المسلمون إلى العفو والصبر والحلم والأناة، ويظهر الله رسوله وعباده على الذين قتلوا حمزة وأصحابه الشهداء ومثلوا بهم، فلا يلقون منهم إلا العفو والبر، وإلا الرحمة والعطف، وإلا المودة والإحسان. وكذلك يقوم أمر هذه الأمة على الصبر والمغفرة والصفح الجميل.»
ثم أطرق الشيخ إطراقة غير قصيرة، وأمعن في صمت عميق، وأمعن السمار مثله في صمت عميق أيضا، كأنما حضر مجلسهم روح قوي أخذ عليهم أمرهم واضطرهم إلى هذه التروية المتصلة التي قطعها الشيخ حين رفع رأسه وقال في صوته الهادئ الرزين: «نعم! رحم الله حمزة! لقد كانت حياته عنفا كلها، ولكنها لم تعقب إلا مودة ورحمة. أترون إلى أخته صفية وقد بلغها مصرعه العنيف، فأقبلت تسعى لتراه وتحمل ثوبين لتلفه فيهما، ويشفق رسول الله عليها من هذا المشهد، فيأمر ابنها الزبير أن يردها، ولكنها تأبى؛ فقد بلغها أنه صرع، وبلغها أنه مثل به، وقد رضيت بذلك واطمأنت إليه، فذلك في الله قليل. أخت عنيفة لأخ عنيف، عنيفة بنفسها قبل أن تعنف بالناس، ولكنها أخت رحيمة لأخ رحيم. أترون إليها وقد أقبلت فرأت أخاها، وتنظر فترى جهد المسلمين وفقرهم وعجزهم عن تكفين موتاهم، فترد عن أخيها أحد الثوبين ليكفن المسلمون به شهيدا من شهدائهم، وترضى لأخيها بعد أن صرع هذا المصرع ومثل به هذه المثلة أن يكفن في ثوب واحد لا يلف جسمه كله، إن ستر رأسه أظهر رجليه، وإن ستر رجليه أظهر رأسه. وإذا النبي يأمر بأن يستر الثوب رأسه وأن تغطى رجلاه بأوراق الشجر.
لقد كان حمزة عم النبي وأخاه في الرضاعة، وقد اجتمع مع النبي من جهتيه، من جهة أبيه ومن جهة أمه؛ فقد كانت أمه هالة بنت عم آمنة. ولقد كان النبي به رفيقا وعليه شفيقا وبولده برا. فأي عجب في أن يبلغ مصرع حمزة بالنبي
صلى الله عليه وسلم
طور الجزع الذي لم يألفه قلبه الكريم، فيغضب ويثور وينذر ويوعد، حتى إذا رده الله عن الغضب والثورة وعن الإيعاد والنذير عاد إلى المدينة وقد أقر الله في قلبه حزنا قويا مقيما، قوامه الرحمة والحب. يمر ببني عبد الأشهل، فيسمع بكاء النساء على شهداء الأنصار، فيقول هذه الكلمة البالغة التي لا أعرف أروع منها في تصوير الرحمة والحزن معا: لكن حمزة لا بواكي له!
وتبلغ هذه الكلمة آذان الأنصار وتنفذ إلى قلوبهم وتستقر فيها، وتملؤها حبا لحمزة وحزنا عليه، وإيثارا للنبي ومشاركة له فيما يجد، وإذا هم يأمرون نساءهم أن يذهبن إلى بيت النبي فيبكين عمه وأسده وصفيه وأخاه. وقد فعلن، وتلقاهن نساء النبي فبكين، ورضيت نفس النبي لذلك، وامتلأت له حنانا وودا. ولكن الله يأبى على نبيه وعلى عباده حتى هذا الإغراق في الحزن، وإذا النبي يصرف هؤلاء النساء رفيقا بهن داعيا لهن، فإذا أصبح صعد المنبر فنهى عن إعلان البكاء أشد ما يكون النهي. ولكن كلمته قد استقرت في نفوس الأنصار، وقد نفذت إلى قلوب الأنصاريات خاصة، وقد توارثنها وتوارثن التأثر بها، فما يموت من الأنصار أحد وما تبكي امرأة أنصارية على أحد إلا بدأت بحمزة فبكت عليه وذكرته بالخير، ثم ثنت بصاحبها فسفحت عليه دموع الحب والحزن. وما أرى إلا أن هذا سيظل دأب الأنصاريات إلى آخر الدهر. أترون إلى العنف كيف يعقب الرحمة، وإلى الشدة كيف تعقب اللين!
رحم الله حمزة! لقد كانت حياته كلها عنفا، ولقد أصبحت آثاره كلها رحمة ولينا. أتعرفون كيف أسلم حمزة؟ لقد أسلم إسلام الفتيان أولي البأس والشدة وذوي الحزم والقوة أولئك الذين يأنفون الضيم، ويأبون الخسف، ويغضبون للولي ويكرهون أن يؤخذوا بما لا يحبون. ولولا أن الله يكره مثل هذا التعبير لقلت إن إسلامه كان إسلام الحمية والحفيظة. غضب لابن أخيه غضبة عربية قرشية، وانتقم لابن أخيه انتقاما عربيا قرشيا، وسلك الله به إلى الإسلام أقرب الطرق وأدناها إلى قلبه القوي العنيف. كان فتى من فتيان قريش، فيه عنفها، وفيه شدتها، وفيه صلفها، وفيه أنفتها، وفيه حرصها، وفيه إيثارها لهذه اللذات التي يؤثرها أصحاب المروءة والرجولة الكاملة. كان صاحب صيد وقنص، يخرج للذته هذه من آخر الليل ويعود موفورا مبتهجا مع الضحى، فلا يلم بأهله حتى يذهب إلى المسجد، فيقف على أندية قريش مسلما متحدثا، ثم يطوف بالكعبة ثم ينصرف إلى داره وقد رضي عن نفسه وأرضى الناس عنها. وقد أقبل ذات يوم فأنبأته امرأة بنبأ عظيم تغيرت له حياته كلها. كانت هذه المرأة مولاة لعبد الله بن جدعان، وأكبر ظني أنها كانت صاحبة دعابة وغزل. وأكبر ظني أن أبا جهل حين وقف إليها إنما وقف مداعبا مغازلا طامعا منها في شيء مريب.
ويمر النبي
صلى الله عليه وسلم
فتمتلئ نفس أبي جهل غيظا لمرآه على ما كان يضمر له من بغض وقلى. وإنه لفي موقفه هذا المريب الذي لا يحسن بالأشراف من قريش إذ أخذ يؤذي النبي في نفسه بأشنع القول وأبشعه. ولكن الله قد أدب رسوله فأحسن تأديبه، أمره بأن يأخذ العفو ويأمر بالعرف ويعرض عن الجاهلين، فيمر بأبي جهل ويسمع منه وينصرف عنه معرضا كريما لا يجيبه ولا يلتفت إليه. ويقع هذا كله من نفس المرأة أشد المواقع وأبلغها. وأكبر ظني أنها صدفت بعد ذلك عن أبي جهل صدوفا وصرفته عن نفسها صرفا عنيفا. ومضى أبو جهل خزيان خجلا، حتى بلغ ناديا من أندية قريش فجلس مهموما مخذولا.
Unknown page